سلطان الشعر الرومانسي مبارك عثمان الخليفة هنالك كثير من المواهب في الأدب والشعر والغناء وشتى ضروب المعرفة تظل مغمورة لعدة أسباب منها عدم تمكنها من الوصول للناس ولإحجام وسائط الإعلام عن تسليط الضوء عليها ولعزوف طبيعي داخل تلك المواهب عن بؤرة الضوء والاكتفاء بالظهور في المجالس الخاصة والاكتفاء بنخبة من الأصدقاء قانعين بتشجيعهم المحدود. ومن تلك الشخصيات إبراهيم عوض بشير سلطان الشعر الرومانسي في السودان الذي خرج من عباءة أبي ماضي والشابي والأخطل الصغير وفيه من نفس إبراهيم ناجي وعلي محمود طه والتجاني يوسف بشير، إبراهيم عوض بشير الذي ولد في حوالي 1925م في مدينة القضارف عروس الشرق التي تنام في أحضان التلال الممتدة إلى الهضبة الإثيوبية .. عاصمة البطانة الحالمة التي رتع في مرابعها وسوقها شاعرنا الحاردلو وأحمد عوض الكريم والصادق ود آمنة وغيرهم من فحول الشعراء .. وقد عاش إبراهيم يفاعته وعنفوان شبابه وهو يرفل في حلل النعيم وأبوه عوض بشير سر تجار القضارف المزارع والتاجر والمحسن الكبير في أسرة لم يبطرها الغنى ولمن تصعّر خدها للناس فقد كانت بطبيعتها السمحة قريبة من الناس معهم في السراء والضراء يميز هذه الأسرة الكريمة البساطة والبشاشة وطلاقة الوجه وكان أي من أبنائها يشيع جواً من المرح والعفوية والسماحة لذلك عاشوا بلا أعداء الى يوم الناس هذا ... هي أسرة تنتمي الى الجعليين الذين وفدوا الى القضارف منذ زمان بعيد وهي أسرة متحضرة كان حوشهم الكبير يعتبر جزءا من السوق الكبير حيث الحركة والضجيج .. فقد اقتصرت أطراف سوق القضارف من ناحية الشمال ومنذ زمن على سكن سُراة القوم من الهنود والإغريق وسراة القوم من السودانيين كان ذلك الحي يجمع بين كيكوس الإغريقي وشانتلال الهندي ووديع القبطي وحاج علي الكردي وحسن مصطفى وعوض السيد جابر وغيرهم من أغنياء ذلك الزمن الجميل الذين في مالهم حق معلوم للمساكين ولخدمات المدينة من التعليم والمياه والصحة وغيرها.. نضّر الله تلك الايام .. في هذا الجو المفعم بدفء الأسرة وحميمية الجوار نشأ شاعرنا ابراهيم والتحق بخلوة الفكي حاج عثمان وبعد إكمالها التحق بالمدرسة الأولية الأم التي أنشئت في عام 1908م وتخرج فيها عشرات الآلاف من النوابغ والعلماء وقد تفتحت موهبة شاعرنا مبكراً من المدرسة الأولية حيث كان يحفظ عيون الشعر العربي ويلحن الأناشيد المدرسية هذا حينما كانت المدارس الأولية صروحاً بازخة العطاء في العلم والعمل والنشاطات المختلفة .. بعد إكمال ابراهيم المدرسة الأولية بعثه والده الى الخرطوم ليلتحق بالكلية القبطية وهي من المدارس الراقية في منهجها وفي منشطها. وفي الكلية القبطية تفتحت أعين شاعرنا على العاصمة وجمالها وشوارعها النظيفة في وقت كانت فيه الخرطوم من أجمل عواصم العالم العربي قاطبة.. وكانت فيها دور السينما والمكتبات والمطاعم النظيفة والأسواق الراقية وكانت العاصمة في ذلك الوقت هي التي تقرأ بين العواصم كما كانوا يطلقون مقولة: القاهرة تؤلف وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ .. تخرج ابراهيم من مدرسة التجارة والتحق مدرساً بمدينة كسلا ثم عمل بمركز القضارف إدارياًَ وكان وهو في بواكير شبابه يراسل الصحف تحت اسم كسلاوي مثل محمد عثمان محمد صالح الذي كان يكتب تحت اسم "كجراي" أسماء لتمويه رقابة المستعمر في ذلك الزمن ولكن يبدو أن أمر الأستاذ ابراهيم انكشف وعرف المستعمر اسمه الحركي (كسلاوي) فتم إيقافه وتحجيمه .. وقد كان في القضارف في ذلك الزمن نادي الموظفين الذي تأسس في عام 1924م وكان مكان التقاء السياسيين وأهل الخدمة المدنية والمعلمين والمثقفين فكان بؤرة لتلاقح الأفكار والندوات الأدبية والثقافية ومنتدى عامرا بالوطنية والثقافية وتبادل الرأي .. زد على ذلك وجود مكتبة الإثيوبي المثقف حنا تسفاي الذي كان يجلب الصحف والكتب والمجلات من مصر وبيروت فيقرأها مثقفو ذلك الزمن وهي حارة يلفح حبرها الأنوف . ويبدو أن كل هذا العطاء لمدينة القضارف قد اختزلته أغنية الرائعة الفلاتية في السمسم والعيش وان الزول صغير ما عارف! رطب الله قبر عائشة الفلاتية بالندى. كان شاعرنا الراحل ابراهيم علاوة على أنه شاعر فذ يتمتع بصوت غاية في العذوبة وملحناً من الطراز الفريد ولكن اقتصرت بدائعه في هذا الفن على مجالس الأصدقاء والمعارف وأولهم صديقه عبد الكريم الكابلي الفتى الموهوب في ذلك الوقت والمعروف أن ابراهيم عوض بشير هو أول من أدخل آلة العود الى مدينة القضارف وكان أثر ذلك كبيراً على صديقه كابلي الذي انتقل من عزف "الصُفاّرة" الأبنوس الى تعلم العود وامتدت هذه الحميمية إلى وفاة شاعرنا الكبير .. وابراهيم من أوائل الذين ابتدعوا الإنشاد الشعري لعيون القصائد الخُرّد من الشعر فله تسجيل انشاد شعري لقصيدة (داوي ناري) لابراهيم ناجي وأظنها في ارشيف الإذاعة وهو الذي أوحى للراحل زيدان بتلحين هذه القصيدة الجميلة لإبراهيم ناجي .. وفي روايات كثيرة ينسبون إليه تلحين قصيدة علي محمود طه المهندس) الجندول) الذي تغنى بها هو أولاً في مسامراته ثم تغنى بها الكابلي بعد ذلك وأعطاها بُعدا جمالياً رومانسياًَ بديعاً .. أما نشاطه الإعلامي فقد اقتصر على مجاله في اختيار روائع القصائد التي كان ينشد بعضها ويغني بعضها في برنامجه "من قصائد الشعر العربي" الذي كان يلتف للاستماع والاستمتاع به طلائع المثقفين والشعراء وعامة الناس وقد كان منزله العامر بالقضارف حين يأتيها زيارة منتدى أدبيا وفنيا جامعا يترقبه الأصدقاء والأحباب. وكانت للراحل ميول صحفية ظاهرة فالصحافة في ذلك الزمن هي منبر التعبير للشجون الوطنية والاستعمار جاثم بكلكله على البلاد زد على ذلك أن القضارف هي مهد رواد الصحافة من العصاميين أمثال الريفي وعبد الله رجب والسلمابي وعوض برير وحسب الله الحاج يوسف وأحمد طيفور وغيرهم وكان لقربه من الأستاذ عبد الله رجب أثره كذلك فقد كان عبد الله رجب هو القائم على حسابات وأعمال عوض بشير والد الشاعر لذلك حينما أصابت عدوى الصحافة شاعرنا احتضنه الأستاذ عبد الله رجب وعينه محرراً بجريدته الذائعة الصيت "الصراحة" لسان حال الأهالي الغُبش كما كان يطلق عليها صاحبها له الرحمة والمغفرة .. ولأن قلم ابراهيم حر فقد تنقل في عدة صحف من العلم إلى الرأي العام.. ثم انتقل ابراهيم إلى مجلة "هنا أم درمان" "الإذاعة والتلفزيون" لاحقاً فكان من أعمدتها الأساسية وكانت له أبواب ثابتة مثل بابه الناجح "براعم الأدب" التي رعى فيها المواهب الشابة منهم من يشار إليه بالبنان في يومنا هذا .. واشتهر كذلك بتحقيقاته المميزة في مجلة "هنا أم درمان" التي كان ينتظرها القراء أسبوعياً على أحر من الجمر .. ونحن نهم بأن نطوي صحائفنا بعد هذه السياحة الموجزة عن ابن القضارف العبقري ابراهيم عوض بشير.. لا يمكن ان نغادر ذكرى هذا الرجل الكبير دون الإشارة الى شعره الذي حُرم منه الناس لظروف ولكن بإذن الله سوف يصدر له ديوان بواسطة إخوانه. هذه قصيدة قالها إبان مذبحة توريت 1955م : أشعلوا في ربا الجنوب سعيرا واستباحوا التقتيل والتدميرا واستبدت رماحهم بنفوس هاجرت رحمة لهم وبشيرا وأقامت رغم الظلام لتبني للغد الحر عالماً موفورا إلى أن يقول: إخوتي في الجنوب والطرف باك أنتم اليوم توغرون الصدورا وتكنون للشمال عداء صارخاً قد أثار منا الشعورا وأظن الآن قد بان استشراف الشاعر المرهف وبدأ حقد الجنوب على إخوتهم في الشمال. وهذه مقتطفات من قصيدته سلمى التي لحنها هو وغناها الفنان الكابلي رفيق صباه الذي غنى له ايضا (مسرح الآرام) أنا أبكيك للذكرى ويجري مدمعي شعرا أنا أبكيك للماضي وللعهد الذي ولى وللألحان مرسلة تصوغ الفن والسحرا وللأزهار في الوادي حيارى ترقب الفجرا لقد هيج آلامي حنين المزهر الباكي وصمت الليل أشجاني فهل سلمايّ أشجاك وهل صور ماضينا وهل ردد ذكراك وتذوق عذوبة الرومانسية في قصيدته " بعض ساعة": هي كالغصن إن تهادت *** وكالطفل صفاءً ورقة ووداعة كم عشقت الحياء في مقلتيها *** حينما يسكب الحياء شعاعه استظلت مشاعري تحت هدبيها*** وقرت بلابلي بعد ساعة وفي قصيدته عفو الخاطر يناجي: وسكبت في عينيك آهاتي وذوب مشاعري وسعدت يوم لقاك يا حبي ونجوى خاطري كل الذي أرجوه منك وأنت ملء محاجري قلباً عطوفاً حانياً ورسالة لمسافر هذه أحبتي نبذة عن هذا الشاعر الرقيق والصحفي المبدع والفنان المرهف ابن القضارف ابراهيم عوض بشير الذي يحق لنا أن نكرمه ونحتفي به فهو من مبدعي هذا الوطن الكبير .. ظلل الله قبره بالغمام وحبات الندى فقد لاقى ربه بالثورة التي انتقل إليها بعد تنقله من ودنو باوي والموردة وكانت وفاته في عام 2004م له المغفرة وجعل العقبى في ذريته.