أصابني أسًى مُرّ، ولعله أصاب السواد الأعظم من أهل السودان ؛ عندما طالعت في صحيفة «السوداني» الصادرة يوم السبت 16 نوفمبر الجاري تصريحا لوزير الزراعة الاتحادي، الدكتور عبد الحليم المتعافي، والذي قال فيه: «ما نزال في سنة أولى زراعة... «!!!، ولا شك أن الدكتور المتعافي من أميز الكوادرالتي قادت العمل التنفيذي طوال حقبة الإنقاذ التي قاربت ربع القرن من الزمان، منذ أن كان محافظاً ووزيراً ولائياً ووالياً لعدة ولايات آخرها الخرطوم، التي أحدث فيها طفرة في كافة المجالات ومن ثم وزيراً اتحادياً «وزيراً للزراعة» في البلد الزراعي، أكثر من 200 مليون فدان صالحة للزراعة، ومعها أكثر من 150 مليون رأس من الماشية منتوجا حيوانيا له علاقةٌ وثيقة بالزراعة. عندما يصدر هذا التصريح من الرجل الممسك بالملف الزراعي، في السودان هذا الوطن الموصوف دوماً بأنه «سلة غذاء العالم» تتوفر فيه كل العوامل التي تضمن نجاح العملية الزراعية «أراضي، مياه، ومناخ وغير ذلك»، وهذا التصريح يُستَشَف منه مدى الإحباط - من السياسات العامة تجاه الزراعة، من قِبل وزارة المالية والدولة، الذي يعانيه الدكتور المتعافي «رجل الإنقاذ الناجح»، ولعل التصريحات التي أدلي بها في العديد من الوسائط الإعلامية عن ضعف التمويل، وعدم التنسيق مع الواجهات الزراعية كاتحاد المزارعين، وما عُرف بالنهضة الزراعية «عفواً الكبوة الزراعية ... وقول وزير الزراعة إن الزراعة تساهم في الدخل القومي بحوالي 2 مليار دولار ونيف.. نعم!! هذا المبلغ الضعيف جداً مع الإمكانات الطبيعية التي يتمتع بها السودان؛ لأن هنالك دولا مساحاتها المزروعة تساوي عُشر مساحاتنا المزروعة، وهي تُصدِر أضعاف أضعاف هذا الرقم- الضعيف جداً جداً - من مورد كان يجب أن يكون صادراته مئات أو قل عشرات المليارات مع الموارد الأُخرى المتعلقه بالزراعة، كالصناعة الزراعية، وذلك بتحويل المواد الخام الزراعية إلى مواد مصنعه، وهذا ما تعمل به العديد من الدول، تشتري مواد خام ثم تُصنِعُها، ثم تبيعها بأضاف أضعاف سعرها.. وما أزمة الخبز التي تعيشها البلاد إلا دليل واضح على الفشل المُزري على الصعيد الزراعي الذي تُعانية البلاد؛ كيف يجوع السودانيون وتحت أرجلهم مساحات صالحةٌ للزراعة، وصالحةٌ لإطعام مئات الملايين من البشر والمخلوقات الأخرى، وتجري بين يديه أنهارٌ وقنوات مائية تجلب مليارات الأمتار المُكعبة من المياه، وتظللهم سماء ماطرة طوال وقت الخريف... حديث الوزير يعكس مدى قتل سياسة التحرير للزراعة، ومدى العناية الضعيفة من قِبل أهل القرار بالقطاع الزراعي... السودان الذي عَرِف الزراعة قبل أغلب دول العالم المتقدِم يوصف بأنه.. «في سنه أولى زراعة..» يعني الطفولة الزراعية ، والبدائية الزراعية ، والزراعة كل عامٍ هي في تراجع مريع.. الزراعة كانت عمود الاقتصاد السوداني قبل خمسين سنة فكان الجنيه السوداني يساوي «دولارين» أويزيد ، الآن الزراعة تقهقرت فأصبح الدولار الواحد يساوي في السوق الأسْوَدَ حوالي 8 جنيهات وبالسعر الرسمي قرابة 6 جنيهات... في ضربة أخرى من ضربات الإخفاق الزراعي يتناول الآن العديد من المهتمين بهذا الأمر التقاوى الفاسدة ، والتي تم بها زراعة أكثر من أربعة آلاف فدان بمشروع الجزيرة.. حسب تصريح وزير الزراعة ولا تزال لجان التحقيق تواصل عملها في هذا المِحوَر ..... هذا الإخفاق الزرعي انعكس على الاقتصاد الكلي للسودان فأصبح التضخم الداء العُضال الذي يعاني منه ، فأصبح البرنامج الثلاثي، الذي طالما تغنى به، وعدّه وزير المالية، ومنظرو الاقتصاد أمثال الدكتور صابر محمد الحسن وزير الدولة بالمالية الأسبق ، ومحافظ البنك المركزي السابق ، الذي صرح قبل أيامٍ في بعض الصحف .... أن البرنامج الإسعافي قد فشل ..، والإنفاق الحكومي ما زال في أعلى مستوياته ، ولا زيادة تذكر «في الإنتاج، والزيادة الوحيدة هي زيادة المحروقات التي حرقت كل آمال المواطن البسيط ، «وطلعّت زيتو» ... وأظن الزيت «كِمِل زماااان» من العشرية الأولى لسياسة التحرير الاقتصادي «قبحها الله»، والآن بيطلع الدم، وبعد ذلك اللحم والعظم.... والزراعة في السودان كانت أول ضحايا «سياسة التحرير الاقتصادي» فتقهقر مشروع الجزيرة «جمل الشيل ودخري الحوبة» وضعفت إنتاجيته، وتاه مزارعوه في بيداء هذه السياسة التي لا رحمة فيها ، ومن ثم ماتت الصناعة «ألف مليون رحمة على وزيرها الهُمام الدكتور عبد الوهاب محمد عثمان الذي ناضل أيّما نِضال في أن تنهض الصناعة طوال الفترة الفائتة، وهو له شرف تقديم الاستقالة في زمن التشبث بالمناصب والتكالب عليها ، دون غيره من الطاقم الدستوري االموجود على سدة الحكم منذ ربع قرن من الزمان»، الآن تجد ثلاثة أرباع المصانع توقفت عن العمل تماماً منذ صاعقة هذه السياسة مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، والتجارة الآن أصابها الكساد ، فأصبح اقتصاد الوطن العملاق يعتمد على الزيادات في السلع الضرورية التي تُصيب الضعفاء في مقتل ... ثقوا جيداً أنه لا نهضة ولا تقدم ولا ازدهار ولا عزة للسودان بغير الزراعة فكأنها تُردد في حزنٍ شديد، وهي مسلسلةٌ بسياسات التحرير الاقتصادي وتنادي بأعلى صوتها .... أضاعوني وأي فتيً أضاعوا ******************** ليوم ِكريهةٍ وسداد ثُغر.