حقوق الإنسان: مقاربة المرتكزات الفكرية (2-3) أكثر ما نورده من غربة ضاربة فى مفهوم حقوق الإنسان تلك الاختلافات في المعانى اللغوية والسياقات المعرفية والصياغات المفهومية. فاللغة مكتوبة أو منطوقة هي التي تقودنا الى إدراك معانى المفردات والكلمات والحروف، كذلك هى الأصل فى كثير من نظريات المعرفة التى يطلق عليها فى الفلسفة الغربية الأبستمولوجيا. لذلك تصبح المعاني غائرة فى العتمة، ويصبح التطبيق نمطياً دون معرفة النسق اللغوي والتاريخي والمعرفي والمفهومي لحقوق الانسان. على سبيل المثال لا تقود المفردة (حقوق) فى اللغة العربية الى ذات المعنى الذى تقود إليه كلمة (Rights) فى اللغة الانجليزية. تكمن المسألة معرفياً (ابستمولوجياً) فى الاختلافات البائنة بين العقلين العربي والغربي، تلك مسألة قديمة ومتجزرة فى الاختلافات الحضارية والثقافية والسياقات الفكرية والمفاهيم والمعاني لدى الأمم والشعوب. فعندما يفكر العقل الأوربي فى الكلمة Rights هو أيضاً يفكر فى (الأشياء الصحيحة) من منظور الفرد، والأشياء الواقعية، بالتالي هناك أشياء غير صحيحة، غير حقيقية. لكن عندما يفكر العقل غير الغربي فى المفردة (حقوق) فهو ينسبها الى الحق وعلاقة كل ذلك بالقيم والعادات والتقاليد المجتمعية والدين. والجملة حقوق إنسان فى اللغة العربية مكونة من مفردتين هما (حقوق) و(انسان) بالتالي تقودنا اللغة العربية الى البحث الدائم للإنسان عن حقه منذ أن خلقة الله تعالى فى الأرض. كذلك يفكر العقل العربي بصيغة (نحن)، وهو حق الجماعة. يحدثنا الفيلسوف الياباني تسجاي ياماموتا فى حديثه عن المرتكزات الفلسفية للتحولات الاجتماعية وكذلك بعض علماء الانثروبولوجيا وفلاسفة المجتمع عن التصادم بين طبيعة التفكير على صيغة الفرد لدى العقل الغربي والاوربي والتفكير فى (صيغة نحن) لدى العديد من المجتمعات غير الأوربية مثل العالم العربي وأفريقيا. بالطبع هذا هو أساس ما أسميه (مواجهة التصورات) هذا يتنافى مع مفهوم (التعدد التمثيلي) المبني على كلمة Plural Representation التى تقوم عليها حيادية المفوضيات القومية لحقوق الإنسان كما هو فى مبادئي باريس. فمسألة التعدد التمثيلي تعني وجود ثلاث عناصر مختلفة فى نسق واحد وهي (التعدد، التنوع، والاختلاف). لكن تظل مفردات التعدد والتنوع والاختلاف ذات سياقات أخرى فى العقل غير الاوربي عامة والعقل العربي والافريقي أكثر خصوصية. على سبيل المثال تشير كافة نظريات النزاعات الى ما يعانيه السودانيون من فشل فى إدارة التعدد والتنوع والاختلاف بينهم لأسباب تاريخية عميقة. كما ينظر العقل السياسي السوداني فى كثير من الأحيان الى الاختلاف بوصفه (ضد) والخصومة التى قد تقود الى النزاع. أما مفهوم حقوق الانسان الاوربي لا يقوم على ذلك نفي الضد بل يذهب الى ما هو أعمق من ذلك وهو احترام النزاع فى مراحلة غير المؤذية. على سبيل المثال لا زال البروفسير بريتون يدافع عن ضرورة النزاع فى المجتمعات وهو دليل على صحتها. كذلك مفهوم حقوق الإنسان فى الإسلام ينص على أدب الاختلاف. تلك مسألة بالغة التعقيد وهى الفروقات المعرفية ذات المرتكزات الفكرية بين العقل الغربي وكافة العالم. لقد تحدث فلاسفة اللغة ونظريات المعرفة الغربيين فى هذا الشأن منذ زمن بعيد. على سبيل المثال فالمفردة (سلام) لدى فلاسفة السلام الغربيين من عهد (كانط)الى (جوان قلانتنق) لا تعني (ضد الحرب). فالحرب شيء والسلام شيء آخر. لقد وردت سلام فى كافة اللغات، كما وردت فى اللغات الافريقية المحلية بأسماء مختلفة، على سبيل المثال أن التعبير المناسب للسلام الإيجابي فى لغة الدينكا هو (أجين كراج) وهو يعني فى اللغة العربية السودانية (عوجه مافي). وبالرجوع الى الفلسفة الافريقية والتى تشمل على جزء هام هو (نظم التفكير الأصيل) Indigenous Knowledge System ويتم اختصارها (IKS)، تأكد لنا هناك فرق كبير فى مفهومي السلام والحرب لدى الفلسفة الغربية والفلسفة الافريقية. وبعد البحث وجدنا أن الاختلافات أصيلة وعميقة فى طبيعة التفكير ذاته. فالإنسان الافريقي يفكر فى صيغة (الأسرة الممتدة).أما الإنسان الأوربي لقد فارق صيغة تفكير الأسرة الممتدة منذ مقولات الفيلسوف ديكات (أنا أفكر لأنني موجود think because I'm) I) أما نحن فى هذا الجزء من العالم الأفريقي نفكر بصيغة جماعية (أنا موجود لأننا نحن I'm because we are) وهو ما اُتفق عليه فى البرنامج الافريقي لجامعة السلام بفلسفة (ام بنتو). أهم ما أورده فى هذه الرؤية النقدية لنمط التفكير الغربي هو الأثر الكبير الذى يترتب عليه اختلافات بعض المفاهيم مثل (حقوق انسان)، (سلام)، (نزاع) (اغتصاب)، (مجزرة)، (جرائم حرب)...الخ. لكل ذلك تفرد المؤسسات العلمية فى أوربا والجامعات والكليات دوائر خاصة وأقسام متخصصة للدراسات الشرقية والأفريقية وغيرها من المعارف غير الأوربية. والكل يعلم بذلك الدور الكبير الذى لعبته حركة الاستشراق فى رفد المعارف الغربية بعلوم الشرق وحضارته التى تلعب دورا كبيرا فى تاريخ السودان. وأيما مفوضية قومية لحقوق الإنسان إذا ما ابتعدت عن تراثها القومي وثقافتها وأفكارها، وتناست مقاربة هذه المفاهيم ثم صارت تابعة لمقولات أخرى بلا رؤى ومعرفة فهي دون شك فى مأزقٍ إنساني الى حين إثباتها عكس ذلك. لأنها من ناحية تدافع عن معاني لم تقو على تعزيزها فى الدولة المعنية وهى قد تكون بعيدة من الوعي الجمعي للمجتمع لذلك لا تستطيع المدافعة عن حقوق الانسان فيه، ومن ناحية أخرى تقع مثل تلك المفوضيات فى أحابيل وعراقيل المؤسسة السياسية الرسمية. لقد حدثنا التاريخ القديم والمعاصر عن المقدرة الهائلة التى تمتلكها المؤسسات الرسمية فى هذا الجزء من العالم على تخطي وانتهاك حقوق الانسان عندما تُختصر فى وثيقة داخل الدستور. بالطبع ذلك أمر يوفر الفرصة للمؤسسة السياسية والادارة الرسمية لاكتشاف كافة فنون وضروب تخطى تلك الوثيقة. يحدثنا قانون المفوضية القومية لحقوق الانسان أحد أهم شروط اختيار أعضاء المفوضية القومية لحقوق الانسان (الكفاءة والحيادية). أما الكفاءة فتعني المعرفة العميقة بحقوق الانسان التى تطلب المقدرة على التحليل الثقافي، السياسي، الاقتصادي، وللبلد المعني مما يجعل من المفوضيات القومية وعاء معرفيا ومرجعيا علميا مدركا للحقوق المحتكة باللحمة الحية للانسان. كذلك كي لا تلعب المفوضيات دور حرس حدود حقوق الإنسان فقط. لا تعنى الكفاءة فقط حفظ القوانين، لقد شهد العالم كافة على كفاءة القانونيين السودانيين منذ فترة بعيدة. يحدثنا التاريخ عن المفكر محمد أحمد محجوب، ويحدثنا التاريخ المعاصر عن أساطين القانون في السودان من لدن شيخ القانونيين الأديب والأستاذ كمال الجزولي، وعبدالرحمن الخليفة، وأمين مكي مدنى، وبدرية سليمان، آمال التني، وعبدالباسط سبدرات إلى مولانا دوسه وآخرين وأخريات لا يسع المقال ذكرهم. توجد حقوق الانسان فى المعارف الإنسانية الأصيلة وعلاقتها بالعالم والنزاعات، وكافة المعارف والعلوم وكيف تتحول تلك المعارف الى سلوك. إن الجدل المستمر بين المواطنة وقانون الدولة هو الأصل فى نشوء منظومة حقوق الانسان. أما فى مناطق النزاعات يصبح القانون الدولي والانساني حامياً لحقوق الانسان. إذاً حقوق الانسان فى ذاتها ليست قانوناً بل هى حقوق يمكن المدافعة عنها لحمايتها، وتمكينها، ودعمها. على سبيل المثال لا يمكننا أن نتخيل حريات عامة فى السودان أو رفاهية دون ديمقراطية سياسية حقيقية. أما الديمقراطية السياسية في السودان ظلت غائبة تماماً فى ظل أزمة سياسية مرتبطة بالتطور التاريخ السياسي والاقتصادي للسودان. يحتاج تاريخ التطور السياسي والاقتصادي السوداني الى تحليل عميق، ذي مرتكزات علمية. كذلك الحديث عن حرية التعبير والصحافة هو حديث مبتور فى ظل القوانين المقيدة للحريات، فالمشكلة ليست فى حرية التعبير بل فى القوانين ونسقها التاريخي. على سبيل مثال يمكن بحث قانون النظام العام فى إطار مقاربته بما يسمى بالشرطة المجتمعية (Community policing) وعلاقة كل ذلك بمفهوم النظام العام. وبالتالي يمكن طرح السؤال التالي: ماهو النظام العام؟ ومن أي منظور؟ وهل يمكننا الاتفاق على مفهوم للنظام العام لحمايته قانونياً.