بعد إحالته إلى المعاش وبعد طواف وتجارب أمضاها في سبيل تمضية الوقت وقتله اقتنع بأنه من الأفضل له مشاركة الناس أتراحهم في الوفيات التي تحدث لهم فهو يلتقي بقُدامى رفاقه ومعارفه وزُملاء العِلم وأقربائه فلا ينقطع تواصله مع الناس وفي تلك التجمعات تنساب إليه المعلومات ومن تلقى ضربات موجعة أفقرته ونزلت به أسفل السلم الاجتماعي، هذا بجانب خفايا أخبار السياسة وخفايا الصراعات التي تحدث في عالم إدارات كرة القدم ونجوم الملاعب. كان يهتم كغيره من الناس حضور يوم «التفريقة» حيث يتم إعلان رفع الفراش وانتهاء أيام العزاء كانت البداية فيما مضى بكلمات قليلة من أحد أقارب المتوفى يعلن فيه رفع الفراش وانتهاء أيام المآتم مع شكر جميع من شارك في أيام العزاء في فقيدهم. تطور الأمر بعد ذلك لا يدري متى حدث ذلك وكيف، ولكن أصبح الفقهاء والعلماء يتبارون في خطبهم الريدية المدعومة بمكبرات الصوت يذّكرون الناس بالموت والحياة وعذاب القبر والجنة والنار والحياة الفانية التي نحياها وتمر سريعاً ولا يحسب لها الناس أي حساب. كنت تشاهد الجموع الغفيرة من الناس بملابسهم الناصعة البيضاء وسياراتهم آخر الموديلات فيختلط الأمر على الناس هل هي مناسبة فرح أم مناسبة عزاء فالبهرجة تحيط بالمكان وتكاد تنقلب مناسبة البكاء إلى مناسبة فرح، فالناس تلتقي وتتعانق ببعضها البعض وهم يبتسمون ويتبادولون التحايا حتى يكاد يختلط عليك الأمر وهم يحملون بأياديهم آخر صيحات الموبايلات ثم أصبح الخطباء في يوم رفع الفراش يذكرون مناقب الفقيد وسيرته العطرة ويمينه التي تعطي بسخاء فلا تعلم شماله، والأسر التي كان يعولها المتوفى سراً، ومساعدته لأقربائه والخلاوي والمدارس، وإذا كانت الأحاديث تدعو إلى ذكر محاسن الموتى فقد انقلب الأمر إلى إطراء مبالغ فيه بل إنك أحياناً تتساءل في دهشة هل ما يذكره المتحدثون هو عن المتوفى الذي يعرفونه جيداً كما يعرفون أنفسهم أم أنهم يتحدثون عن شخص آخر جاءهم من السماء هو أقرب للملائكة من بني البشر. ويظل الحديث عن مآثر الفقيد وسيرته العطرة يأخذ بعداً يجعلك تعتقد وتجزم أنهم يتحدثون عن شخص آخر لا تعرفه فأغلب المتحدثين يشيدون بشجاعة المرحوم ولطفه وكرمه وأدبه بصورة تجعلك تتمنى لو أنك كنت ذلك المتوفى! وبينما يتبارى الخُطباء تمُر أكواب الشاي الحليب وصحون الزلابية أو الكيك وما شابه ذلك فيأكل الجميع ويستمتعون بالمزيد ولا يأبهون بما يقوله الفقيه عن الجنة والنار ومنكر ونكير وعذاب القبر فقد انقلب المأتم إلى مناسبة اجتماعية يجتمع فيها ظُرفاء المدينة وأثرياء المدينة ونجوم المدينة من الفنانين ونجوم الرياضة ويحرص الجميع على لبس أحدث وأرقى ما لديهم من العمائم المطرزة أو الطواقي المزركشة ويقضي الجميع وقتاً ممتعاً يتسامرون ويتجاذبون حلو الحديث ولا عزاء للمتوفى وأهل الفقيد.