الإبداع ذلك الإحساس المكنون بالمشاعر الإنسانية العامرة وبشعور الأخرين يحفر فينا خطواته مداميك ليظل تاريخاً انسانياً لا يعرف الجنس أو اللون أو الهوية ولا المكان ولا الزمان ويبحر في عباب الوجد دوما إشراقا لايقبل النسيان راسياً على ضفاف العشق الأبدي قليل جداً أولئك الذين رسموا ونقشوا على جدران الوطن الواسع حروفا صارت إعلاماً ورايات لا تمحوها الليالي وإن طالت . محمد وردي ذلك الفنان الهرم المعتق الذي دخل كل البيوت دون استئذان عطرها بروح الفن وبروائع الإبداع وحلو النغم والتطريب خاطب العواطف و بصدق، وبعث بشارات تسمو فوق السموات لحنا عبقريا وبدع في مسيرته الفنية فصار واحدا من سفراء الانسانية ، غنى للعمال والزراع والطلاب والمرأة والطفل ، غنى للتراب والغربة والوطن ، غنى لأفراح الشعب منذ بدايات مسيرته الاولى وحتى اخر لحظة في حياته ولج باب التاريخ من اوسع اتجاهاته ، صار مجددا ومستلهماً ومزكراً للأحداث ،وفي سبيل ذلك ضحى بالكثير والفنان الذي يؤمن برسالته وأهدافها تظل ديناً على عاتقه أهدافا لا تعرف التراجع والإنكسار ، تعرفه افريقيا بكل غاباتها وسهولها ووديانها وشعوبها كمطرب متطور ومتقدم يغني للانسانية والحرية والديمقراطية ، ساهم في المسئولية الاجتماعية تجاه الأخرين يرص مع غيره لبنات التواضع والإحترام كرسالة سامية للاغنية والكلمة الدارجة منها والمحلية والفصحى ينشط دوما وبمسئولية كاملة وتامة فيما ينشد من غدا أفضل لغيره . وفي سبيل رسالته الإنسانية ظل وردي طوال مسيرته يطور نفسه ويختار من المفردات والألحان ما يخدم قضاياه وفيا لشعبه ولأهله وعشيرته وعاشقاً متيماً للغته النوبية ، أدخل في مغناه الوطن و معان التواصل لأجيال تأتي وتحمل البشارة و الجسارة والإنتماء الحقيقي للأرض والإنسان . كلل مساعيه بالتواصل المستمر مع غيره وحفظ لهم الود ومد يد العون دون أن ينال لنفسه مكانة شخصية ، ولقد مكنته مساهماته المتطورة والمتفردة في أن يحتل أفئدة العديد من العشاق وأن ينساب الى مسمات الوجع الحقيقي للوطن . رحل وترك اثرا وتراثا خالدا شهد له الجميع بذلك، لا نقول ترك فراغاً وإن رحل بجسده وفإن أعماله ونشاطاته باقية تحكي .. وتمشي بين معجبيه ذكرى ومواقف .. وتسجل للاجيال القادمة تاريخا . وفاءً من زملائه وأصدقائه وتلاميذه في الوسط الفني سارعوا وتنادوا وتنافسوا لإخراج ليلة تاريخية سميت (وردي ما بين النضال والجمال) (نخت اسمك على باب الزمن اكليل ) حيث تبارى الجميع اسهاما باداء أعماله الغنائية موسيقى لحنية متكاملة ، وكانت ليلة فريدة في، تلك الاحتفائية التي احتشد لها الجميع بدار اتحاد المهن الموسيقية ، فئات عمرية متنوعة واذواق شتى وحضورا جميلا ونبيل شاركوا جميعا بمتابعة مسيرة الهرم الإفريقي وردي والتي إمتدت لاكثر من نصف قرن من عمر الزمان فكانت لحظات استرجعت الماضي البعيد لأعمال غنائية ووطنية حبيبة على النفس ... روعة وجمالاً وخلوداً وامتداداً لأجيال متعددة وجمل تلك الأمسية الندوة الوثائقية التي ساهم فيها الاستاذ معاوية حسن يس والتي حكت عن مشروع وردي الإنسان منذ طفولته ومراحل تطوره الى أن تربع على قمة قلوب محبيه ومريدي وعشاق فنه .وان ليلة الوفاء تلك هي ديناً طبيعي لسلسة من ليالي التكريم لهذا الفنان القامة . إن ما يميز حب الناس لوردي ليست مخاطبته لأنبل ما يملك الإنسان من أحاسيس ومشاعر بل تطويقه لألحانه بالجديد وتنافس لأعماله الجديدة السابقة ولأدائه المميز الذي صار مدرسة فريدة في المجالين العاطفي والوطني . إن مشروع محمد وردي الإنساني يتطلب الدراسة والبحث عن مكنونات هذا الكنز الثمين والمحتشد بالمعاني والقيم الروحية والجمالية التي مثلت أزهى عصراً للغناء الانساني في السودان وهو امتداد لخليل فرح، وكرومة ،وسرور والكاشف وبقية العقد الفريد الذي زين وجمل الساحة بروائع المفردة الغنائية . أن المحافظة على هذا الإرث الفني والانساني يتطلب الجهد الكثيف والتنقيب المستمر في بحر هذا المبدع العملاق والذي صار ملكا عاما للانسانية التي تنشد مجتمع العافية و التساوي واحترام الغير . وهذا المشروع الإنساني الذي اسس له محمد وردي بالعرق والصبر والتدريب ودفع في اوقات كثيرة ثمنه غربة في الداخل والخارج وحرمه من أبسط حقوقه الإنسانية يتطلب الحفاظ على هذا المشروع ، وردي المبدع والذي صار شامة وعلامة لا يمكن تجاهلها لأى باحث في التاريخ السوداني ومساهماته الكثيرة و الحافلة بالإبداع والتي لم يمهله الوقت لاكمال بعض تلك المشاريع ،والوطن الكبير الواسع الذي كان حلمه في أن يتحقق وهوحلم ليس ببعد لمن إمتلك مشروعة التأسيس . إلي أن نلتقي.. ويبقي الود بيننا Kanona.n.p.f @hotmail.com