د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    السجن لمتعاون مشترك في عدد من قروبات المليشيا المتمردة منها الإعلام الحربي ويأجوج ومأجوج    الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    المرِّيخ يَخسر (سُوء تَغذية).. الهِلال يَخسر (تَواطؤاً)!!    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان والسودان الجنوبي.. فرص وتحديات (1-2)
نشر في السوداني يوم 04 - 08 - 2012


ترجمة: بابكر فيصل
في التاسع من يوليو 2011 أنهى جنوب السودان وحدة وطنيَّة هشة كانت قائمة بينه وشمال السودان وأضحى دولة مستقلة. وقد جاء الإستقلال في أعقاب تصويت الجنوبيين في إستفتاء تمَّ في أبريل 2011 حول إنفصال الجنوب أو بقاءه جزءا من السودان. وجاءت النتيجة بأغلبية ساحقة لصالح الإنفصال. هناك العديد من الفرص المتاحة أمام دولتي السودان وجنوب السودان كما أنهما في نفس الوقت تواجهان العديد من التحديات. نجاح البلدين يتوقف على إتباع النهج الأمثل للإستفادة من الفرص, والتعامل بحكمة مع التحديات.
نال السودان إستقلاله في 1956 وعلى الرغم من ذلك لم يشهد إستقراراً بسبب الحرب التي إندلعت في جنوب السودان في 1955 خلال فترة الحكم الذاتي التي سبقت قيام الدولة المستقلة. لقد إحتدمت هذه الحرب طوال نصف قرن, ولم يعرف البلد سلاماً إلا خلال الأحد عشر عاماً التي أعقبت إتفاق سلام أديس أبابا, و من ثمَّ إتفاق السلام الشامل الذي تمَّ توقيعه في 2005. لمعرفة الفرص والتحديات التي تواجه البلدين توجد حاجة ملحة للنظر في تاريخ العلاقات بين الشمال والجنوب قبل وبعد إستقلال السودان والتطورات السياسية طوال تلك الفترة.
جدل حاد
ظلت علاقات شمال وجنوب السودان موضع جدال حاد, و مشحون في بعض الأحيان بالعواطف على مدى عقود، و من المُرجَّح أن تستمر هكذا حتى بعد أن إنقسمت البلاد إلى دولتين مستقلتين تتمتعان بالسيادة.
بحلول القرن التاسع عشر بدا الجزء الواقع شمال خط العرض 13 موحداً إلى حد ما على أساس الإسلام والثقافة العربية. عروبة السودان - على العكس من معظم الدول العربية- عروبة ثقافية وليست عنصرية. ومع ذلك فإنَّ عملية التعريب والأسلمة التي بدأت في الشمال منذ القرن السادس عشر لم تحرز أي تقدم داخل جنوب السودان لأنَّ القوميات الجنوبية المجاورة للشمال كانت الأقوى عسكرياً. لقد رجحت كفة الميزان العسكري لمصلحة الشمال بسبب أسلحة الحرب التي أدخلها الفتح التركي - المصري و استمرَّت خلال المهدية. ولكن على الرغم من ذلك لم يتمكن ذينك النظامين – التركي والمهدوي – من إطباق السيطرة على الجنوب. ومن هنا, فإنَّ إدعاء النخبة الشمالية بكافة أطيافها أنَّ الإدارة البريطانيَّة هى التي قطعت الطريق أمام عملية الأسلمة والتعريب إدعاء لا تسنده شواهد التاريخ.
الحكم البريطاني, في الواقع, لم يعمل على نشر المسيحية على الإطلاق بل العكس هو الصحيح. حيث سيطر على خيال البريطانيين هاجس وقوع ثورة إسلامية متشددة على نسق المهدية في الشمال وبالتالي فقد تجنبوا - خصوصاً وينجت باشا الذي كان الحاكم العام لمدة ثمانية عشر عاماً - كل ما من شأنه الإساءة إلى المسلمين. وعليه فقد عرقلت الإدارة البريطانية مجيء الجمعيات التبشيرية للسودان, وحتى عندما سمح لها – أى الجمعيات – بالدخول للجنوب تمَّ فرض ضوابط صارمة على أنشطتها. وجاءت ردة الفعل البريطانية المعروفة باسم "السياسة الجنوبية" بعد عدة عقود من الزمن.
الإتصال بين القوميات الجنوبية والأجانب (المبشرون والتجار) الذين توافدوا إلى هناك ابتداء من القرن التاسع عشر إتسَّم بصدام الثقافات. الدخلاء كانوا يجهلون تماماً وكذلك لم يبدوا إهتماماً بالقيم الأفريقية, ولذلك سرعان ما تحول التوتر إلى شكوك وصراع. تجارة الرقيق ليست سوى أحد العوامل التي أدت إلى توتر العلاقات بصورة مؤثرة. لكن من المهم الإشارة إلى أنه حتى بداية القرن التاسع عشر كان الرقيق في الشمال يجلب بصورة رئيسية من جبال النوبة والمناطق الواقعة جنوب الروصيرص على الحدود مع المناطق الإسلامية. لم يتدفق الرقيق الجنوبي إلى الشمال إلا في أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر بعد إنسياب الملاحة على النيل الأبيض.
كانت هناك آراء في أوساط المسئولين البريطانيين في السودان خصوصاً في فترة العشرينيات من القرن الماضي تنادي بإتخاذ خطوات من أجل تمكين المؤسسات الجنوبية المحلية " للصمود في وجه التأثيرات الخارجية المضادة ". بالطبع إتخذت الإدارة البريطانية بعض التدابير الهادفة للحد من التأثير الإسلامي والعروبي في جنوب السودان ولكن النتيجة النهائية لم تكن بحجم التوقعات. ومع ذلك لم تعلن أية سياسة رسمية تنادي بفصل الجنوب عن الشمال. وعلى أية حال إنتهت التكهنات في هذا الشأن في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث وقف البريطانيون بحزم مع وحدة السودان.
مواقف متعارضة
من المهم التأكيد على أنَّ التطورات السياسية في السودان خلال فترة الحكم الاستعماري تأثرت بالمواقف المتعارضة لشريكي الحكم الثنائي ( مصر – بريطانيا ), هذا إذا لم تكن هذه التطورات نتاج هذا التضارب في المواقف. كانت مصر هى حليفة الشمال التي لا تتزعزع أمَّا بريطانيا فإنها لم تكن لتدفع مصر لحافة الهاوية نسبة لمصالحها فيها. حلفاء بريطانيا الشماليين وخصوصاً عبد الرحمن المهدي أدركوا هذه الحقيقة بصعوبة في أعقاب بروتوكول صدقي- بيقن ممَّا اضطرهم إلى التوصل إلى اتفاق مع مصر حول مستقبل السودان.
بعض الجنوبيين الذين كانوا يعيشون تحت وهم أنَّ بريطانيا ستقف معهم وتدعم قضيتهم لأسباب عاطفية, مثل الدين المشترك أو لتبنيهم اللغة الإنجليزية, كان عليهم أن يعرفوا أنَّ السياسة تحركها المصالح وليس المشاعر. قبل كل شىء فإنَّ الدليل العملي يؤكد أنَّ السودانيين الشماليين هم في الحقيقة الأكثر "تغرباً" ( قرباً إلى الغرب ) وليس الجنوبيون كما يعتقد خطأ. عندما تخلى الأزهرى عن موقفه المنادي ب "وحدة وادي النيل" غازلت مصر لفترة وجيزة فكرة التحالف مع الجنوبيين لإثارة المتاعب, أمَّا بريطانيا فقد غيَّرت مسارها، واعتمدت سياسة دعم الأزهري.
سجل الأحزاب السياسية الجنوبية به الكثير من الأمور التي تغري بالنظر. فهذه الأحزاب قد إفتقرت إلى الإستقلالية في العمل, وفي كثير من الأحيان جعلوا أنفسهم أحزاباً ملحقة بالأحزاب الشمالية. وكانت تلك الأحزاب السياسية الشمالية مثل حزب الأمة والحزب الشيوعي السوداني التي ظهرت للوجود في أربعينيات القرن الماضي على العكس من الأحزاب الجنوبية قادرة على الصمود في وجه تقلبات السياسة السودانية. لم يستمر أي حزب من الأحزاب الجنوبية القديمة في مواصلة نشاطهُ بعد أي من الانقلابات العسكرية التي كان أول تصريح لها على الدوام هو حظر الاحزاب السياسية. اختفى الحزب الفيدرالى بعد انقلاب عام 1958 واختفت كذلك الجبهة الجنوبية بعد انقلاب 1969 العسكري. ظلت هناك أحزاب جديدة تظهر من حين إلى آخر. حركة تحرير جنوب السودان التي فاوضت نيابة عن الجنوب في إتفاق أديس أبابا حلت نفسها والتحق قادتها بتنظيم النميري المعروف ب " الإتحاد الإشتراكي السوداني" الذي كان قيد التكوين في حينها.
النضال والسلام
لقد تمَّ دفع الجنوبيين – بالأقوال والأفعال – دفعاً لحمل السلاح من قبل كل الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في الخرطوم بعد الإستقلال والتي فشلت في الإنصياع لمطالبهم المشروعة في الشراكة المتكافئة في حكم البلاد والإعتراف بالتنوع في السودان.
في ظل ظروف صعبة خاضت الأنيانيا النضال من أجل التحرير ببسالة حتى توصلت لإتفاق أديس أبابا, وهو إنجاز مثير للإعجاب في ظل الظروف السياسية في ذلك الوقت. خاطبت اتفاقية أديس أبابا المطالب الثلاثة للجنوب التي تسببت في فشل مؤتمر المائدة المستديرة, هذه المطالب تمثلت فيما يلي : أن يعامل الجنوب ككيان واحد، والانتخاب بدلاً من التعيين لزعيم الجنوب في أي ترتيب في البلاد ، وأن يكون لحكومة الجنوب رأي في نشر الجيش في الجنوب. شكل إتفاق أديس أبابا نجاحاً كبيراً من حيث أنه أنهى حرباً استمرت 17 عاما ودمرت الجنوب, كما أنه مكن الجنوبيين للمرة الأولى من إدارة شؤونهم بأنفسهم، وفتح فرصاً للتعليم لطالما تمَّ جحدها أو إهمالها. ومع ذلك، فقد فتحت المشاحنات السياسية والصراع على السلطة بين الساسة الجنوبيين الطريق للتدخل الشمالي في شؤونهم مما أثار استياء شريحة واسعة من المثقفين. بعد تجربة الحكومة الاقليمية في جنوب السودان، لم تعد فقط العلاقات بين الشمال والجنوب هي المشكلة التي تحتاج للحل فقد ظهر بعد جديد فرض نفسه على جدول الأعمال السياسي وهو الوحدة الوطنية الجنوبية, التي أضحت موضعاً للتساؤل بعد أن كانت أمراً مفروغاً منهُ.
طوال فترة الحكومة الإقليمية في جنوب السودان ( أبريل 1972 – يونيو 1983 ). وقف الساسة الجنوبيون بثبات من أجل وحدة السودان. وقد تبدى ذلك في العديد من الأمور. أصبحت كلمة "وحدة" كلمة مفتاحية حيث أطلقت على الساحات العامة, والبنوك, وحتى حقول النفط سميت "الوحدة". الأمر اللافت للنظر بصورة أكبر هو أنه في يوليو 1976 عندما قامت قوات المعارضة الشمالية "الجبهة الوطنية" بغزو الخرطوم من خارج البلاد وإستولت على إذاعة أم درمان لثلاثة أيام, كانت إذاعة جوبا هى التي تبث بإسم أمدرمان. ولو كان الساسة الجنوبيون إنفصاليين لكانوا قاموا ببث إعلان الإستقلال عبر راديو جوبا في الوقت الذي كان يوجد فيه فراغ في السلطة في الخرطوم. موقف الساسة الجنوبيين هذا كان نتاجاً لشعورهم بأنهم مشاركون بفعالية في تقاسم السلطة, وأنَّه تم إحترام تنوعهم الديني والثقافي , وانه لم يكن هناك أى تدخل من الشمال في إدارة شئونهم.
حراك باطن
في أوائل الثمانينيات كانت هناك عدة حركات تنشط تحت الأرض بهدف إطلاق الكفاح من أجل إنفصال الجنوب. كلا الشرطين الذاتي والموضوعي كانا متوفرين لقيام الثورة. وانطلقت الشرارة من المشكلة التي إندلعت بسبب إعادة نشر وحدات من قوات الأنيانيا ممَّا أدى لتمردها في بور, والبيبور, وأيود في 1983. وهكذا عاد الجنوب مرة أخرى لحمل السلاح.
حركة التحرر الوطني التي شكلت حديثاً - الجيش الشعبي/ الحركة الشعبية - أربكت الجنوبيين والشماليين على حد سواء وذلك من خلال الدعوة ليس لفصل الجنوب ولكن من أجل وحدة السودان. وكانت اثيوبيا مستعدة لإستضافة الحركة التي مثلت فأساً في يدها للمطاحنة مع الخرطوم التي إتهمت بايواء المتمردين الذين يقاتلون الحكومة الاثيوبية ( المعاملة بالمثل ). الحركة الشعبية / الجيش الشعبي وجدت دعماً كبيراً كذلك في ليبيا التي كانت في وقت سابق قد قطعت علاقاتها مع الخرطوم. اليمن الجنوبي، العضو الآخر في محور عدن، قام بدعم الحركة الشعبية أيضاً. وبالتالي, فإن الحركة الشعبية إنطلقت بجيش وإمدادات عسكرية جيدة. بحلول عام 1984 امسكت الحركة بزمام المبادرة مما اضطر القوات المسلحة السودانية في الجنوب إلى إنشاء عدد من الحاميات في حين أن الجيش الشعبي كان يتحرك بحرية في الريف.
تراجع شعبية النظام في الشمال إلى جانب الأوضاع العسكرية في الجنوب جعلا الأمر يبدو كما لو أنَّ الإنتصار العسكري للجيش الشعبي قد بدأ يلوح في الأفق. ولكن انتفاضة مارس / أبريل في عام 1985 أخذت الحركة الشعبية على حين غرة وغيرت المعادلة تماماً. رفضت الحركة الشعبية التعامل مع المجلس العسكري الانتقالي الذي اطلقت عليه إسم ( مايو-2 ) في حين وافقت على التعامل مع مجلس الوزراء المدني وقوى الانتفاضة (الأحزاب السياسية ونقابات العمال). كيف يمكن الوصول للسلام من دون مشاركة وموافقة المجلس العسكري الإنتقالي الذي يملك السلطة صاحبة السيادة, ظل سؤالاً من دون إجابة. ومنذ ذلك الحين تبنت الحركة الشعبية سياسة التفاوض مع القوى السياسية فقط وليس مع الحكومة في الخرطوم. إتفاقيات كوكادام (1986) والميرغني-قرنق (1988) هي مثال على ذلك. وكانت المرة الوحيدة التي إلتقت فيها الحركة الشعبية بوفد حكومي في يونيو 1989 قبل أيام قليلة من الإنقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة المنتخبة ديمقراطياً في الخرطوم والتي جاءت الى السلطة في عام 1986.
الإنقلاب الذي خططت له ونفذته الجبهة القومية الإسلامية إستولى على السطة في يونيو 1989. قام النظام منذ البداية بتقديم مبادرات سلام للحركة الشعبية ولكنها تجاهلتها. وكانت المرَّة الأولي التي يلتقي فيها وفدا الطرفين في أديس أبابا في أغسطس 1989. هذا اللقاء والآخر الذي أعقبه في نوفمبر/ديسمبر لم يحققا أية نتيجة.
داخل الحركة الشعبية بدأت القضايا التي تمَّ السكوت عنها في فترة التكوين والبناء تطفو على السطح. في أغسطس 1991 أصدر ثلاثة من أعضاء القيادة السياسية والعسكرية العليا إعلان الناصر الذي دعا الحركة لتبني حق تقرير المصير كهدف وحيد للنضال, ودعا أيضاً إلى احترام حقوق الإنسان داخل صفوف الحركة, وإنشاء إدارة في المناطق المحررة. و هكذا عاد مبدأ تقرير المصير مرة أخرى للخطاب السياسي في السودان. على الرغم من أنَّ الحركة الشعبية جناح توريت راوغت بشأن هذا المبدأ إلا أنها عادت و قبلته في شقدوم عام 1994. حكومة السودان وافقت عليه في فرانكفورت، ألمانيا عام 1992، وكذلك في إتفاقات سلام الخرطوم وفشودة في 1997، و نصَّت عليه في دستور لعام 1998. وافقت المعارضة الشمالية في أسمرا في عام 1995 على منح جنوب السودان حق تقرير المصير. وبالتالي فإنه قبل نهاية عام 1995 كان قد تم قبول تقرير المصير من قبل جميع الأطراف السياسية في البلاد باعتباره السبيل الوحيد لحل مشكلة الجنوب.
وفاء وانقسام
ظل نهج الحركة الشعبية في مفاوضات السلام متسقاً حتى وقوع الإنقسام. كان مطلوباً من الحكومة التي توجد في الخرطوم الوفاء بالشروط المسبقة للحركة قبل أن تشارك الأخيرة في المؤتمر القومي الدستوري الذي سيناقش مشاكل السودان ويضع لها الحلول. كان من المفترض أن يضم المؤتمر كل الأحزاب السياسية والنقابات في البلاد. هذه الشروط المسبقة شملت التالي : إلغاء قوانين الشريعة, رفع حالة الطوارىء, إلغاء المعاهدات العسكرية مع الدول الأخرى, إعلان أنَّ المشكلة هى مشكلة قومية وليست مشكلة الجنوب. المحادثات لم تتطرق لمناقشة حل مشكلة الجنوب حيث تم إرجاؤها إلى حين قيام المؤتمر القومي الدستوري.
حركة الناصر قامت بتغيير كل ذلك. لم تضيِّع الحركة الشعبية فصيل الناصر الوقت في طرح حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان في مفاوضات السلام. حدث ذلك في فرانكفورت 1992, و محادثات أبوجا في مايو/يونيو 1992. الفصيل الآخر, الحركة الشعبية جناح توريت راوغ في محاولته لإرضاء قاعدتين متباينتين : الجنوبيين من طرف, وأصدقائه الشماليين من الطرف الآخر. ولذلك كان يتبنى تقرير المصير تارة مثلما حدث مع وفده لمفاوضات أبوجا في 1992, ويرفضه تارة أخرى مؤكداً موقفه الداعي لسودان موحَّد.
المحادثات اللاحقة بين الحركة الشعبية جناح توريت وحكومة السودان منذ عام 1997 أضاعت وقتاً ثميناً (1998 – 2002) في مناقشة "الدين والدولة" وهى قضية يعرف كل الجنوبيين أنها لن تحل إلا في إطار تقرير المصير. هذه الحقيقة أدركها فقط الوسطاء في بروتوكول مشاكوس الذي نص على حق تقرير المصير للجنوبيين إذا حكم الشمال بمبادىء الشريعة. هيأ بروتوكول مشاكوس المسرح لمفاوضات حقيقية لحل مشكلة الجنوب ممَّا قاد إلى التوصل لإتفاق السلام الشامل. الحركة الشعبية فاوضت من أجل الجنوب, ومع ذلك إلتزمت بالعمل من أجل سودان موَّحد عبر جعل "الوحدة جاذبة" للجنوبيين!!
صحيح أنَّ الحركة الشعبية غيَّرت موقفها لاحقاً في 2010 لصالح إنفصال جنوب السودان, ولكن ما تزال تركة "السودان الجديد الموَّحد" تخيِّم على تفكير الحركة الشعبية وهو الأمر الذي يرجَّح أن يؤثر سلباً على العلاقات بين دولتي السودان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.