ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو والفوز بهدفين لهدف    "حكومة الأمل المدنية" رئيس الوزراء يحدد ملامح حكومة الأمل المدنية المرتقبة    الفوز بهدفين.. ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو    الهلال السعودي يتعادل مع ريال مدريد في كأس العالم للأندية    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    لما سقطت طهران... صرخت بورسودان وأبواقها    "الأمة القومي": كامل ادريس امتداد لانقلاب 25 أكتوبر    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    الحكم بسجن مرتكبي جريمة شنق فينيسيوس    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    هل سمعت عن مباراة كرة قدم انتهت نتيجتها ب 149 هدفاً مقابل لا شيء؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    تقرير رسمي حديث للسودان بشأن الحرب    يوفنتوس يفوز على العين بخماسية في كأس العالم للأندية    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    التغيير الكاذب… وتكديس الصفقات!    السودان والحرب    الأهلي يكسب الفجر بهدف في ديربي الأبيض    عملية اختطاف خطيرة في السودان    بالصورة.. الممثل السوداني ومقدم برنامج المقالب "زول سغيل" ينفي شائعة زواجه من إحدى ضحياه: (زواجي ما عندي علاقة بشيخ الدمازين وكلنا موحدين وعارفين الكلام دا)    شاهد بالفيديو.. الفنان شريف الفحيل يعود لإثارة الجدل: (بحب البنات يا ناس لأنهم ما بظلموا وما عندهم الغيرة والحقد بتاع الرجال)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    شاهد بالفيديو.. ظهر بحالة يرثى لها.. الفنان المثير للجدل سجاد بحري يؤكد خروجه من السجن وعودته للسودان عبر بورتسودان    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    9 دول نووية بالعالم.. من يملك السلاح الأقوى؟    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    تدهور غير مسبوق في قيمة الجنيه السوداني    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان والسودان الجنوبي.. فرص وتحديات (1-2)
نشر في السوداني يوم 04 - 08 - 2012


ترجمة: بابكر فيصل
في التاسع من يوليو 2011 أنهى جنوب السودان وحدة وطنيَّة هشة كانت قائمة بينه وشمال السودان وأضحى دولة مستقلة. وقد جاء الإستقلال في أعقاب تصويت الجنوبيين في إستفتاء تمَّ في أبريل 2011 حول إنفصال الجنوب أو بقاءه جزءا من السودان. وجاءت النتيجة بأغلبية ساحقة لصالح الإنفصال. هناك العديد من الفرص المتاحة أمام دولتي السودان وجنوب السودان كما أنهما في نفس الوقت تواجهان العديد من التحديات. نجاح البلدين يتوقف على إتباع النهج الأمثل للإستفادة من الفرص, والتعامل بحكمة مع التحديات.
نال السودان إستقلاله في 1956 وعلى الرغم من ذلك لم يشهد إستقراراً بسبب الحرب التي إندلعت في جنوب السودان في 1955 خلال فترة الحكم الذاتي التي سبقت قيام الدولة المستقلة. لقد إحتدمت هذه الحرب طوال نصف قرن, ولم يعرف البلد سلاماً إلا خلال الأحد عشر عاماً التي أعقبت إتفاق سلام أديس أبابا, و من ثمَّ إتفاق السلام الشامل الذي تمَّ توقيعه في 2005. لمعرفة الفرص والتحديات التي تواجه البلدين توجد حاجة ملحة للنظر في تاريخ العلاقات بين الشمال والجنوب قبل وبعد إستقلال السودان والتطورات السياسية طوال تلك الفترة.
جدل حاد
ظلت علاقات شمال وجنوب السودان موضع جدال حاد, و مشحون في بعض الأحيان بالعواطف على مدى عقود، و من المُرجَّح أن تستمر هكذا حتى بعد أن إنقسمت البلاد إلى دولتين مستقلتين تتمتعان بالسيادة.
بحلول القرن التاسع عشر بدا الجزء الواقع شمال خط العرض 13 موحداً إلى حد ما على أساس الإسلام والثقافة العربية. عروبة السودان - على العكس من معظم الدول العربية- عروبة ثقافية وليست عنصرية. ومع ذلك فإنَّ عملية التعريب والأسلمة التي بدأت في الشمال منذ القرن السادس عشر لم تحرز أي تقدم داخل جنوب السودان لأنَّ القوميات الجنوبية المجاورة للشمال كانت الأقوى عسكرياً. لقد رجحت كفة الميزان العسكري لمصلحة الشمال بسبب أسلحة الحرب التي أدخلها الفتح التركي - المصري و استمرَّت خلال المهدية. ولكن على الرغم من ذلك لم يتمكن ذينك النظامين – التركي والمهدوي – من إطباق السيطرة على الجنوب. ومن هنا, فإنَّ إدعاء النخبة الشمالية بكافة أطيافها أنَّ الإدارة البريطانيَّة هى التي قطعت الطريق أمام عملية الأسلمة والتعريب إدعاء لا تسنده شواهد التاريخ.
الحكم البريطاني, في الواقع, لم يعمل على نشر المسيحية على الإطلاق بل العكس هو الصحيح. حيث سيطر على خيال البريطانيين هاجس وقوع ثورة إسلامية متشددة على نسق المهدية في الشمال وبالتالي فقد تجنبوا - خصوصاً وينجت باشا الذي كان الحاكم العام لمدة ثمانية عشر عاماً - كل ما من شأنه الإساءة إلى المسلمين. وعليه فقد عرقلت الإدارة البريطانية مجيء الجمعيات التبشيرية للسودان, وحتى عندما سمح لها – أى الجمعيات – بالدخول للجنوب تمَّ فرض ضوابط صارمة على أنشطتها. وجاءت ردة الفعل البريطانية المعروفة باسم "السياسة الجنوبية" بعد عدة عقود من الزمن.
الإتصال بين القوميات الجنوبية والأجانب (المبشرون والتجار) الذين توافدوا إلى هناك ابتداء من القرن التاسع عشر إتسَّم بصدام الثقافات. الدخلاء كانوا يجهلون تماماً وكذلك لم يبدوا إهتماماً بالقيم الأفريقية, ولذلك سرعان ما تحول التوتر إلى شكوك وصراع. تجارة الرقيق ليست سوى أحد العوامل التي أدت إلى توتر العلاقات بصورة مؤثرة. لكن من المهم الإشارة إلى أنه حتى بداية القرن التاسع عشر كان الرقيق في الشمال يجلب بصورة رئيسية من جبال النوبة والمناطق الواقعة جنوب الروصيرص على الحدود مع المناطق الإسلامية. لم يتدفق الرقيق الجنوبي إلى الشمال إلا في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر بعد إنسياب الملاحة على النيل الأبيض.
كانت هناك آراء في أوساط المسئولين البريطانيين في السودان خصوصاً في فترة العشرينيات من القرن الماضي تنادي بإتخاذ خطوات من أجل تمكين المؤسسات الجنوبية المحلية " للصمود في وجه التأثيرات الخارجية المضادة ". بالطبع إتخذت الإدارة البريطانية بعض التدابير الهادفة للحد من التأثير الإسلامي والعروبي في جنوب السودان ولكن النتيجة النهائية لم تكن بحجم التوقعات. ومع ذلك لم تعلن أية سياسة رسمية تنادي بفصل الجنوب عن الشمال. وعلى أية حال إنتهت التكهنات في هذا الشأن في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث وقف البريطانيون بحزم مع وحدة السودان.
مواقف متعارضة
من المهم التأكيد على أنَّ التطورات السياسية في السودان خلال فترة الحكم الاستعماري تأثرت بالمواقف المتعارضة لشريكي الحكم الثنائي ( مصر – بريطانيا ), هذا إذا لم تكن هذه التطورات نتاج هذا التضارب في المواقف. كانت مصر هى حليفة الشمال التي لا تتزعزع أمَّا بريطانيا فإنها لم تكن لتدفع مصر لحافة الهاوية نسبة لمصالحها فيها. حلفاء بريطانيا الشماليين وخصوصاً عبد الرحمن المهدي أدركوا هذه الحقيقة بصعوبة في أعقاب بروتوكول صدقي- بيقن ممَّا اضطرهم إلى التوصل إلى اتفاق مع مصر حول مستقبل السودان.
بعض الجنوبيين الذين كانوا يعيشون تحت وهم أنَّ بريطانيا ستقف معهم وتدعم قضيتهم لأسباب عاطفية, مثل الدين المشترك أو لتبنيهم اللغة الإنجليزية, كان عليهم أن يعرفوا أنَّ السياسة تحركها المصالح وليس المشاعر. قبل كل شىء فإنَّ الدليل العملي يؤكد أنَّ السودانيين الشماليين هم في الحقيقة الأكثر "تغرباً" ( قرباً إلى الغرب ) وليس الجنوبيون كما يعتقد خطأ. عندما تخلى الأزهرى عن موقفه المنادي ب "وحدة وادي النيل" غازلت مصر لفترة وجيزة فكرة التحالف مع الجنوبيين لإثارة المتاعب, أمَّا بريطانيا فقد غيَّرت مسارها، واعتمدت سياسة دعم الأزهري.
سجل الأحزاب السياسية الجنوبية به الكثير من الأمور التي تغري بالنظر. فهذه الأحزاب قد إفتقرت إلى الإستقلالية في العمل, وفي كثير من الأحيان جعلوا أنفسهم أحزاباً ملحقة بالأحزاب الشمالية. وكانت تلك الأحزاب السياسية الشمالية مثل حزب الأمة والحزب الشيوعي السوداني التي ظهرت للوجود في أربعينيات القرن الماضي على العكس من الأحزاب الجنوبية قادرة على الصمود في وجه تقلبات السياسة السودانية. لم يستمر أي حزب من الأحزاب الجنوبية القديمة في مواصلة نشاطهُ بعد أي من الانقلابات العسكرية التي كان أول تصريح لها على الدوام هو حظر الاحزاب السياسية. اختفى الحزب الفيدرالى بعد انقلاب عام 1958 واختفت كذلك الجبهة الجنوبية بعد انقلاب 1969 العسكري. ظلت هناك أحزاب جديدة تظهر من حين إلى آخر. حركة تحرير جنوب السودان التي فاوضت نيابة عن الجنوب في إتفاق أديس أبابا حلت نفسها والتحق قادتها بتنظيم النميري المعروف ب " الإتحاد الإشتراكي السوداني" الذي كان قيد التكوين في حينها.
النضال والسلام
لقد تمَّ دفع الجنوبيين – بالأقوال والأفعال – دفعاً لحمل السلاح من قبل كل الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في الخرطوم بعد الإستقلال والتي فشلت في الإنصياع لمطالبهم المشروعة في الشراكة المتكافئة في حكم البلاد والإعتراف بالتنوع في السودان.
في ظل ظروف صعبة خاضت الأنيانيا النضال من أجل التحرير ببسالة حتى توصلت لإتفاق أديس أبابا, وهو إنجاز مثير للإعجاب في ظل الظروف السياسية في ذلك الوقت. خاطبت اتفاقية أديس أبابا المطالب الثلاثة للجنوب التي تسببت في فشل مؤتمر المائدة المستديرة, هذه المطالب تمثلت فيما يلي : أن يعامل الجنوب ككيان واحد، والانتخاب بدلاً من التعيين لزعيم الجنوب في أي ترتيب في البلاد ، وأن يكون لحكومة الجنوب رأي في نشر الجيش في الجنوب. شكل إتفاق أديس أبابا نجاحاً كبيراً من حيث أنه أنهى حرباً استمرت 17 عاما ودمرت الجنوب, كما أنه مكن الجنوبيين للمرة الأولى من إدارة شؤونهم بأنفسهم، وفتح فرصاً للتعليم لطالما تمَّ جحدها أو إهمالها. ومع ذلك، فقد فتحت المشاحنات السياسية والصراع على السلطة بين الساسة الجنوبيين الطريق للتدخل الشمالي في شؤونهم مما أثار استياء شريحة واسعة من المثقفين. بعد تجربة الحكومة الاقليمية في جنوب السودان، لم تعد فقط العلاقات بين الشمال والجنوب هي المشكلة التي تحتاج للحل فقد ظهر بعد جديد فرض نفسه على جدول الأعمال السياسي وهو الوحدة الوطنية الجنوبية, التي أضحت موضعاً للتساؤل بعد أن كانت أمراً مفروغاً منهُ.
طوال فترة الحكومة الإقليمية في جنوب السودان ( أبريل 1972 – يونيو 1983 ). وقف الساسة الجنوبيون بثبات من أجل وحدة السودان. وقد تبدى ذلك في العديد من الأمور. أصبحت كلمة "وحدة" كلمة مفتاحية حيث أطلقت على الساحات العامة, والبنوك, وحتى حقول النفط سميت "الوحدة". الأمر اللافت للنظر بصورة أكبر هو أنه في يوليو 1976 عندما قامت قوات المعارضة الشمالية "الجبهة الوطنية" بغزو الخرطوم من خارج البلاد وإستولت على إذاعة أم درمان لثلاثة أيام, كانت إذاعة جوبا هى التي تبث بإسم أمدرمان. ولو كان الساسة الجنوبيون إنفصاليين لكانوا قاموا ببث إعلان الإستقلال عبر راديو جوبا في الوقت الذي كان يوجد فيه فراغ في السلطة في الخرطوم. موقف الساسة الجنوبيين هذا كان نتاجاً لشعورهم بأنهم مشاركون بفعالية في تقاسم السلطة, وأنَّه تم إحترام تنوعهم الديني والثقافي , وانه لم يكن هناك أى تدخل من الشمال في إدارة شئونهم.
حراك باطن
في أوائل الثمانينيات كانت هناك عدة حركات تنشط تحت الأرض بهدف إطلاق الكفاح من أجل إنفصال الجنوب. كلا الشرطين الذاتي والموضوعي كانا متوفرين لقيام الثورة. وانطلقت الشرارة من المشكلة التي إندلعت بسبب إعادة نشر وحدات من قوات الأنيانيا ممَّا أدى لتمردها في بور, والبيبور, وأيود في 1983. وهكذا عاد الجنوب مرة أخرى لحمل السلاح.
حركة التحرر الوطني التي شكلت حديثاً - الجيش الشعبي/ الحركة الشعبية - أربكت الجنوبيين والشماليين على حد سواء وذلك من خلال الدعوة ليس لفصل الجنوب ولكن من أجل وحدة السودان. وكانت اثيوبيا مستعدة لإستضافة الحركة التي مثلت فأساً في يدها للمطاحنة مع الخرطوم التي إتهمت بايواء المتمردين الذين يقاتلون الحكومة الاثيوبية ( المعاملة بالمثل ). الحركة الشعبية / الجيش الشعبي وجدت دعماً كبيراً كذلك في ليبيا التي كانت في وقت سابق قد قطعت علاقاتها مع الخرطوم. اليمن الجنوبي، العضو الآخر في محور عدن، قام بدعم الحركة الشعبية أيضاً. وبالتالي, فإن الحركة الشعبية إنطلقت بجيش وإمدادات عسكرية جيدة. بحلول عام 1984 امسكت الحركة بزمام المبادرة مما اضطر القوات المسلحة السودانية في الجنوب إلى إنشاء عدد من الحاميات في حين أن الجيش الشعبي كان يتحرك بحرية في الريف.
تراجع شعبية النظام في الشمال إلى جانب الأوضاع العسكرية في الجنوب جعلا الأمر يبدو كما لو أنَّ الإنتصار العسكري للجيش الشعبي قد بدأ يلوح في الأفق. ولكن انتفاضة مارس / أبريل في عام 1985 أخذت الحركة الشعبية على حين غرة وغيرت المعادلة تماماً. رفضت الحركة الشعبية التعامل مع المجلس العسكري الانتقالي الذي اطلقت عليه إسم ( مايو-2 ) في حين وافقت على التعامل مع مجلس الوزراء المدني وقوى الانتفاضة (الأحزاب السياسية ونقابات العمال). كيف يمكن الوصول للسلام من دون مشاركة وموافقة المجلس العسكري الإنتقالي الذي يملك السلطة صاحبة السيادة, ظل سؤالاً من دون إجابة. ومنذ ذلك الحين تبنت الحركة الشعبية سياسة التفاوض مع القوى السياسية فقط وليس مع الحكومة في الخرطوم. إتفاقيات كوكادام (1986) والميرغني-قرنق (1988) هي مثال على ذلك. وكانت المرة الوحيدة التي إلتقت فيها الحركة الشعبية بوفد حكومي في يونيو 1989 قبل أيام قليلة من الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة المنتخبة ديمقراطياً في الخرطوم والتي جاءت الى السلطة في عام 1986.
الإنقلاب الذي خططت له ونفذته الجبهة القومية الإسلامية إستولى على السطة في يونيو 1989. قام النظام منذ البداية بتقديم مبادرات سلام للحركة الشعبية ولكنها تجاهلتها. وكانت المرَّة الأولي التي يلتقي فيها وفدا الطرفين في أديس أبابا في أغسطس 1989. هذا اللقاء والآخر الذي أعقبه في نوفمبر/ديسمبر لم يحققا أية نتيجة.
داخل الحركة الشعبية بدأت القضايا التي تمَّ السكوت عنها في فترة التكوين والبناء تطفو على السطح. في أغسطس 1991 أصدر ثلاثة من أعضاء القيادة السياسية والعسكرية العليا إعلان الناصر الذي دعا الحركة لتبني حق تقرير المصير كهدف وحيد للنضال, ودعا أيضاً إلى احترام حقوق الإنسان داخل صفوف الحركة, وإنشاء إدارة في المناطق المحررة. و هكذا عاد مبدأ تقرير المصير مرة أخرى للخطاب السياسي في السودان. على الرغم من أنَّ الحركة الشعبية جناح توريت راوغت بشأن هذا المبدأ إلا أنها عادت و قبلته في شقدوم عام 1994. حكومة السودان وافقت عليه في فرانكفورت، ألمانيا عام 1992، وكذلك في إتفاقات سلام الخرطوم وفشودة في 1997، و نصَّت عليه في دستور لعام 1998. وافقت المعارضة الشمالية في أسمرا في عام 1995 على منح جنوب السودان حق تقرير المصير. وبالتالي فإنه قبل نهاية عام 1995 كان قد تم قبول تقرير المصير من قبل جميع الأطراف السياسية في البلاد باعتباره السبيل الوحيد لحل مشكلة الجنوب.
وفاء وانقسام
ظل نهج الحركة الشعبية في مفاوضات السلام متسقاً حتى وقوع الإنقسام. كان مطلوباً من الحكومة التي توجد في الخرطوم الوفاء بالشروط المسبقة للحركة قبل أن تشارك الأخيرة في المؤتمر القومي الدستوري الذي سيناقش مشاكل السودان ويضع لها الحلول. كان من المفترض أن يضم المؤتمر كل الأحزاب السياسية والنقابات في البلاد. هذه الشروط المسبقة شملت التالي : إلغاء قوانين الشريعة, رفع حالة الطوارىء, إلغاء المعاهدات العسكرية مع الدول الأخرى, إعلان أنَّ المشكلة هى مشكلة قومية وليست مشكلة الجنوب. المحادثات لم تتطرق لمناقشة حل مشكلة الجنوب حيث تم إرجاؤها إلى حين قيام المؤتمر القومي الدستوري.
حركة الناصر قامت بتغيير كل ذلك. لم تضيِّع الحركة الشعبية فصيل الناصر الوقت في طرح حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان في مفاوضات السلام. حدث ذلك في فرانكفورت 1992, و محادثات أبوجا في مايو/يونيو 1992. الفصيل الآخر, الحركة الشعبية جناح توريت راوغ في محاولته لإرضاء قاعدتين متباينتين : الجنوبيين من طرف, وأصدقائه الشماليين من الطرف الآخر. ولذلك كان يتبنى تقرير المصير تارة مثلما حدث مع وفده لمفاوضات أبوجا في 1992, ويرفضه تارة أخرى مؤكداً موقفه الداعي لسودان موحَّد.
المحادثات اللاحقة بين الحركة الشعبية جناح توريت وحكومة السودان منذ عام 1997 أضاعت وقتاً ثميناً (1998 – 2002) في مناقشة "الدين والدولة" وهى قضية يعرف كل الجنوبيين أنها لن تحل إلا في إطار تقرير المصير. هذه الحقيقة أدركها فقط الوسطاء في بروتوكول مشاكوس الذي نص على حق تقرير المصير للجنوبيين إذا حكم الشمال بمبادىء الشريعة. هيأ بروتوكول مشاكوس المسرح لمفاوضات حقيقية لحل مشكلة الجنوب ممَّا قاد إلى التوصل لإتفاق السلام الشامل. الحركة الشعبية فاوضت من أجل الجنوب, ومع ذلك إلتزمت بالعمل من أجل سودان موَّحد عبر جعل "الوحدة جاذبة" للجنوبيين!!
صحيح أنَّ الحركة الشعبية غيَّرت موقفها لاحقاً في 2010 لصالح إنفصال جنوب السودان, ولكن ما تزال تركة "السودان الجديد الموَّحد" تخيِّم على تفكير الحركة الشعبية وهو الأمر الذي يرجَّح أن يؤثر سلباً على العلاقات بين دولتي السودان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.