** كثيرة هي الأشياء التي فقدت معناها حين تم تفريغها من محتواها، وتحرير سوق السلع من تلك الأشياء..وتحرير سعر أية سلعة يجب أن يخلق منافسة في الجودة والعرض بحيث تكون نتائج تلك المنافسة لصالح المستهلك، وهذا ما يحدث في بلاد الدنيا والعالمين..ولكن في السودان، حيث كل شيء فيه يحير الإنس والجان، لم يستفد المستهلك من شعار التحرير غير المزيد من الضنك والرهق .. والسكر آخر مثال لذلك، إذ قبل تحريره كان سعر الجوال (147 جنيهاً)، ومنذ تحريره صار سعر الجوال (225 جنيهاً)، ولا يزال يرتفع..وهذا يعني أن مصطلح التحرير كان ولا يزال في السودان كلمة حق مراد بها الاحتكار الخفي، بحيث تمسك فئة قليلة بزمام أمر سوق السلع، لتفعل في عباد الله ما تشاء بلا أية رحمة..والمدهش لحد إدهاش الدهشة ذاتها، هو أن الحكومة التي أعلنت تحرير السكر هي ذات الحكومة التي تمسك سلطاتها برقاب السكر، بحيث توزع - بالقطارة - للولايات والمتاجر، وبأسعار تحددها ذات السلطات القابضة..والمضحك جداً أن صاحب أي دكان بولاية الخرطوم لا يتحصل على السكر - من السلطات الحكومية طبعا - ما لم يبرز رخصته التجارية، وهذا ما يسمونه في الإعلام بالتحرير .. فلندع تحرير السكر، ونتحدث عن التحرير الأخطر ..!! ** تحرير سعر الدواء .. أي لن تفتح المصارف الاعتمادات لشركات الأدوية بحيث تستوردها بالسعر الرسمي للدولار، وكذلك لم تعد السلطات الحكومية مسؤولة عن تحديد أسعار الأدوية بحيث لا يتجاوز هامش الربح (20%)، أو كما كان.. بل قالت الحكومة للشركات، قبل نصف شهر تقريباً، بوضوح (اشتروا الدولار من السوق الأسود، وجيبوا أدويتكم وبيعوها بأي سعر يعجبكم)..وهذا يعني أن الحكومة لم تعد داعمة للدواء ولم تعد مراقبة للبيع بحيث تلزم الشركة والصيدلية بالسعر، وكل هذا يسمى - اقتصاديا - بالتحرير..ولكن تنفيذ نهج تحرير سعر الدواء في السودان يعني (ترقب المزيد من الضنك)..وهذا ما يحدث حالياً في سوق الدواء.. نعم، لقد أغلقت شركات الأدوية مخازنها منذ ثلاثة أيام وتوقفت عن البيع، وتترقب - بتوجس - الزيادة المتوقعة والناتجة عن ارتفاع سعر الدولار في السوق الموازي..ونعم ألغت الحكومة الجمارك (10%)، ولكن هذا لن يحدث أثراً إيجابياً في ظل تواصل الاستيراد بدولار السوق الموازي الذي يتصاعد سعره يوماً تلو الآخر..فالارتفاع الجنوني لسعر الدولار في السوق الموازي هو مصدر قلق شركات الأدوية، وحتما سيدفع المواطن الثمن، وذلك ما لم تراجع المالية والبنك المركزي قرارهما بفتح الاعتماد بالسعر الرسمي وكذلك في حال غياب دور المجلس القومي للصيدلة في (التسعيرة).. وعليه : ما لم يستقر سعر الصرف، فإن التحرير قد يرهق المواطن..!! ** ثم الآفة الكبرى ( الاحتكار الخفي)..التحرير بحاجة الى سوق حر، ولكن للأسف سوق الدواء بالسودان ليس حراً، والسبب المجلس القومي للصيدلة..نهج هذا المجلس ساهم كثيراً في (ضعف عدد الأصناف الدوائية المسجلة في بلادنا).. ولك أن تعلم ياعزيزي بأن عدد الأصناف الدوائية المسجلة بالسودان - كم وتلاتين مليون نسمة - لايتجاوز (2.300 صنف فقط لاغير).. علما بأن دولة تونس ذات الكثافة السكانية (10 مليون نسمة)، نجحت في تسجيل ( 10.00صنف).. أي كثافتنا السكانية ثلاثة أضعاف الكثافة السكانية لتونس، ومع ذلك يستخدم الشعب التونسي أربعة أضعاف ما يستخدمها شعبنا من الأصناف الدوائية.. تعدد الأصناف يعني أن هناك بدائل لكل صنف دوائي، وهذا يمنع الاحتكار ويخلق المنافسة..ولكن في السودان لا توجد أصناف عديدة ليختار المواطن ما يشاء وحسب السعر، بل يوجد احتكار خفي، ولكن بعلم ( نهج مجلس الصيدلة)..ومن هنا تتواصل - غداً بإذن العلي القدير - مواجع سوق الدواء..!!