كيف إذا كان وزير الصحة الولائي لا يعلم بما يجري في مستشفياته الخاصة، ولا يتابع ما يتم فيها، كيف له ان يكون ملماً ومتابعاً لما يجري في المستشفيات الأخرى الحكومية والخاصة؟ صعقت وأنا أطالع خبر «الوطن» الغراء صباح الاثنين الثاني من أبريل الحالي، والذي جعلت منه الصحيفة عنواناً رئيساً على صفحتها الأولى (بالأحمر)، «مواطن يبيع كليته لأجنبي .. والجراحة تمت بالزيتونة»، يقول الخبر إن الصحيفة بعد أن حصلت على معلومات خطيرة حول عملية نقل وزراعة كلية طرفها شاب سوداني، والطرف الآخر أجنبي بمستشفى «الزيتونة» بالخرطوم، الذي تتبع ملكيته للدكتور مأمون حميدة، وزير الصحة الولائي، تسلل أحد محرري «الوطن» إلى المستشفى المذكور، وقام بزيارة الشاب «بائع الكلية»، وجلس إليه، واستفسره عن حقيقة الأمر، و«بعفوية» أبلغه الشاب المعني بالتفاصيل الدقيقة الكاملة للعملية، وقال له إنه لا صلة ولا رابط بينه وبين الأجنبي «المتبرع له»، بل أنه لا يعرف اسمه الثاني، وأوضح - بما لا يدع مجالاً للشك - أن المسألة برمتها عملية «بيع وشراء»، وأنه تلقى «150» مليون جنيه «بالقديم»، لقاء كليته المباعة، وأن أسرة الأجنبي تكفلت والتزمت بجميع الإجراءات والتكاليف المالية التي سبقت العملية، من رسوم، وفحوصات، وغير ذلك، كإيجار الشقة التي سينتقل إليها بعد خروجه من المستشفى. ٭ الخبر - على هذا النحو الذي نشرته به «الوطن» - يشير إلى جريمة كاملة الأركان، جريمة إتجار بالأعضاء البشرية، في وضح النهار، و«مع سبق الإصرار» من جانب ثلاثة أطراف شركاء في الجريمة، هم: أسرة مريض الكلى التي اشترت، الشاب الذي باع، والمستشفى الذي أشرف على العملية، وقام بالجراحة والترتيبات الفنية والطبية اللازمة لنقل الكلية من الشاب البائع إلى المريض المنتظر والخبر - من ناحية أخرى - يثير مسألة مهمة بالنسبة للصحيفة التي نشرته - جريدة «الوطن» - فهو يتعلق بمصداقيتها ومسئوليتها القانونية، لأنها في هذه الحالة تواجه اتهاماً صريحاً وخطيراً للأطراف الثلاثة المذكورة، أسرة المريض الشاب، والمستشفى، بأنهم يرتكبون «جريمة الإتجار بالأعضاء البشرية»، فإذا لم تثبت الجريمة، فإن الصحيفة تواجه مشكلة كبرى، مشكلة مركبة .. مشكلة قانونية مع المتهمين من جهة، ومشكلة حول مصداقيتها مع القراء من جهة أخرى .. ولا أظن أن «الوطن»، ومحرريها، سيقدمون على نشر وقائع هذه الجريمة المكتملة الأركان دون تثبت من الوقائع وصحتها، لأنهم قطعاً يعلمون مسبقاً مترتبات هذا النشر الذي ذكرنا، في حالة قيام الأطراف المعنية بإثبات أن العملية تمت نتيجة «تبرع» من جانب الشاب، ولم يدخل عنصر المال والبيع والشراء والإغراء والتغرير فيها، وهذا مستبعد، فالأرجح عندي، والذي يمليه الحذر الضروري، هو أن الصحيفة قد استوثقت من دقة وصحة معلوماتها قبل أن تقدم على نشر قصة تعلم عواقبها وعقابيلها. ما يزيد الأمر تعقيداً هو أن المستشفى تعود ملكيتها لشخصية مرموقة، الوزير الولائي الدكتور مأمون حميدة، صاحب الإمرابطورية الطبية الأكاديمية الكبرى على مستوى الخرطوم والسودان، فاذا كان د. مأمون حميدة، الوزير الذي يدير الشئون الصحية في الخرطوم، والقيادي الإسلامي المعروف، يعلم بما جرى في مستشفى الزيتونة من تسهيل وتسليك لتجارة الأعضاء البشرية، فتلك مصيبة وخطيئة كبرى ترتب على مراجع الحكومة العليا - رئيس الجمهورية - ونائبيه، ووالي الخرطوم، والمجلس الوطني «البرلمان» مسؤولية اتخاذ الموقف الحازم والحاسم تجاه الوزير الولائى حميدة .. وإذا كان حميدة لا يعلم، فتلك أيضا مصيبة أخرى، وتقديم حسن النية يجعلني افترض أنه «لا يعلم»، وأن الأمر كله قد تم من وراء ظهره، لكن ماذا يعني عدم العلم هذا؟، بافتراض صحة ما نشرته الصحيفة، التي اتوقع واخمن أنها تملك الدليل والبينات الحاسمة، التي تثبت وقوع الجريمة. ٭ مع تقديم حسن النية هذا، بأن السيد الوزير مأمون حميدة لا يعلم ما جرى في «الزيتونة»، أو ما يجري في مستشفياته الخاصة، ولا يتابع ما يتم فيها، كيف له أن يكون ملماً ومتابعاً لما يجري في المستشفيات الأخرى الحكومة والخاصة؟ كما يبرز هنا في الأفق سؤال آخر، هل وضع الوزير لمشافيه، والعاملين فيها - من أطباء وممرضين وإداريين - محددات ومعايير أخلاقية «ETHICAL CODES»؟ تسود التعامل في مهنة الطب، وتنبه العاملين معه بضرورة مراعاتها، وإذا لم يفعل، وهو الأستاذ، البروفسير، وليس مجرد طبيب، أليس ذلك تقصير مشين يحسب عليه؟ .. ويطعن بالتالي في أهليته لتولي منصب الوزير الذي يدير شؤون الصحة في عاصمة البلاد؟. ومع ذلك .. وإذا ما تجاوزنا صاحب المستشفى - الوزير - وحاولنا أن نفهم دوافع المستشفى كمستشفى، والعاملين فيها للإقدام على عمل يمكن تصنيفه بأنه جريمة إتجار بالأعضاء البشرية، والدافع الأول هنا طعباً هو الربح، المتمثل في تكاليف العملية، فهل احتاطت المستشفى بإجراءات قانونية تنقذها إذا ما تم اكتشاف «العملية»؟، أم أنها ذهبت مغمضة العينين إلى ما فعلت، واعمتها الرغبة العارمة في الحصول على المال عن كل احتياط وتحسب، فمن الإجراءات الضرورية المعمول بها قبل الإقدام على عملية نقل وزراعة الكلى، هي تقديم المتبرع لإفادة خطية قانونية من جهة عدلية «إقرار» بأنه تبرع بكليته لشخص آخر «لوجه الله»، رجاءً لثواب الآخرة، لكن في الحالة التي نحن بصددها، حالة الشاب المتبرع، «الأجنبي» لا يعرفه، فحتى لو حصل المستشفى على هذا الإقرار القانوني، فلا بد أن يدفعه الحس السليم لما يعرف ب«الشك المعقول» بلغة أهل القانون، في أن وراء هذا الإقرار الموثق جريمة بيع للعضو البشري محل العملية، شك يقول: ما الذي يجعل هذا الشاب يتبرع بكليته - بكل ما يترتب على ذلك من مخاطر على صحته - لشخص أجنبي لا يعرفه، ولم يلتقه طوال حياته؟، وما الذي جعل المستشفى - بأطبائها وإدارييها المعنيين، بكل خبراتهم وتجاربهم الحياتية - تغض ويغضون الطرف عن دوافع الشك المعقول، وتذهب إلى العملية مغمضة العينين بلا أدنى تحسب؟!. ٭ تجارة الأعضاء البشرية غدت - في وقتنا الحاضر - جريمة عابرة للحدود القطرية والقارية، وتستهدف الفئات الفقيرة والضعيفة، التي تدفعها ظروفها الاقتصادية لبيع جزء من أعضائها، للحصول على بعض المال، الذي تعتقد أنه يبقي بقية الأعضاء حية، فما «جبرك على المار إلا الامر منه» كما يقولون، وبما أن بلادنا تصنف ضمن الدول الفقيرة، فإنه لا بد أن يكون فقراؤنا - وهم الأغلبية - هدفاً لتلك التجارة العابرة للحدود، تماماً كتجارة المخدرات والجريمة المنظمة .. وعليه فإن لدى الحكومة مسؤولية كبرى في مقاومة تلك التجارة باستحداث آليات - استخبارية -طبية - لمتابعة تلك الجريمة، ومنع انتشارها، وردع القائمين عليها، وألا تكون قد قصرت تقصيراً شنيعاً في حق الوطن والمواطن.