مات ولم يبلغ الستين، سبعة وخمسون خريفا إنقضت وتركت العالم مشدوها فاغرا فاهه في هذا الرجل كيف بدأ وكيف نجح والظروف كلها تدعوه للفشل. مقارنة بالرؤساء في دول العالم الثالث، من الغريب أن يحكم شخص في السادسة والثلاثين ويرحل دون الستين. يرحل دون أن يطالبه شعبه بالرحيل ويضيق به ذرعا ويرجمه بالحجارة ... كل هذا لم يحدث ... القلق على صحته كان شعورا شعبيا ... وهو قلق على مسيرة التنمية والنمو الإقتصادي التي بدأت ... وأثمرت ..! وداعا أبو سمهل وهي بنته البكر التي ولدت في السودان في حي (الديم) حيث يقطن مئات اللاجئين والمهاجرين من الدول المجاورة للسودان في مساكن شعبية ضيقة ومتزاحمة. وزوجته أزيب مسفن كانت هناك تقضي أياما قبل أن تعود للقتال في الجبهة كعادة الكثيرين من مقاتلي ومقاتلات جبهات التحرير الذين ينطلقون من السودان لتخليص بلادهم من نظام (منقستو هايلي مريم) الوحشي الدموي الذي قتل قرابة النصف مليون شخص بإتهامات سياسية أو لمجرد الإرهاب والتخويف. لمزيد من الإفادات حول هذا الأمر فإن زيارة واحدة لمتحف الرعب الأحمر في العاصمة الإثيوبية أديس أببا تكفي. يقع المتحف بالقرب من ميدان (مسكل) وهو الميدان الذي حشد فيه منقستو الجماهير ورماهم بثلاث زجاجات دم وقال لهم من يعارضني فإنني أريق دمه هكذا. ومن عجائب قسوة نظام منقستو أو (الدرق) والمعنى (حكم اللجنة العسكرية) أنه كان يأمر الأم بالغناء والرقص جوار جثمان إبنها القتيل المضرج بالدماء لأنه خان وطنه ويجب أن تفرح بمقتله. أبو سمهل، ملس زيناوي كان إسمه ليقيسا زيناوي ولكنه غير إسمه إلى ملس تخليدا لذكرى طالب جامعي نفذ فيه حكم الإعدام بتهمة معارضة النظام. وغادر ملس مقعد الدراسة في كلية الطب في جامعة أديس أببا لينضم للمقاتلين ضد نظام (الدرق) وهناك إلتقى بالشابة أزيب مسفن التي صارت زوجته لاحقا. ولذلك يوصف الرجل بالتواضع لأنه قام في حياة بائسة ونشأت أسرته الصغيرة وسط هذا الشقاء. لاحقا أكمل دراسة الإقتصاد في جامعة مفتوحة ثم حاز على الماجستير وهو زعيم لبلاده. وإجتهد الرجل ليؤسس لمدرسة إقتصادية لا هي إشتراكية مئة بالمئة ولا هي رأسمالية مئة بالمئة. مدرسة هجين فيها جرعات من هذا ومن ذاك ... مصممة بحيث تنفع مع البلاد التي طبقت فيها وليس أي بلاد أخرى. ومن ملامح هذه العبقرية مسألة (شركات النفع العام) والتي تنتقدها المعارضة بوصفها شركات حزبية ولكنها في حقيقة الأمر شركات (جهوية) تمثل القطاع الخاص في كل إقليم أو جهة وكما للجبهة السياسية التي تحكم الإقليم أو المحافظة مقدار من الإستقلال السياسي فإن لديها مقدارا من الإستقلال الإقتصادي على مستوى القطاع الخاص ... الإقليم الذي ينتج البن ينال حق تصدير البن فيه بعض الشركات من ذات الإقليم وليس غيره. الإقليم الذي ينتج السمسم ... تعصر الحبوب فيه مصانع (جهوية) وتبيع الزيت فيه داخليا وخارجيا شركات (جهوية) ... وهي إحدى عبقريات أبوسمهل!