من خارج بيئاته التي اختلف إليها في قريته ساي ووادي حلفاوالخرطوموأم درمان ومصر، وهو قد غرس في الفن القولي المرتجل قبل ذهابه إلى الخرطوم ولهذا فقد نجح في الاختبار الأول الذي أجري له في الخرطوم عندما قصده ثلاثة شعراء ينظرون في أمر شاعريته التي يبدو أنها قد فاحت بعيد التحاقه بكلية غردون التذكارية، قيل في ذلك: "انتقلت شهرة الخليل إلى الخارج حتى وصلت كبار شعراء الدوبيت في أم درمان، فلما وصلت شهرته إلى أسماعهم وتناقلوها لم يتجاهلوها لأنها كانت قوية، فاتفقوا فيما بينهم على أن يمتحنوه ويجسوا نبضه لمعرفة مدى شاعريته ومقدار تقديسه للجمال في صور المرأة، أرسل إليه الشاعر يوسف حسب الله "سلطان العاشقين" نيابة عنهم بيتاً من الدوبيت يتضمن هجاء مفتعلاً لواحدة من البنات وطلب من الخليل أن ينظم على منواله، وعندما قرأ الخليل البيت استاء جداً ورد على يوسف حسب الله يقول: انت لا تستحق أن تكون تابعاً للعاشقين، وقد أيد الشعراء خليلاً وأدركوا أنه شاعر مثالي ومحب مخلص، ثم كان أن جاءه ثلاثة شعراء بداخلية ورشة الكلية هم: يوسف حسب الله ومحمد علي عثمان بدوي، ومركز وحدثت مجادعة بأن قال الشاعر مركز رباعية دوبيت، فأجاب عليه خليل مرتجلاً، يقول الراوي: استمر خليل ومركز في هذه المباراة الشعرية لمدة كافية، ثم تدخل الحكمان يوسف حسب الله ومحمد علي عثمان بدري وأوقفاهما شاهدين لكل منهما بالبراعة والشاعرية وسرعة البديهة. ويلحظ في تقدير الشعراء الممتحنين "بكسر الحاء" أمران: تقديس الجمال البراعة وسرعة البديهة في الارتجال وقد كان "تقديس الجمال" هذا أقصى ما يفكر فيه الشاعر حينذاك إذ الموضوع الشعري واحد هو المرأة وما يتعلق بها من صورتها وعفافها وصونها وذكر محاسنها المتمثلة في مفاتنها وإظهار الحب لها، وذكر مرارات عشقها، وقد قام كل ذلك على تشبيهات تمثلت في الظبي والنداوة والبضاضة وقوة الجمال وما إلى ذلك من تشبيهات وكنايات واستعارات ما نجد في الدوبيت السوداني. إن اللغة العربية في السودان في مستواها الفصيح، قد قامت على "أخلاط العامية" فيما يقول بعض الباحثين، وهي قد ظهرت في هجينها اللغوي الذي جمع بينها وبين العامية مدونات السلطنة السنارية التي تمثلت- مثلاً- في سجلات الأراضي فيها، كما في كتاب الطبقات لصاحبه ابن ضيف الله، وقد بدا ذلك واضحاً حتى العشرينات تقريباً ليساهم في رقيها وجلالها وجلوها من أخلاط العامية هذه من تخرجوا في المدارس النظامية كما قلنا، إذ كان ما عليه الشعراء الدوبيت في محدوديته التعبيرية، وكان قيام الصحف عاملاً مهماً كذلك في إعادة تشكيل اللغة عند هؤلاء إذ صار هناك كتاب وقراء. وقد كانت البراعة -فيما نرى- في معرفة وزن الدوبيت الذي ساد تماماً حينذاك، والتعبير الشعري على منواله، مع ما يصحب ذلك التعبير من جناس- في الغالب الأعم- مما يدخل في باب افتعال الشعر وتكلفه. وكان كل ذلك مما لا يخدم الشعر في ضرورات بقائه بقدر ما كان مكرساً لخدمة اللحظة العابرة، فالشاعر مركز، دخل مباراة الاختبار بالرباعية: يا محسن خضاراً نحن فيه جلسنا ويا ملطف أديب ال بيه تم انسنا الطير في انشراح طن ورجع عاكسنا حرك للشجون من السهاد البسنا. فرد عليه الخليل بالرباعية: يا محلي الانس يا اخواني في دي الليلة دا قيس بن الملوح وجميل وعاشق ليلى ال قاسوا النواب لو يدركون الليلة. وهو شعر معبر عن موقف عند الشاعرين لا يعبر عن كل الأزمنة وان كان ذا خطر في حدوده التاريخية، وعلى كل حال، فهو من "ديوان الشعر العربي" في بلادنا. وإذا جاء هذا عن الخليل في اختياره الأول، فإنه تم اختبار ثان له هو ولوجه إلى الشعر في أم درمان بالنسج على منوال ينسج فيه غيره باعتناق مبدأ "تقديس الجمال" ثم خروجه عليه باعتناق الهم الوطني إضافة إلى ما اعتنق أولاً، وقد كان هذا الهم جزءاً من حياته اليومية خاصة بعد عضويته في جماعة الاتحاد السرية، وذلك هو المستوى الآخر من شعره الذي نجح في اختباره بامتياز، وهو لو قد تعهد ما تعهده غيره من الشعراء مما سمي بتقديس الجمال لما تفرد تفرده الذي نشهد الآن، ولم يضف أحد له هذا المكون الثاني في شعره إنما أضافه بنفسه لنفسه، ذلك أن إحساسه لم يكن محصوراً في نفسه. إن الرصيد الشعري الذي فتح الخليل عليه عينيه وقلبه لم يكن على غرار ذلك الشعر الذي تندر به العوام على النوبة النيلين من مثل: ود النجومي التي كانت تعاكسنا الله اغرقها في توشكي على زعم ان الشاعر النوبي هناك قد قاله بعد أن أمن من تجريدات ود النجومي - قائد المهدية- المتحرشة به التي أجبرته على النزوح وفقدان المكان، لم يكن الشعر كذلك بل كان شعراً له تفوقه - في كثير من الأحيان- على الشعر العربي الذي كان يقال في كثير في مناطق الجيوب العربية في بلادنا، ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وبفعل الاستعراب الذي تعرضت له مناطق النوبة النيلية، خاصة في جنوبها، ظهر شعراء متمرسون صار شعرهم على أفواه المغنيين فيما بعد، ومن المعروف - كما ورد في غير واحد من الإشارات- أن أغنيتي الريلة والقمر بوبا قد نتجتا في مناطق النوبة النيلية في أقصى شمال السودان، والقريحة الشعرية هناك هي التي أنتجت: الزول الولوف لي قلبو خراب يمشي ويتلفت لما النهار غاب حديثك لي أكيد أنا ولا كضاب حد ما لملموهن خاطري ما طاب حليل ناس آمنة في غرب الدياباب وقد ذكرنا من قبل "الدياباب" الذين يسدون عين الشمس في إحدى روايات زواج الشيخ أحمد هاشم في هذا الفصل، ونجد هذا الذي أوردنا هذا في أغنية الريلة، ويكون القارئ الكريم قد فطن إلى ذلك، ويدعوها بعضهم "أغاني الريلة" إذ وجدوها عند مغنين عديدين، وما هي كذلك، ذلك أن الأغاني في مناطق النوبة النيلية كانت مطولات غنائية، كل شاعر يزيد من النص الشعري الموجود من قبل ارتجالاً، والمغني هنا شاعر أيضاً، وأغنية الريلة وأختها "القمر بوبا" التي هي أسبق في الوجود تغنتا في مناطق بطن الحجر والسكوت والمحس وغيرها، وتفرق المغنين هو الذي أقام الظن بأنها "أغاني" وليست أغنية واحدة: يا عجو المحس التقيل التقيل فرع العراجين انتي ما بيدوكي لي زولاً مسيكين إلا واحداً نخلو مقرون في البساتين شوف سواقيها ال تصحي ال كانوا نايمين حليلك يا أم جبين يا بدر دورين صديرك عام تقول غرر الوزيزين لقد جاء الشعر العربي العامي في هذه المنطقة منذ وقت مبكر، ومنه ما نقل إلى خارجه بواسطة مغنين ووصل إلى الإذاعة السودانية منذ بدايات الستينات من القرن الماضي، ومن شعر الخليل ما جاء في وزن شعر "القمر بوبا" إذا نحن ضبطنا وزنه في فاعلات مستفعلاتن ففي القمر بوبا نجد: كيف اسيبك لا من اراك يا قمر عشرة ال في سماك إن لم نكن قد أخطأنا في التذكر، ونجد عند الخليل: ان لهجت بداخل خباك البلابل تعشق صباك أو بسمت ونور صباك النسايم تجمد بفاك يا أم كفيلاً جاير كفاك يا ام كفيلاً جابر كفاك يا أم ضميرا ضايع هناك ومن شعره الذي يجيئ في هذا الوزن أيضاً: دير كؤوسك وانشدني باب يا حبيبي زينة الشباب اسقيها الصافية أم حباب دق كاس وقول لي حباب يومنا صافي وخالي الضباب يا نديم كيف فرح الشباب. ولعل الباحثين واجدون أكثر مما قلنا إذا نظروا في أوزان شعر الخليل وقارنوها بما تراكم عنده من إيقاعات شعرية إذا جاز لنا أن نقول، خاصة في إيقاع كأغنية القمر بوبا، وإيقاع الدليب كأغنية الريلة، وما يمكن أن يجيئ منها في إيقاعي جابودي ونقلوت اللذين نجدهما عند قليلين جداً من النوبيين من كبار السن الآن. وكان الشاعر النوبي المستعرب بالمرصاد لزوال المهدية، وهو قد كان مدفوعاً دفعاً -حينذاك- للتعبير عن نفسه في شعر كان يغنى في أرض النوبة النيلية وهو مما يجيئ في إيقاع نقلوت: خليفة المهدي يا ال ربك دعاكا خليفة المهدي يا ود ال.. سلاطين باشا بي بابورو جاكا تطير الجلة تتفرق دراكا تقول أنا مالي يعقوب ياهو داكا خليفة المهدي وين سورك تفوتو ووين عهدك مع الأنصار شروطو قبيل ما قلت في شمبات بموتو رقد يا أب ركبة شوف الزول سقوطو عباس باشا يابدرك سريعا تجينا الفركة بي قرشين نبيعا اتفكينا من حكم أب رقيعة بكتلو الزول يسوولو الوجعية. والشاعر هنا يرصد ما وعد به الخليفة أنصاره قبل ملاقاته جيش كتشنر، ويهتف بما يكون بعد زوال حكمه من ازدهار حيث ستسير الباخرة بين السودان ومصر، وسيجلب هو وأهله البضائع من مصر، وهذا الشعر العربي الذي قاله هذا الشاعر النوبي، متوافق في وزنه الشعري "مفاعلتن مفاعلتن فعولن" مع ذلك الشعر الذي كان يقوله أحد أئمة المجددين في شعر أرض البطانة الشرقية، وهو الشاعر ود الفراش الذي يجيئ كل شعره تقريباً في هذا الوزن، لكن بلغة مسبوكة هناك في أرض البطانة تجنح نحو ما هو بدوي جزل، ولغة أخرى تأخذ بما هو متاح هنا، لكن هذا المتاح لم يكن قليلاً. وهذا الشعر الذي أوردناه، شبيه بما قاله الشاعر الحاردلو وأخوه عبد الله وهما في أم درمان بعد هزيمة الخليفة عبد الله التعايشي وجيشه إذ كان موقفهما موقف هذا الشاعر النوبي تماماً، قال الحاردلو|: الحمد الكثير للواحد المنان جاب لي في البلد دولة بني عثمان وقفوا الانجليز في حومة الميدان ود تورين جرى خلا لهم النسوان ليرد عليه أخوه عبد الله في نفس القافية: ما وجب حكومتو ال ضاقها في السودان لا فرش الفراش، لا مات مع الفرسان صقعوه بالكرب والمكنة والنيشان حاكى القمري طار قط ما انخبر لو مكان. والكرب في الشطرة الثالثة المدفع الألماني ماركة كروب فيما يقول شارح هذا الشعر، قال عبد الله ذلك، ليرد عليه الحاردلو: يجمع في الديوش قال ليهم انتو عبيدي ويبهت في الرسول قال النصر في ايدي يضاف الحقوق أوراني جرية سيدي أضحك وانبسط كل يوم أجر في قصيدي وهو شعر منشور لمن أراد المزيد منه في مصدره، وللقارئ الحق في أن يقارن بين ما قال الشاعر النوبي في دوبيته، وما قاله الحاردلو وأخوه عبد الله، ويعده في "الشعر السياسي" إن رأى ذلك. لكن ثم شعر سياسي صريح العبارة في النوبية منذ العهد التركي لا شك في أنه كان مغنياً حتى الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي في وادي حلفا وما جاورها من قرى الفاديجا، وخوف التطويل، نورد هنا ما ترجمناه منه إلى العربية يقول الشاعر النوبي القديم: دونا تهندمي، واقبلي علينا شعرك إلى الوراء ووجهك الينا لكن الذروة التي يصل إليها هذا الشاعر هي في قوله: ما هذه الداهية التي دهتنا تضرط الخيول هناك، فتجلد الحمير هنا.