انها مدينة مزدانة بالاشجار ودافئة بنفس النيل الممتزج بعطر اشجار الليمون وعرق المزارعين الذين يشقون الارض منذ الصباح وحتى تغيب الشمس، ويحضنون بأعينهم قبل النيل ذرات هذه الارض التي دخلتها الحداثة بمقبل دخول العربات الخاصة التي غيرت الطبيعة بنثر الكثير من الغبار، ولكن ذكريات الشيوخ عنها ما زالت حية عندما يقولون من هنا تعلم الفنان محمد عبدالعزيز داؤد ومحجوب عثمان عزف العود على ساحلها الرملي، انها ما زالت كما هي تلهم وتحفز وتعطي سواء من خير الارض أم رسم الكلمات لحاناً ولوحات. عرض اول في كل مرة تتاح لي فرصة الدخول الى هذه الجزيرة تتشابه عليّ المباني والطرقات وفي كل مرة ادخل بشارع وارجع بآخر اجد نفسي بمنطقة، تحمل ذات الملامح الا انها ليست نفس المكان، وهذه المرة دخلتها ايضاً مساءً، ولكن الحداثة التي نتجت من تواصل الجسر انه نزع الخوف من القادمين اليها لقد سهلت حركة المواصلات الدخول والخروج في اي وقت، لقد اقيم بمسرح نادي توتي الرياضي مساء الجمعة الماضية فعاليات اسبوع الفيلم المصور للحفلات والليالي للجالية السودانية بمسقط خلال العقدين الاخيرين للفترة من العام 2000م وحتى العام الماضي على شاشة بلازما والتي استمرت حتى مساء الاربعاء، وهي فرصة اتاحت لعدد من الاجيال الثقافية في العهد الذهبي أن تلتقي بأجيال الحاضر التي تتلمس خطواتها الثقافية تحت رعايتهم عبر التواصل، وبالفعل كانت العروض متفاوتة وإن استقطبت العديد من المشاهدين عندما خصصت ليلة لكل من الفنان خضر بشير والاستاذ عبدالكريم الكابلي بمناسبة تعيينه سفيراً للنوايا الحسنة ومحاضرة للفنان حمد الريح، كما عرض حفل صعود فريق توتي الرياضي للدرجة الاولى الذي اقامه النادي في يونيو 2000م. ولكن ليلة الاثنين كانت مميزة عندما تم عرض فكرة وسيناريو فيلم الدكتور النور الكارس الوثائقي لاول مرة قبل عرضه بالتلفزيون القومي او احدى المحطات الفضائية الخاصة الذي يحمل اسم (توتي درة النيل) ومن تصوير ومونتاج الاستاذ الفاتح عبدالعظيم، وهو يعد الفلم الثالث للنور ويتناول طبيعة الحياة الساحرة على جزيرة توتي، وان كانت اللفتة البارعة التي تميز بها الفيلم هنا هي ترصده للحدث الاول من نوعه الذي يمر بالجزيرة وغير جغرافيتها تماماً وهو ربط الجزيرة بالخرطوم عبر الجسر الذي يتناول الفيلم مستقبل الجزيرة عبره والحداثة التي اكتملت به عبر دخول آليات الزراعة والعربات الخاصة والحركة التي اصبحت اسهل، وان لم تنكر عدسة المصور أن الجزيرة ما زالت محمية بعاداتها وتقاليدها العتيقة التي حفظت تاريخها ونمط حياتها الذي لم يتغير منذ آلاف السنين، الا أن لقطة تور المحراث ودخول التركتور امسكت بالهدف. إن الماضي والمستقبل يضعان ايديهما في بعض ويسيران جنباً الى جنب بدون أن يزدري احدهما الآخر، وهي كانت بمثابة التصالح الذي يعيشه المجتمع الذي بينت مراقبة الكارس له وتخزينه في لحظات. إن الجزيرة تتمتع بسحر خاص في تكوينها وخاصة في ازقتها الضيقة التي لا يمكن أن يطلق عليها شوارع، وهي كانت وضعا طبيعيا لاسر قصدت أن تعيش في بيت واحد استعصت معه حلول التخطيط أن تفك وشاجه. انها ارادة جدود وحبوبات ارادوا أن يعيش احفادهم ويتمتعوا بحياة اسرية عميقة كما كان الرعيل الاول وان تستمر الى أن يرث الله الارض. ويؤكد دكتور النور أن اللحظات الجميلة التي تمتع بها فريق العمل طوال عام كامل اثناء التصوير خاصة عند رصده مراحل تشييد الجسر، كانت كل منازل توتي تحفهم بالكرم وحفاوة الترحيب بينهم، وهذه اثرت ايضاً جو العمل الذي اقتبس صورة حية ما زالت تعيش بيننا حتى الآن. آثار توتي منبع دهشتي دائماً من هذه الجزيرة أن من يحكي عنها كأنه يتكلم عن قارة واقاليم وقبائل وعائلات واسر، وان كانت بالواقع هي اقل من حجم القصة التي تروى عنها بحب الا أن رؤية الجزيرة كما يراها اهلها عنها اجمل وهي كبيرة وعامرة بحكايات عن التاريخ ويتمثل ذلك في الطابية الغربية، والمسجد الكبير وبيت المحكمة القروية وترس فيضان عام 46، وكذلك ترس فيضان عام 88 الذي اصبح الآن امتدادا سكنيا جديدا للجزيرة التي كبر الصغار فيها وتزوجوا وانجبوا واستقلوا بمنازلهم الخاصة الا انهم لم يتركوا مرتع الصبا ولم يغادروها، لهذا نجد البيوت حيشانها واسعة وحدائقها جميلة ولكن الطريق المؤدي اليها ضيق لا يكاد اثنان يعبران منه معاً وهما كتف لكتف، ولكن بالرغم من ذلك الاهالي سعيدون بجزيرتهم التي يفتخرون بها ويؤكدون أن الحياة بها اسهل واجمل وهم طوروا ونموا الممكن فيها وسوف يحافظ على التراث والثقافة الخاصة بها، لأنها امانة الأجداد ورئة الخرطوم وستكون بمقبل الايام ملتقى العاصمة المثلثة بعد أن يربطها جسر بجهة بحري وام درمان ايضاً. كما اجد أن اجمل الزيارات لي بهذه البقعة كانت عندما التقيت بوالدة الاستاذ عبد التواب مصطفى خالد زوجة زعيم ثورة توتي في العام 1944م، لقد وجدتها امرة قوية ومتماسكة وتتمتع بذاكرة حديدية رحمها الله، كما قابلت اسرة شاعر منلوج القروية، واتيحت لي هذه المرة أن التقي بالشيخ ابراهيم عباس حاج عمر الذي ولد في العام 1917م في حوش الفكي وحفظ القرآن بالروايات السبع وهو في سن السابعة من عمره، على يد الشيخ محي الدين والفكي ادريس بجامع الشكرتاب، وجوده فيما بعد بخلاوي ام ضوبان، وهو له عادة أن يعتمر كل عام في شهر رمضان لم تنقطع منذ السبعينيات، وكان يحرص بالمدينةالمنورة أن يعد حلقة للمدارسة مع حفظة القرآن الكريم الى أن وصل لمرتبة شيخ فيها وهي تضم العديد من مختلف الاجناس، ولكن بعد 2006م ونسبة لعامل السن ولتعرضه لوعكة صحية لم يستطع السفر بعد ذلك، كما انه كان يمثل مع الشيخ ابراهيم النور احد المشرفين على تصحيح مصحف افريقيا بالمركز الافريقي على رواية الدوري، والشيخ ابراهيم الآن نسي جزءا كبيرا من تفاصيل حياته التي عاشها بالجزيرة ولم يغادرها الا لزيارة بيت الله الحرام، الا انه لم ينس القرآن الكريم الذي يحفظه عن ظهر قلب، وهو يحرص مع طلابه أن يُقرأ له ويصحح لهم، ولقد شهدت بنفسي كيف ينصت ويردد وراء تلاوة الاستاذ عبدالمنعم بركات الذي كان يقرأ وهو يصحح له، لقد كان له سابقاً طلاب عندما كانت حلقته بجامع توتي الكبير التي اتسعت واصبحت تحمل اسمه الآن، وهو يعد مرجعاً قرآنياً للعديد من الدول الاسلامية، وله طلاب من الحركة الاسلامية اصبحوا الآن وزراء. سحر الليل هذه الليالي الثقافية بجزيرة توتي اتاحت للعديد من الذين تابعوها طبعاً اقصد القادمين من خارج الجزيرة أن يتمتعوا بهداوة الليل وسحره، لأن اصوات بوابير المياه التي تسقي الحيضان والتي اختلطت مع مكبرات الصوات كان لها نغم مختلف لا يحسه الا اهل الريف الذي يعرفون صوت اللستر ونترته التي يعرف بها بابور كل حقل وصاحبه، بالفعل توتي قرية خلال طبيعتها الزراعية قرية، الا انها تعيش في قلب الخرطوم وهي مداخلة لا يمكن الفكاك بين رحاها (القرية المدينة) وهي نظرة تحاول اللجنة العليا لتطوير توتي أن تؤسس بها حاضر الجزيرة اذ لا يمكن أن تعتبر قرية بعد كل الحداثة التي تمور بداخلها، وهي نموذج هادئ ووديع لنقاوة الطبيعة لا تبعد خطوات عن شاطئ الخرطوم وام درمان وبحري ولكنها تمتاز بأنها درة في حضن النيل وهي ميزة لم تكن ابداً من خصال العاصمة المثلثة.