كل ما كنت.. في هذه الدروب ثمة ما ينبيء عن مصير يجمعك بآخرين تقاسمهم المشوار والهم ورائحة التبغ مختلطاً بقهوة ذات جنزبيل (يجنن) ، تتسع الدروب بلا شك وهي ربما مثلت إرهاصاً بشيء ما ، لا أميل كثيراً لتعريف الأشياء وفق مسمى محدد ، الانسان يفلح حينما يتبع حدسه ويستفتي قلبه ، بالمقابل يصيب الأشياء وهن من نوع غريب كلما كانت محل تساؤل وبحث مضني عن تفصيلة تافهة ، لا تهتم للتفاصيل لا تكترث لها ، ليس لأن ثمة شيطاناً يقبع بينها ، إنما في التفاصيل دائماً يقبع إرباك الكائن البشري ويتضح غباءه ، ما قيمة أن يسعى كل عشاق افريقيا والعالم العربي وراء مفردة تؤكد انهم عشاق وتمنحهم صك مزاولة المهنة كعشاق أصيلين ، هل يحتاج الإحساس لمفردة جافة لتؤكده ، ماذا تساوي مفردة كأحبك برغم ما لها من قداسة مقابل كم الشعور والإحساسات التي تشكل حياة ورؤى الانسان ،(وايه فائدة عيون الشعر إذا جفت ينابيعه وصار الحب مجرد كلمة في الكلمات وصوح وردو في البستان).. لا يحتاج المرء لمفردة لتأكيد لمسألة قد تكون من البساطة بمكان لكن البشري بطبيعته أكثر شيئاً جدلا، وطلباً لمقابل ، إذا كان الإحساس ورطتي فهو ورطة بإختياري، لمن يستحق أو لا يستحق ، تتجدد الرؤى مع كل نسمة عابرة تخترقك كإبتسامة جميلة عابرة .. قال الشاعر الجميل أبن أبن : أرفق بنفسك من غباء اليافعين ومن تفاصيل التدحرج للوراء إن الوراء مقسم بين القيامة والعدم بين الترقب والذهول والليل أوغل حين طال لكي يطول.. لكي يطول، وأنا كذلك أتمدد ، أتورط ، أثمل ، أصحو ، أطارد شرطياً باللعنات والقهقهة ولماذا صار شرطياً ، هل (كملت) مهن الدنيا وووالخ.. في الحين ذاته أتمنى أن أكون هذا الشرطي عينه لأبرح سائق الحافلة ذلك الرجل صاحب الرأس الذي يشبه السلحفاة ، لأنه أهدر وقتي بانتظار راكب قادم من الالاف الفراسخ أيظنه (المسيح)..! هكذا تورطني فخاخ التناقضات وأؤكد مع ذلك انها إرادتي أن أكون الذي أردت ، هكذا في كل شيء ، ما أحسه وأتمناه وأسعى بجهدي لتحقيقه ، حتى مشاعري تجاه أي كان ما هي إلا ما زاد عن حاجتي ، من المشاعر أكرم بها آخر ، أي كان نوعه ووعيه تجاه كل دفقة شعور حي أرسلها له ، المهم انها تصل ، أنا أؤمن بأن المشاعر لا تبور ولا يخيب تفسيرها ، كل مافي الأمر أن البشري احياناً يورط نفسه بعصافير تحلق في أفق آخر متجاهلا أفقه القريب .. وحين صحوه يجد ما كان مداً أصبح جزراً ، وما تخيله بعيداً كان أقرب مما يتصور ، بالمناسبة لماذا يتصور البشري دائماً أن السعادة بعيدة ، وانها مفهوم صعب ، حتى ما هو جمالي إرتبط بالمتخيل البعيد أكثر من إرتباطه بالواقعي لماذا الحبيبة (قمرا) وليست زهرة لوتس.. ايه لزوم (الشحتفة) ... كل ما كنت غامضاً إلتفوا حولك ووصفوك بالمدهش وصاحب الكاريزما وأصروا على انك مدرك وتعي ماهية الوجود والأشياء مع أن فؤادك أفرغ من فؤاد أم الكليم، وبقدر ماكنت شفافاً كانت وحدتك ، وكلما رددت وجدتها وجدتها ، كلما تلاشت في أفق النسيان تلك التي تظنها هي ، وكلما منحتهم قلباً منحوك (مقلباً ) مدبراً بعناية.. لا ضير لك عالمك الذي يخصك ، اغتسل في نهره سبع أياماً بلياليهن ، وصباح أخير ، يكفيك لكي تزدهر ، ولهم عالم واحد مازلت تسمع صدى صرخاتهم البائسة تولول بإيقاع مشروخ في قلب الزمن.. كل ما كنت شفافاً صرت انعكاساً لما هو جمالي وما هو دون ذلك، بحسب من يلازمك المسير والمصير وبحسب من يغادرك. أو ... قد تغادرنا البيوت ما كل مدخل للبراهين في سماك مرسوم غلط.. أو قلتي احسن ادخلك ؟.. ما انت مانعاني الدخول وانت شيدتي الضباب في رؤيتي وودرتي همي على ظنونك ألف ميل من التسكع في تفاصيل المدن.. -- تدشين ديوان (ياكا حميد) بحضور عددٍ من المثقفين وأصدقاء الراحل حميد عبد العزيز الننقة ساح الحبر .. طاح القلم .. طار الورق .. سكت الكلام مات انشرق .. في لجج إندهاش ذاك النهار ، توسط القاعة العتيقة ديوان (ياكا حميد) من كل المنافذ والشُّرف ، وبالقرب من ركنها الجنوبي الشرقي توسط بعض الأصحاب عروس ذاك النهار الكاتبة أميرة التركي. لا هدوء المحيط القريب الذي كان بسبب غياب طلاب الجامعة العريقة (الجميلة ومستحيلة) لجهة أن اليوم يوم سبت ، أصبغ على نهاريتنا تلك بعض هدوء ، ولا إبداع عثمان بشرى المشفر كلماته النابعة من القلب في حق الكاتبة والديوان وصديقه الراحل حميد زادت الأجواء بعض الغازٍ وغموض ، ولا حتى ألبست محدودية الدعوات التي تكبدت الكاتبة إيصالها تسليماً باليد بعض قلةٍ للحضور الذين امتلأت بهم قاعة الشارقة ذاك النهار. حرارة اللقاء بإحتشاد عددٍ من النجوم تحت سقف القاعة مضافاً إليها إندهاشة البعض بتطريزات الفنان محمد جبارة الذي كان وقبل ساعةً من وصلته يتناول بعضهم خبر نيته إعتزال الغناء ، كل هذا شكل لوحةً عمد مقدم البرنامج أستاذ المدني أن يوزع الفرص ما بين القديم والمستحدث والقادمين الجدد الذين فاتهم قطار إنطلاقة البرنامج الذي انطلق وكعادة السودانيين متأخراً بعض الشيء حسب توقيت الإحتشادية المحلي لولاية ذات اللوائين (أميرةٌ بإسمها ، وزميرةٌ بأول مطبوع رثاءً ل «نبي الصي» وشاعر الغُبش التعابا و( مصابيح السماء التامنة وطشيش) ونورا) (والضو وجهجهة التساب) (وعم عبد الرحيم) (والسرة بت عوض الكريم) و الأخريات (وباسم السلام نبدأ) . باسم السلام نبدأ تزينت بها أطراف كراسي الجلوس الفاخرة والفنان ابوبكر سيداحمد يعبّق بها الأجواء أداءً تزحزحت به المقاعد من تحتنا مفتحاً بها وصلته التي جاءت بعد بعض القراءات والشهادات التي افتتحها الصحفي والناقد الزبير سعيد والشاعر والروائي عثمان البشري وآخرين تخللوا الفقرات شهادةً لوجه التاريخ والحقيقة في حق الديوان والكاتبة ومشروع حميد الثقافي والمطبوع من أجل المطبوع الذي دائماً ما كان يحتفي به الناس بعد أن يتم توزيعه فوق أرفف المكتبات للعرض ذاك كان قديماً دائم الحدوث واليوم نصفّق محتفين بالأميرة التي جاءت بنا لنحتفي به قبل أن يرفعه الأحباب والأصحاب وخبره لأعلى علّيين حيث يجلس المُرثي وراحلنا الشهيد ، وقبل أن يجف مداد من يوقع عقده أو يعدّل من وقفته ليضعه معروضاً فوق الرفوف والمناضد .. وعثمان البشرى في لغته عالية تيرموميتر المثاقفة يدور بالبعض حتى يضحك فهم بعض القريبين منا في «هل يمدح أم يسكب دمعاً على علاقته بصديقه الذي اختطفه الموت قبل أن يقول كل ما عنده» ويظل الباب مشرعاً لفهم هذا الظاهرة السودانية والحالة المُسمى حميد و (حواء السودان ولادة .. ولّادة «هكذا قالها» وسنظل نحلم أن في باكر ستلد من يشابهه) في الخصال والتفرد والعطاء . ده صعيب علينا .. صعيب علينا الظافر .. الفاتح مداين العزة لينا .. نطاطي رأسنا .. نخالي في الدمعة الثخينة .. وإيدينا باردات بالفواتح نرفعا .. ياسيدي شوف بي عين حديد .. يا الشوفك الهِنا في الصعيد .. بي عين بصيرة مصادفا .. لو قدّرت فقدك أكيد .. كان شالتك فوق الكفوف .. كان شالتك غرة ووفا .. في كل سفرة.. نقيف صفوف .. سيرة ومشيّاً بالحفا ، وسيرة ومشيّاً بالحفا تفجعنا العبارات والتعابير وكأنه الفقد كان اللحظة و .. كتا مشهد وافي ضافي .. للمشاهدين البطولة.. وماها بي كتر اللجاجة.. المواقف هي الرجولة .. وماهو هرشاً بالقوافي .. كُت تسوي البي تقولا .. وما بتهيم بي كل وادي .. كلها الوديان تشيلا ، ويشيلنا الفرح حزناً دامعاً إن صارت دنيانا من غيرك.. والمتحدثون يؤكد الواحد فيهم بعد الآخر انك كنت مشهداً ببطولةٍ وافي ضافي والكاتبة تؤكد ذات نفسها انه ما كان هرشاً بالقوافي فقط لا ولا كنت نمراً من ورق وسحابة نهارنا ذاك نوزعها متلهفين ومنقبين عن كلماتك التي انسالت عبيراً فوّحاً من أفواه المغنيين والمتحدثين.. النهارية تمضي بنا في عوالم أخرى وسجل الحاضرين يزداد عدداً وألقاً والشاعر أزهري محمد علي شكل الحضور الأبرز في ظل غياب «او تغييب» كل الفاعلين في المشهد الحزايني منذ رحيل حميد عبر الأجسام التي نشأت تحمل اسمه (الخيرية ، واللجنة العليا ، وحلم حميد) وآخرين فيما تجلّت النهارية وفوقها سحباً وبعض غيماتٍ هن في الأصل نجوماً ومواطنين لا شئ يجمع بينهم غير حميد متجلببين ب(ياكا حميد) المطبوع الذي استطال وقتذاك ليشكل العمائم والطواقي وثياب الحرائر ولبسات الشُفّع ممن شكلو رمانةً إزدهت بها تشكيلات الحضور وزادتهم ألقاً. والصغير الذي بهتافه (سيف .. ياسيف) انفجر كل الحاضرين ضحكاً وتعليقاً وذلك عندما اعتلى الفنان سيف عثمان خشبة المسرح ليؤدي وصلته الغنائية التي أعقبت مفجرة طاقات الفرح في نفوس الحاضرين والأجواء وهي الطلة المفاجئه (للكثيرين) لصاحب الصوت المُعتق الفنان محمد جباره الذي تجاوبت معه الأيدي تصفيقاً يكاد يصل مرحلة الإنفجار وهو يهدي القلوب رائعة حميد (نورا) ويعقبها ب(عفارم عفارم) ليتهامس الكذب والتكذيب من بين العيون لشائعة اعتزاله فن مراودة المسارح.. رابطة أبناء نوري شكلت الحضور الأبرز وعبر رئيسها تفتتح شراء الديوان بنسخةٍ إكراميةٍ بمبلغ اثنان مليون ، وقبل الاستراحة التي فصلت البرنامج لنصفين ليتم إكرام الضيوف بتناول المرطبات وصلاة الظهر لمن أراد تسلّل الخبر اليقين بوجود (ياكا حميد) الديوان في شكل سي دي مضافاً إليه ال( 67) صفحةٍ من القطع الصغيرة هي مجموع صفحات الديوان الذي رثت فيه ابنة منطقة نوري في تفصيلٍ يحمل كل البر والوفاء للراحل الذي شكل وجدان الشعب السوداني بأروع القصائد وأنبل المنتوج الفكري الذي لم ينقطع عنه الألق حتى رحيله بل انه سيبقى فينا ينبض روعةً : نحفظك حميد .. خلال كل النصوص .. البي تنُنصّك .. بث مباشر فينا بثك .. لا بيُمنتج .. لا بيُمكسج .. لا في مخرج حايمسّك .. وما بيتوه همساً همستو .. أصلو حسك ما بيدسك ، وحسّه أكدت لنا مثل هذه التجمعات انه سيبقى فينا عالماً للتفرد والدهشة مدفوناً يشيل من فوقه التراب الباحثين والنقاد ليكتشفوا كل يومٍ وباجتهادهم ودأبهم في التنقيب عوالم أخرى أكثر إدهاشاً.