أعترف تماماً بأنني كنت من المتفائلين بأن جولات التفاوض التي تنعقد وتنفض في أديس أببا بإمكانها أن تصل الى نتائج إيجابية بين السودان ودولة الجنوب. نتائج تؤسس لعلاقة جوار سلمي تقوم على تبادل المصالح وكف الأذى. قناعتي الآن المستمدة من حصاد الجولة الأخيرة: ( من الاستحالة الوصول لا تفاق نهائي بين الدولتين عبر جولات أديس)!! لسبب بسيط، ما يحدث يشبه محاولة عبثية لردم كسر مائي متدفق بالتراب، أول ما يفعل عمال هيئة المياه إيقاف تدفق الماء ثم إصلاح الكسر ثم تأتي الخطوة الأخيرة وهي الاستعانة بالتراب!! ظللنا نردد في الإعلام بصورة متكررة مصطلح (القضايا العالقة)، ودلالة ذلك أن هنالك قضايا (محددة) مختلف عليها ينتظر حلها عبر التفاوض، وعلى هذه الدلالة تعقد جولات التفاوض بين إدريس وباقان في قاعات فنادق أديس ويظل السيد/ أمبيكي لساعات طوال معلقاً بين السماء والأرض من نيويورك الى أديس ومنها الى الخرطوم ثم جوبا!! ولكن ما تأكد أخيراً أن (القضايا العالقة) هي في الأساس قضايا عالية الخصوبة كثيرة التناسل، قضايا الحدود الأربعة ولدت الى جوارها ست أخريات، وربما تصل في الجولة القادمة الى أربع عشرة منطقة خلافية تعلق على حبال الانتظار!! جدل كثيف حام حول البحث عن إجابة لسؤال يبدو بسيطاً، وهو هل موقف حكومة الجنوب المعبر عنه في الخريطة موقف تفاوضي على طريقة وأسلوب (سوق الشمس) الصعود عالياً ثم الهبوط تدريجياً على سلالم (افتح الله ويستر الله) أم هو موقف عدائي الهدف منه إيجاد مبررات لهجمات توسعية تنوي حكومة سلفا كير شنها في مقبل الأيام؟!! ببساطة ، مفاضو جوباوالخرطوم لأسباب عديدة غير مهيئين لإبرام اتفاق على شاكلة نيفاشا، لأنهم يقدمون الى طاولة التفاوض بإستراتيجيتين متعارضتين، الخرطوم تريد من جوبا إلقاء الورقة الأمنية على الطاولة قبل الجلوس لبقية الملفات، وجوبا تعتبر الملف الأمني ورقة ضغطها الوحيدة على الخرطوم لا يمكن أن تخرجها من يدها قبل استلام المقابل، فهي لا تزال على عقيدة جون قرنق القديمة (قاتل وفاوض)!! جوبا حينما وصلت الى قناعة بأن وفد حكومة السودان متمسك بخيار الملف الأمني وأن هذا الموقف مغلق غير قابل للتنازلات، أرادت بطريقة تحايلية أن توافق على المبدأ ثم تسعى لاغتياله عبر التفاصيل أو تسكينه عبر إجراءات التحكيم الدولي التي قد تمتد لسنوات حتى تفتح بذلك منفذاً للهروب من الالتزامات وتضع الوسطاء أمام خيار الانتقال للملفات الأخرى!! مفاوضو الخرطوم في وضع بالغ الحرج. الحملة الإعلامية الشرسة التي ظلت تواجههم بعد إبرام أي اتفاق أو تفاهم وتلطيخهم باتهامات الانبطاح والتساهل سيضيق عليهم هامش التحرك وسيسيطر عليهم هاجس لعنة نيفاشا، السيد الطيب مصطفى سيكون معهم داخل غرف التفاوض وهو في الخرطوم. وعلى مقعد قصي سترمقهم نظرات الأستاذ اسحاق فضل الله وعلى النوافذ ستحتشد عيون أئمة المساجد!! ستمضي الثلاثة أشهر. وستنطلق صافرة أمبيكي لتنهي جولات التفاوض. وستوضع ورقة الإجابات النموذجية المكتوبة بحبر الاتحاد الإفريقي وقلم مجلس الأمن على الطاولة. ولن يكون أمام إدريس وباقان سوى التوقيع أو الامتناع، من المؤكد أن أحدهم سيسارع في التوقيع. ومن الراجح أن يكون ذلك الرجل هو باقان أموم!!