من خصائص مهنة الطب العلاقة التي تنمو بين الطبيب المعالج ومريضه والتي تتصف بالثقة المتبادلة والصراحة بينهما ، وفي اطارها يفضي المريض لطبيبه بمعلومات شخصية لا يبوح بها لغيره وتكتسب أهمية في تشخيص وعلاج ومتابعة حالته الصحية . ومن المبادئ الاخلاقية الاساسية لمهنة الطب ألا يقوم الطبيب متطوعاً بإفشاء هذه المعلومات وهو ما يشكل (قاعدة السرية المهنية). ولا يشترط أن يطلب المريض من الطبيب أو ينبهه لكتمان الاسرار التي أطلعه عليها بحسبان ان هذا من الواجبات السلوكية الضمنية للطبيب قبل أن تكون حقاً للمريض . ولاهمية (السرية المهنية) فقد ضمنت في قسم أبوقراط (وتعديلاته) الذي يؤديه الأطباء بعد تخرجهم وقبل مزاولتهم مهنة الطب حيث جاء فيه (كل ما يصل لعلمي خلال ممارستي لمهنتي مما يتوجب علي الأ أبوح به سأحتفظ به سراً لنفسي ولن أكشفه قط) . وفي السودان ضمن في القسم الذي يؤديه الأطباء الجدد امام المجلس الطبي السوداني (اقسم بالله العظيم أنني بقبولي اليوم عضواً عاملاً بمهنة الطب أقطع على نفسي عهداً مقدساً .. الأ أبوح بما يفضي الى أو أطلع عليه من أسرار عند مزاولتي المهنة) كما جاء في (قواعد السلوك المهني) الصادره عن المجلس والملزمة للأطباء (ألا يفشي متطوعاً لاية جهة أية معلومات يحصل عليها بطريق مباشر أو غير مباشر أثناء تعامله مهنياً مع المريض أو بعد وفاته حفاظاً على الثقة التي أولاها إياه المريض) . وقد وردت أيضاً في (وثيقة حقوق المرضى) الصادرة عن وزارة الصحة الاتحادية (ضمان سرية ملفك وضمان سرية أية معلومات عن حالتك وضمان عدم الاطلاع عليها خارج نطاق القائمين على تقديم الرعاية الصحية وعدم التصريح بها) . هذا اضافة الى ان محافظة الأطباء على أسرار المرضى تدخل دينياً في باب (الأمانة) فالطبيب بحكم مهنته (مؤتمن) على أسرار واعراض المرضى وقد جاء في وصف المؤمنين في القرآن الكريم (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . ومن الناحية القانونية تكتمل (قاعدة السرية المهنية) بتوفر ثلاثة أركان : - 1- ان تكون الواقعة (السر) قد وصلت الى علم الطبيب من خلال مباشرته المهنية مع المريض . 2- تأكد افشاء الطبيب لهذا السر بأية وسيلة كانت شفهية أو كتابية . 3- وجود مصلحة مادية أو معنوية للمريض في بقاء الواقعة سراً أي حصول ضرر عليه نتيجة لافشاء السر . علماً بأن وفاة المريض لا تعفي الطبيب من الالتزام بقاعدة السرية المهنية اذ ان الإذن بالافشاء خاص بالمريض ولا ينتقل لورثته بعد وفاته . اذا خالف الطبيب (قاعدة السرية المهنية) قد يتعرض للتالي : - 1- المساءلة أمام (لجنة السلوك المهني) بالمجلس الطبي السوداني ومحاسبته وتوقيع الجزاءات المنصوص عليها في قانون المجلس. 2- المساءلة أمام القضاء اذا طلب المريض تعويضاً عن اضرار مادية أو معنوية يعتقد أنها لحقت به من جراء إفشاء سره من قبل الطبيب . وهنالك بعض العوامل التي قد تحد من التطبيق المطلوب للسرية المهنية ومنها : - أن باقي أفراد الفريق الطبي من كوادر تمريض وفنيي مختبرات واشعة وغيرهم يحتاجون بالضرورة للاطلاع على الملف الطبي للمريض بغية المساهمة في رعايته ومتابعة حالته الصحية ، كما قد يحصلون على معلومات عن المريض من خلال وجودهم حوله . ورغم أن هذه الكوادر ملزمة أيضاً بالسرية بحكم مهنتها الا أن على الطبيب بوصفه قائداً للفريق الطبي أن يحثهم في هذا الاتجاه . - طلاب الطب والعلوم الصحية ايضاً قد يطلعون على بعض أسرار المرضى خلال مزاولة تدريبهم العملي في المستشفيات . والمؤمل ان يحافظوا على ما تعلموه عن اخلاقيات مهنة الطب خلال دراستهم الطبية كما على الأطباء أن يوجهونهم في هذا الصدد وأن يكونوا قدوة لهم . - الاختراق الالكتروني لملفات المرضى في المستشفيات وعيادات الأطباء الخاصة وحتى البطاقات الصحية الذكية . وقد اصبح هذا الأمر هاجساً عالمياً خاصة بسبب التوسع في التأمين الطبي الخاص على المرض والحياة وقضايا تعويضات المرضى في ظل تطور القدرات التقنية ل (الهاكرز). وهنالك استثناءات من (قاعدة السرية المهنية) تشمل : - 1- موافقة المريض نفسه (صاحب السر) أو وكيله الشرعي أو مستشاره القانوني حيث ان الأذن بالإفشاء يرفع الواجب بالكتمان . 2- اذا كان المريض "فاقد الاهلية" (قاصراً ، مختلاً عقلياً ، فاقداً للوعي) فقد تستدعي رعايته الصحية أن يناقش الطبيب ما يتصل بهذه الرعاية مع آخرين ، ولكن على الطبيب أن يقصر ذلك على ولي أمر المريض أو اذا دعت الضرورة على المرافق له . 3- اذا تطلبت مصلحة الطبيب الافشاء مثلاً عندما يقاضي مريضاً لرفضه دفع اتعاب علاجه أو خلال دفاعه عن نفسه أمام المجلس الطبي أو القضاء حيال اتهام باهمال او تقصير أو خطأ طبي أو مخالفة لسلوك مهني . 4- اذا استند الافشاء على مصلحة راجحه للمجتمع أو رفع ضرر عنه . هنا يكون الطبيب مواجهاً بتعارض بين واجبه نحو مريضه وواجبه نحو المجتمع . مثلاً اذا وجد احد مرضاه مصاباً بمرض معدٍ وهو يعمل في مهنة (فندق ، مطعم) تشكل خطورة على آخرين ، أو مصاباً بنوبات صرع وهو يعمل سائقاً لمركبة عامة مما يعرض الركاب وآخرين للخطر . على الطبيب في مثل هذه الحالات أولاً اقناع المريض بترك عمله هذا حتى يتعافى من مرضه لكن اذا رفض فعلى الطبيب ان يبلغ عن ذلك شريطة ان يقتصر الابلاغ على الجهة الرسمية ذات الاختصاص . 5- اذا كان الافشاء بطلب من السلطة القضائية . هنا يكون الطبيب مواجهاً ايضاً بتعارض بين واجبه نحو مريضه وواجبه كمواطن في تحقيق العدالة . ولكن بما ان الطبيب لا يتمتع بحصانة ضد الافشاء امام المحكمة فعليه إما ان يستجيب لطلبها أو يكون مستعداً لتحمل تبعات عدم استجابته والتي قد تشمل عقوبة السجن أو الغرامة أو كليهما . ونشير انه ليس هنالك ما يلزم الطبيب قانوناً بالافصاح للجهات ذات الصلة عن الحالات التالية:- - الحمل غير الشرعي : الا اذا كانت المرأة الحبلى فاقدة الاهلية (قاصرة ، مختلة العقل ، فاقدة الوعي المزمن لأي سبب) ففي هذه المواقف يعلم الطبيب ان اتصالاً جنسياً غير مشروع قانوناً قد تم مما يلزمه الابلاغ عنه . ولكن قد يكون الأفضل له ان يبلغ هذا الامر لولي أمر المرأة الحبلى كي يقوم هو بالابلاغ . - الاجهاض غير العلاجي : الا اذا وجد الطبيب امرأة متوفية أو توفيت في وقت لاحق جراء مضاعفات اجهاض غير علاجي فعليه حينئذ إبلاغ الجهات المختصة . - محاولة الانتحار . - حادث غير جنائي – الا اذا كان خطراً يحتمل ان يفضي للوفاة . - الامراض التناسلية خاصة الايدز – الا اذا كان ذلك بامر من السلطة القضائية (مثلاً لطلب الزوجة الطلاق) ، أو تاكد للطبيب بعد مناقشته للمريض انه لن يخطر زوجته كي يتم الكشف عليها بغية علاجها ان كانت قد التقطت المرض فعلاً أو اعلامها باجراءات السلامة ان لم تكن مصابة به ، وعلى الطبيب ان يسعى لموافقة المريض على الإفشاء ولكن ان لم يستجب فان خطورة هذا المرض تبرر للطبيب اخطار الزوجة . ختاماً اذا وجد الطبيب نفسه في موقف شق عليه اتخاذ قرار فيه بالافشاء او عدمه فيمكنه اتخاذ الخطوات التالية : - - يوازن بين الضرر الناتج عن الافشاء وعدم الافشاء ويختار اخف الضررين . - اذا اختار الافشاء فيسعى ما امكن لاقناع المريض بذلك . - اذا تعذر ذلك وقرر الطبيب الافشاء فعليه ان يفشي فقط ما هو مطلوب لمنع الضرر وان يقصر الافشاء على ولي أمر المريض . - يمكن للطبيب ان يستشير (في سرية) احد زملائه من كبار الأطباء ذوي الخبرة أو المختصين في المجلس الطبي السوداني أو المستشار القانوني للمؤسسة الصحية التي يعمل بها .