قرابة أربعين يوماً، أو أقلّ، تفصلنا عن (الاستفتاء على مصير جنوب السودان)، كما يُفضِّل كثيرون تسميته!... وسواء ذهبت الأمور نحو الوحدة أو الانفصال، فإن ما يظهر في ملامح الصورة، بعامة، يحاول إقناعنا بأن القرار يكمن، أولاً وأخيراً، بأيدي «شعب جنوب السودان»، الذي ينبغي أن يتوجّه إلى صناديق الاستفتاء، ويدلي برأيه الحاسم، تجاه مصير بلد! صورة الاستفتاء على هذا النحو، تبدو كأنما تريد إقناعنا بأن ليس ثمة تأثيرات جوهرية للعوامل الخارجية، بدءاً من العواصمالغربية المهتمة بالشؤون الأفريقية، والتي ترى القارة الأفريقية منطقة مصالح حيوية لها، وصولاً إلى العواصم العربية والأفريقية، المجاورة للسودان، والمتأثرة من دون شك بمجريات الأمور في بلد المليون ميل هذا. مصير السودان بأيدي الجنوبيين وانسجاماً مع التوافق المُعلن على أن مصير السودان، وحدة أو انفصالاً، يتوقف على أيدي الجنوبيين، وحدهم. " الأنظار تتجه ما بين الآملة، والقلقة، والمتخوفة، والمستبشرة، نحو تلك السحنات التي قلّما حضرت في جدول اهتمام الإعلام العربي، على شتى اختلافاته " تتجه الأنظار ما بين الآملة، والقلقة، والمتخوفة، والمستبشرة، نحو تلك السحنات التي قلّما حضرت في جدول اهتمام الإعلام العربي، على شتى اختلافاته. وإن حضرت لماماً، فليس بما يليق بها أبداً، ليس في الإعلام العربي، كما ليس في الثقافة والفكر والأدب والفنون، العربية، جميعها. سيكون شعب جنوب السودان في واجهة الصورة الإعلامية، للتلفزة العربية، أو لأبرز محطاتها الفضائية الإخبارية، طيلة الفترة المقبلة التي تفصلنا عن الاستفتاء؛ لأربعين يوماً، أو أقل! وسيغيبون بعدها، حتماً، وكعادتهم، سواء فضلوا البقاء في حظيرة السوداني الواحد الموحد، أو أخذوا دولتهم الوليدة، مستقلة! قناة الشروق ومشروع السودانيين افترقت «قناة الشروق» الفضائية، وهي القناة السودانية الإخبارية المستقلة، والتي تبثّ من استوديوهاتها في دبي، ومكتب الخرطوم، وبالاستعانة بشبكة مراسلين في عموم ولايات السودان، ومدنه، تماماً عن ذلك كله، بخاصة أنها أعلنت منذ انطلاقتها الأولى، قبل ثلاثة أعوام، نيتها العمل على أن تكون مشروعاً إعلامياً، يطمح أن يكون للسودانيين جميعهم، على مختلف انتماءاتهم واتجاهاتهم وسحناتهم وثقافاتهم.. وفي وقت بدا أن غير محطة تلفزيونية إخبارية عربية، باتت تخصص أوقاتاً من بثّها لمواكبة «الطريق نحو الاستفتاء»، وتجهّز نفسها لتغطية شاملة، تليق بحدث من هذا الطراز الحاسم، فإن «قناة الشروق» أخذت لنفسها، وربما بسبب من خصوصيتها السودانية، سياقاً مختلفاً، يمكن تسميته بأنه «أكثر من تغطية»، وليس أقلّ من السعي للتحول إلى عنصر إعلامي، مساهم وفاعل في الدفع نحو الوحدة، والعمل من أجل الحفاظ عليها، عبر تعزيز المزاج الجماهيري الجنوبي الوحدوي، أو تطويره، أو تأصيله! الوحدة الجاذبة والتنمية المتوازنة صحيح أن «قناة الشروق»، ومنذ انطلاقتها، أعلنت أنها تحمل مشروعاً يتمثل في مناصرة الوحدة، وجعلت مهمتها تتلخَّص في العمل لتعزيز صورة «الوحدة الجاذبة»، والدعوة إلى التنمية المتوازنة، والتحذير من مخاطر الانفصال، مع التشديد على متلازمة السلام، سواء أكانت الوحدة أو وقع الانفصال، وبالتالي رفض الذهاب إلى الحرب، مهما كانت النتائج! ولكن أن تكلِّف القناة نفسها بما هو «أكثر من تغطية»، فإنما يدلل بوضوح على إيمان راسخ لديها، مفاده أنه يمكن للتلفزيون أن يؤثر في الوعي الفردي والجمعي، وأن يساهم في خلق رأي عام، أو تطويره، أو تحويله، أو تعديله.. وأن العمل الإعلامي التلفزيوني يمكنه أن يخلق مزاجاً ما، يذهب نحو ما تلحّ عليه القناة، وتحرص على تبيان أهميته، وإبراز مزاياه وإيجابياته، وتحذر من مغبة خواطره وعواقبه. عادة، تأخذ القنوات الفضائية المنشغلة بمهمات «التغطية»، موقف المراقب. صحيح أنها، ولأسباب ما، يمكن أن/ أو ستميل نحو هذا الجانب، أو ذاك، ومع ذلك فهي لن تكفَّ عن السعي لإثبات مهنيتها وصدقيتها وموضوعيتها وتوازنها، من خلال تأكيدها، دائماً وتكراراً، أنها تقف موقف الحياد، وعلى مسافة واحدة من الأطراف، جميعها. الشروق وأكثر من تغطية أما القناة التي تتنكب مهمة «أكثر من تغطية»، كما حال «قناة الشروق»، هنا، فإنها تريد إثبات مهنيتها وصدقيتها وقدرتها على الأداء الفاعل، ليس بناءً على موقف الحياد بل اتكاءً على الانحياز الواضح لموقف ضد آخر، ولاتجاه دون غيره. " قناة الشروق تحاول أن تحمي البلد من الانفصال، فإن لم يكن ثمة من بدّ، فلعلها تنقذه من ربقة الحرب " إنها تتبنى الدعوة من أجل الوحدة، وتوظف نشراتها الإخبارية وبرامجها ودراماها وإعلاناتها، من أجل هدف محدد، يمكن تلخيصه بالدارجة السودانية، وكما تكرر القناة: «السودان كله ليك.. ما تقطعه بإيديك»! هل يمكن أن تنجح قناة «الشروق» في مهمتها هذه؟ هل ستستطيع تقديم أنموذج لفضائية عربية حاملة لمشروع على مستوى بلد/ وطن، ومصيره، ومستقبله؟ قناة تحاول أن تحمي البلد من الانفصال، فإن لم يكن ثمة من بدّ، فلعلها تنقذه من ربقة الحرب! لعل الإجابات ستبقى معلقة إلى حين معرفة نتيجة الاستفتاء، وما سيليه من تداعيات... ولكن في كل حال، يمكننا القول إن هذه المحاولة تثبت أن في إمكان التلفزيون أن يقوم بفعل تاريخي، ولو مرة واحدة، على الأقل. نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية الأحد 5 ديسمبر 2010م