إن ما يُحزن هو ما فشلت فيه الأيدي الاستعمارية الأجنبية، وقد نجحت فيه الأيدي الوطنية، أو ما تدعي ذلك... فقد نجح الاستعمار في أن يزرع قنابل موقوتة بأيدي المحليين لكي تنفجر بينهم في لحظات غدر وخيانة تاريخية لن تنساها الأجيال القادمة.. فشل الاستعمار الإنجليزي في أن يفرق بين الشمال والجنوب وللحقيقة التاريخية قد عمل بعض أبناء الشمال الحادبين على وحدة السودان مع أبناء الجنوب على تفويت الفرصة على الإنجليز في نزع الوحدة وتقسيم الدولة الواحدة، فأنشأ الجنوبيون مع أقرانهم الشماليين (جمعية رفاهية جنوب السودان) وأرسلوا مذكرة لمدير المديرية الاستوائية تتضمن رفضهم للتقسيم بينهم، وجاء في أحد مطالبها كالآتي: (لا نرى في أن تقسم الحكومة السودان إلى فصيلين شماليين وجنوبيين، ولم نسمع بأن هذا قد حصل في أي بلد آخر غير السودان، وليس هنالك من سبب لفصل ولدين أمهما واحدة، فإن كان السبب هو أننا أكثر سواداً في لوننا، فإن عدداً كبيراً من الشماليين في نفس لوننا، وكثير منهم تجري في عروقه دماء الجنوب).. وهذا ما يؤكد على الرغبة الحقيقية للشماليين والجنوبيين في ظل وطن واحد، بعيداً عن الجهوية والإثنية والشعارات الدينية الكاذبة.. وللأسف نجحت الأيدي الغادرة بأن تخذلهم وتشتت الشمل وتفرق الجمع.... وما زال التفتيت جارياً، فها هي منطقة أبيي التي أصبحت بفعل السياسة الخاطئة كالقنبلة الموقوتة التي ستنفجر في وجه الشمال والجنوب، إن ظلت تجثم علينا تلك السياسات العقيمة.. فأبيي التي كانت هادئة وآمنة بقبائل عاشت تاريخها ملتئمة ومتحدة، تراحموا في ماضيه، وتحابوا وتآخوا وتصاهروا، ولم يسجل التاريخ حرباً بين سكانها (المسيرية والدينكا)، فموروثاتهم الثقافية من خلال أشعارهم وغنائهم أكبر دليل على ذلك.. فكانت النساء تحكي تلك الحالة وهن ينعمن بصفاء العيش والطمأنينة والسلام في ربوع المنطقة.. كانت بنات الدينكا يغنين لنظّار المسيرة وبنات المسيرية تحكي أغانيهن بطولات الدينكا.. ونتيجة للمصاهرة نتج جيل هجين، فبنات تور جك الدينكاوي أنجبن فرّاس نتيجة زواجهن من عرب المسيرية، رفعوا لواءت خيول المسيرية منهن يونس ود رابح وبرشم ود عبد الحميد وغيرهم... وحاول الإنجليز تفرقة ذلك الجمع، فرفض الناظر دينق مجوك والناظر بابو نمر، فأرسل مدير المديرية تقريراً سرياً بتاريخ 21 يوليو بأن التيم المكلف باختراق القبيلتين فشل في أن يفرق بينهما.. ولم يستطع زرع الفتنة بينهما لفض الترابط والتماسك القوي، وضرب القبيلتين فعلاً المثل الأعلى في التوافق والإخاء... حتى حلت اللعنة وانتزع منها السلام وأصبحت قضية في محاكم العدلة الدولية والاتحاد الأفريفي.