ليلة صيف رقَّ نسيمها وهدأ حتى حسبته (من أريج نسمات الشمال) كما صدح الراحلان / مبارك المغربي وعبدالعزيز محمد داؤد عليهما الرحمة .. وبالرغم من ذلك لم يدعوني هذا النسيم للنوم في راحة ورضى بعد تعب النهار فانتابتني الخواطر والذكريات والتداعيات .. وبينما أنا كذلك جذبني صوت من على البعد يشق أجواء الفضاء وعتمة الظلام وصار الصوت أكثر قرباً ووضوحاً وجلاءً ونقاءً حين أرهفت السمع حتى أدركت أنه ينبعث من احدى المحطات في إذاعة أمدرمان في احدى السهرات .. يحملها ويعطرها بالطرب والغناء المطرب الكبير د. عبدالكريم الكابلي حيث كان يتغنى في عزوبة ورخامة وتطريب برائعة الشاعر المفتن التيجاني حاج موسى (في عز الليل) ساعة النسمة ترتاح على هدب الدغش وتنوم انا مساهر فقد كانت كل مفردة منها تشكل وجداناً صادقاً وحباً خالصاً ونغماً دافئاً يتكئ عليه كل من يهوى الطرب الأصيل واللحن الجميل .. إذ أن الأستاذ الكابلي كان حصيلة لذلك العصر الذهبي الرائع في الغناء وخرجوا في عصر عامر بالطرب والمطربين الحقيقيين الذين لم يجُد الزمان بمثلهم .. فهو مبدع وخلاق وموسوعة ثقافية وأدبية وموسيقية، تعددت قدراته ومكانته الإبداعية وتباينت موضوعاته ولونياته اللحنية .. وشاعر رقيق وشفيف وأجمل ما كتب من أشعار تلك التي نظمها في حب الوطن وقد سلك لها طريقاً وجدانياً حاراً أطلق فيه لمشاعره العنان دونما قيود أو حدود، وهو من صفوة المثقفين الذين لهم إسهامات فاعلة في المحافل الاقليمية والدولية وببحثه الدؤوب وتنقيبه المستمر عن التراث كانت له محاضرات قيمة تتخللها نماذج غنائية تتحدث عن الاصالة والشجاعة والكرم والجماليات .. ومن الأغنيات الشعبية والتراثية تناول ما نظمته الشاعرة بنونه بت المك في مرثيتها الشهيرة وهي ترثي وتبكي أخيها «عمار» الذي أدركته المنبة وهو في فراشه بعيداً عن ساحات الحرب والوغي والقتال: ما دايرلك الميتة أم رماداً شح دايراك يوم لقاك بدميك تتوشح الميت مسولب والعجاج اكتح احي علي سيفو البسوي التح ويمضي كابلي في مسيرته الإبداعية فقد كانت له اهتمامات كبيرة بأمر التوثيق قائلاً .. إن التوثيق هو بقاء ورصد التجربة الإنسانية في كل زمان ومكان.. ولولاه لما تعرفنا على حياة الذين سبقونا من الأمم وعلى عاداتهم وثقافتهم وحضاراتهم وفلسفاتهم .. وبحسه وذوقه الفني الرفيع درج على اختيار وإنتقاء مفرداته من فحول الشعراء وعمالقتهم .. فقد كانت له تجربة ناضجة مع الشاعر د. تاج السر الحسن في الأنشودة الخالدة «آسيا وأفريقيا» التي تمخضت عن مؤتمر «باندونج» الشهير الذي عقد باندونيسيا في خمسنيات القرن الماضي .. وحفلت القصيدة بذكر أسماء عواصم وبلدان ورموز سياسية وإجتماعية وأدبية لم تزل اصداؤها ذات رونق وبريق: يا صحابي صانعي المجد لشعبي يا شموعاً ضؤوها الاخضر قلبي ياصحابي وعلى وهران يمشى اصدقائى والقنال الحر يجري في دمائي وأنا في قلب أفريقيا فدائي وعلى يا ندونج تمتد سمائي وبالفصحى تغنى للشاعر الحسين الحسن بثلاثة أعمال ظلت تتوهج كالدرر في خارطة الغناء السوداني وهي «طائر الهوى» «أكاد لا أصدق» ثم «إنني اعتذر» والتي شاعت بين الجمهور باسم «حبيبة عمري» وهذا المقطع: ذكرت حد يثك ذاك الخجول وصوتك ينساب منه الدرر ذكرت أصابعك العابثات بلا شئ الا قلوب البشر وعدت تذكرت أن هواك حرام على قلبي المنكسر ومن ديوان «الناصريات» لشاعره الناصر قريب الله رسم لنا هذه اللوحة الأنيقة التي تجسد جمال الطبيعة وسحرها. وفتاة لقيتها ثم تجنى تمر السنط في انفراد الغزال تمنح الغصن اسفلى قدميها ويداها في صدر آخر عال فيظل النهدان في خفقان الموج والكشح مفرط في الهزال وكما هو معلوم فإن تعدد الشعراء والالوان الشعرية يحدد الملامح الابداعية للفنان ويثري تجربته.. كما يتيح للمتلقى الذي يهتم بمسارات الفنون .. فرصة أكبر للتعرف على ألوان مختلفة من التعبير الوصفي والإبداعي .. لذا فقد كانت له وشائج وعلاقات مع شعراء كثر نذكر منهم محمد سعيد العباسي، الفيتوري إدريس جماع، د.حسن عباس صبحي عوض أحمد خليفة صديق مدثر وغيرهم، ومن أبرز الشعراء العرب نلمح الشاعر عباس محمود العقاد في «شذى زهر» وتغنى لشاعر بحريني لا أذكر اسمه باغنية «فضة»، أما الشاعر علي محمود طه المهندس فقد كانت «الجندول» رائعة الوطن العربي التي رددت باكثر من صوت مع تباين في اللونية اللحنية وقد عرفت بي «كليوباترا» وهو يستهدي على المفرق زهرة ويسوي بيد الفتنة شعره لمحب لفّ بالساعد خصره ليت هذا الليل لا يطلع فجره وفي مجال الشعر العربي القديم تغنى للبحتري ابن المعتز زياد بن ابيه ثم المتنبي الذي يعشق شعره منذ مراحل مبكرة من عمره: أرى ذلك القرب صار ازورارا وصار طويل السلام اختصارا تركتني اليوم في خجلة أموت مراراً واحيا مراراً أسارقك اللحظ مستحيياً وازجر في الخيل مهدى سرارا وأعلم أني إذا ما اعتذرت اليك أراد إعتذاري إعتذارا ولما كان كابلي من الذين تستنطقهم الكلمة الرصينة والاسلوب فقد تغنى من شعر الحقيبة للشاعر أبوصلاح من وصف الخنتيلة وغزال الروض وآخريات وبقوة صوته وأدائه المتميز كان له نصيب في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم .. فقد ترنم برائعة محمد المهدي المجذوب «اوبريت المولد»: صلى يا ربي على خير البشر الذي اسرج في ليل حراء قمراً أسفر من بدر السماء يقرأ الناس على اضوائه حكمة الخلق واسرار البقاء وينداح عطاؤه وإنتاجه وافراً وغزيراً .. فقد استطاع بعبقريته الفذة أن يؤدي بعض أغنيات المطربين الآخرين ليدحض ويفند المقولة السائدة «سمح الغنى في خشم سيدو» وبذات المهارة والنجاح الذي يصاحب أغنياته .. فقد تغنى لأمير العود حسن عطية بأغنية «لو أنت نسيت» و«يا ماري عند الاصيل» كلاهما للشاعر عبدالرحمن الريح .. وأيضاً الأغنية الوطنية «سعاد» .. ومن أعمال أبوداؤد شدا بأغنية «أحلام الحب» للشاعر محمد عبدالله الأمي من مدينة الابيض التي انجبت الشاعر العظيم محمد عوض الكريم القرشي الذي شكل ثنائية مذهلة مع الراحل عثمان الشفيع .. ردد له كابلي أغنية «الحالم سبانا» و«ملامة» أو لحن الحياة. هذه ومضات مشرقة من دفق وإبداع هذا الفنان الإنسان الذي أثرى وجدان هذه الأمة بكل ما هو بديع وجميل .. عمل على انتشار الأغنية السودانية خارج الحدود بكل أصالتها وجمالياتها.. وهو من أولئك الرجال الذين يعمدون المسارح الاجنبية والمهرجانات والفعاليات بعلمهم وأدبهم وفنهم حتى صاروا لأوطانهم كالنجوم الزواهر في كافة المجالات. فهو سفير السودان الدائم في هذا الصدد وأيضاً سفير النوايا الحسنة و«مرسال الشوق» بكل الشجن والألق والحب والجمال والسلام.