** قبل الاستقلال، ثم بعده حتى عهد النميري، كانت الإدارة الأهلية ذات سطوة في المجتمع، وكان لملوك الديار النوبية طرائق تفكير ذكية يعرفون بها مقامات أهل المنطقة فرداً فرداً..ومن تلك الطرائق، كان يذهب الملك الى مركز القرى، حيث مقر العمدة، ويجلس على كراسي الصالون الوثيرة ثم يطلب اللقاء بأهل المنطقة، ويتوافدون إليه شيباً وشباباً..يدخل الأعلى مقاماً الى الصالون مباشرة ويجلس على الكرسي المجاور لكرسي الملك والعمدة، ثم يدخل أوسطهم مقاماً الى الصالون ويجلس على السجادة وليس على الكرسي، ثم تأتي البقية ولا تدخل الى الصالون، بل تبعد أحذية الكبار التى أمام الصالون قليلاً وتجلس في مكانها، وهناك من كان يجلس على الأحذية ذاتها..وكان كل هذا الترتيب يحدث لا إرادياً، أي بلا توجيه من الملك والعمدة..فيتفرس الملك والعمدة كل الوجوه ويحددان مقامات الناس حسب أماكن جلوسهم، ثم بعد ذلك يوزعان نهج التقريب والتهميش في المنطقة، بلا أي وازع ديني أو أخلاقي..!! ** أها، يلا ندخل الى هامش الموضوع، ولست مسؤولاً إن وجدت مشاهد تلك المقامات في ثنايا الموضوع..أرشيف الزاوية يضج بمشاهد تعكس مقامات القضايا وشخوصها في ناظري العدالة، ومنها على سبيل المثال :..قبل كذا سنة، تساجل المتعافي والكودة حول موقف مواصلات الخرطوم والمسمى إعلامياً بموقف كركر، وكان سجالهما حول شبهة فساد طالت عطاء هذا الموقف، وتم تشكيل لجنة تحقيق، ليس للتحقيق مع المتعافي والكودة، بل لتحقق مع المدير التنفيذي للمحلية وبعض صغار الأفندية، وعملاً بأحكام مادة ما بقانون الخدمة العامة تم إيقاف المدير التنفيذي بالمحلية عن العمل، واسمه صلاح التهامي، وظل واقفاً عن العمل عاماً تلو الآخر تلو الثالث حتى تقاعد للمعاش قبل شهر ونيف، نعم منذ عام الإيقاف ذاك لم يتم رفع الحظر عن هذا المدير التنفيذي بحيث يعود الى عمله - رغم أن لجنة التحقيق برأته تماماً - الى أن تقاعد للمعاش..ثم قبل أشهر، كتبت الصحف عن حال مراكز التدريب المهني التي شيدها التمويل الأوربي، وقالت إنها على وشك الانهيار وأنها بحاجة الى مناهج وكتب وشهادات معتمدة وأشياء أخرى، وصرح بعض العاملين بتلك المراكز للصحف مؤكدين بؤس الحال، فتم تشكيل لجنة تحقيق لا لتحقق في حال المراكز والمسؤولين عن ذاك الحال، بل لتحقق مع الذين صرحوا للصحف، وعملاً بأحكام مادة قانون الخدمة العامة تم إيقاف هؤلاء الضعفاء عن العمل لحين اكتمال التحري، وكان منهم مساعد المدير العام للشؤون المالية والإدارية بمركز الخرطومجنوب، وبعد اكتمال التحري وفترة الإيقاف تم إبعاد هذا المساعد عن المركز نهائياً..!! ** و..عفواً، لو استرسلت في عرض ما يحدث لضعفاء الخدمة المدنية - من إيقاف وإبعاد - من جراء مادة ( يوقف عن العمل لحين انتهاء التحقيق)، لن تسع كل صفحات هذه الصحيفة النماذج والمشاهد والشخوص..ربما آخرهم مدير عام مستشفى الخرطوم، لقد تم تنفيذ تلك المادة فيه بالحرف الواحد، رغم أن وقائع الملفات التي تحقق فيها لجنة التحقيق تعود الى عهد المدير السابق للمستشفى والوكيل السابق بالوزارة الاتحادية، ومع ذلك تم إيقاف المدير الحالي، ربما لحين اكتمال التحري والتحقيق مع السابقين الوالغين في تلك الملفات، وربما يتواصل الإيقاف عاماً ثم يتم نفيه الى مرفق آخر، أو يتواصل الإيقاف لحين التقاعد للمعاش، إذ تلك المادة صارت بمثابة مقص يقصون بها كل ضعيف غير مرغوب فيه..علماً بأنها مادة قانونية جديرة بالاحترام والتنفيذ، ونعم يجب إيقاف العامل عن العمل لحين اكتمال التحري والتحقيق في أية قضية يكون العامل طرفا فيها، ولكن المؤسف هو أن تقبل تلك المادة أصبحت القسمة على اثنين، أي إذا كان العامل ضعيفاً يتم تنفيذ المادة فيه نصاً وروحاً، أما إذا كان العامل نافذاً كما مدير عام البنك الزراعي فلا يسمع بتلك المادة ..نعم هنا مربط فرس الزاوية، مساواة الناس أمام أي مادة وأي قانون..!! ** على سبيل المثال، المدير العام للبنك الزراعي متهم في قضية تقاوي زهرة الشمس، والقضية تجاوزت مراحل لجان التحقيق والنيابات ودخلت الى سوح التقاضي وجلساتها القضائية، جلسة تلو الأخرى..ومع ذلك لا يزال هذا المدير يذهب الى مكتبه صباحاً ويمارس عمله بكل أريحية، وعند الثالثة عصراً يذهب الى المحكمة ويدلي بأقواله من قفص الاتهام، ومثل هذا لا يحدث إلا في السودان..نعم المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولكن قانون العمل يلزم العامل بالتوقف عن العمل فقط لحين اكتمال تحري وتحقيق لجنة تحقيق، ناهيكم عن (محكمة)..وعليه، نسأل أي محامي شاطر سؤالاً من شاكلة : كيف نجحت تلك المادة في إيقاف مدير تنفيذي بمحلية الخرطوم عن العمل - رغم البراءة - عاماً تلو الآخر تلو الثالث حتى تقاعد للمعاش، ثم تفشل في إيقاف مدير عام البنك الزراعي رغم أنه في قفص الاتهام أمام القاضي ؟..هل تلك المادة ملزمة لجميع العاملين بالدولة، أم هي - كما نهج الملك والعمدة - توزع نهج التقريب والتهميش حسب مقامات العاملين وأماكن جلوسهم ؟.. يلا نسمع، واللهم زدنا علماً و.. (صبراً) ..!!