بعد أن فرغنا من تنسم نفحات رجب الأصب ونهلنا من رحيق بركاته، فصمنا ما تيسر لنا من نهاره وأحيينا ليله بفضل الله وتوفيقه ومننه علينا، ها نحن نتنشق نفحات شعبان المبارك برحماته ومغفراته وتجلياته، نتعرض إليها كرماً من المولى عز وجل لما جاء في الحديث الذي رواه الطبراني: (ألا إن لله في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا إليها عسى أن تصيب أحدكم نفحة فلا يشقى بعدها أبدا) والله الرحيم بعباده يجعلهم دوماً في نعيم هذه النفحات كلما خرجوا من واحدة جاءتهم الأخرى بخيرها ونعيمها وبركاتها فما نزال ننعم في الروحانيات والتجليات تهيئة لاستقبال شهر رمضان المعظم ونحن في قمة هذه الروحانيات. وشهر شعبان المبارك قيل فيه إنه من الأشهر الكريمة والمواسم العظيمة، وهو شهر بركاته مشهورة، وخيراته موفورة، والتوبة فيه من أعظم الغنائم الصالحة، والطاعة فيه من أكبر المتاجر الرابحة، من عوَّد نفسه فيه الاجتهاد، فاز في رمضان بحسن الاعتياد، وسُمِّي شعبان لأنه يتشعب منه خير كثير، ففيه من الحوادث والوقائع ما يستحق الاهتمام والعناية وصرف الهمم والأنظار، ولعلَّ أعظمها ليلة النصف منه التي يتجلى فيها الحق جل وعلا إلى خلقه بعموم مغفرته وشُمُول رحمته، فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحِمين ويجيب دعاء السائلين ويُفرِّج عن المكروبين ويعتق فيها جماعة من النار ويكتب فيها الأرزاق والأعمال. وقد ذكر العلماء لليلة النصف من شعبان أسماء كثيرة، وكثرة الأسماء تدل على عظمة وشرف المسمَّى، فمِن أسمائها: الليلة المباركة، ليلة القسمة، ليلة التكفير، ليلة الإجابة، ليلة عيد الملائكة، ليلة البراءة، ليلة الصك، ليلة الجائزة، ليلة الرجحان، ليلة التعظيم. وقد ورد في فضلها أحاديث متعددة حيث أخرج الطبرانيّ وابن حِبان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: يطَّلِعُ الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان ويغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن. وروى البيهقيُّ من حديث السيدة عائشةَ رضيَّ الله عنها أن رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسلم قال: أتاني جبرائيل عليه السلام فقال: هذه ليلة النصف من شعبان ولله فيها عتقاء من النار بعدد شعر غنم بني كلب، ولا ينظر الله فيها إلى مشرك ولا إلى مشاحن ولا إلى قاطع رحم ولا إلى عاق لوالديه ولا إلى مدمن خمر. وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلَها وصوموا نهارها، فإن الله سبحانه ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا من مسترزق فأرزقَه، ألا من مبتلىً فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر. ورُوي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامله بالبصرة: عليك بأربع ليال من السنة فإن الله يُفرغ فيهن الرحمة إفراغاً: أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة الفطر، وليلة الأضحى. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: بلغنا أن الدعاء يستجابُ في خمس ليال: ليلة الجمعة، والعيدين، وأول رجب، ونصف شعبان . فينبغي للمرء أن يتوب فيها ويستغفر من جميع الذنوب، وأن يطهر قلبه من الشرك الظاهر والخفي والشكوك والظنون والشحناء والعداوة والبغضاء والحسد، فلا يضمر لأحد من المسلمين سوءاً ليستوجب المغفرة والقَبول من الله تعالى في هذه الليلة الشريفة المباركة، وهذه الليلة المباركة درج الناس فيها على إحياء ليلها عقب صلاة المغرب بصلاة ليلة النصف من شعبان، وهي ست ركعات، بعد كل ركعتين يقرؤون سورة يس، مرة بنية طول العمر في طاعة الله ومرة بنية رفع البلاء ومرة بنية الرزق، ثم يختمون بدعاء النصف من شعبان ثم يصومون نهارها تقرباً إلى الله عز وجل، وتصادف هذه المناسبة العظيمة هذا العام على الأرجح مساء الأربعاء 14 شعبان 1434ه الموافق 4 يوليو 2012م، وهذا هو نص الدعاء: ( اللهمّ يا ذا المنّ ولا يُمنّ عليه * يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول والإنعام* لا إله إلاّ أنت ظهر اللاجئين وجار المستجرين وأمان الخائفين* اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً أو محروماً أو مطروداً أومقتراً عليّ في الرزق* فامحُ اللهمّ بفضلك من ديوان الأشقياء شقاوتي وحرماني وطردي وإقتار رزقي وأثبتني عندك في أم الكتاب سعيداً مرزوقاً موفقاً للخيرات، فإنك قلت وقولك الحق في محكم كتابك المُنزل على لسان نبيّك المرسل (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * إلهي بالتجلي الأعظم في ليلة النصف من شهر شعبان المُكرّم* التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويُبرم* أن تكشف عنّا من البلاء ما نعلم وما لا نعلم وأنت به أعلم* أنت الأعز الأكرم* وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسل )، ومن تعذر عليه حضور صلاة النصف من شعبان لأي عذر شرعي فعليه بالاشتغال بقراءة القرآن الكريم، أو بأي نوع من الأذكار سواء أكان التهليل أو الاستغفار أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حسب ظرفه ووضعه، فإن لم يستطع باللسان فليكن بالقلب، المهم أن لا يخرج من هذا المولد بلا حمص، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. وفقنا الله وإياكم على الطاعات وكتبنا من أهل المغفرة والرحمات في هذه الليلة المباركة .