آخر ما كان يمكن توقعه من ثورة التغيير التي انتظمت العالم العربي من محيطه إلى خليجه، هو أن يهز هذا التغيير أركان عرش الفتوى الدينية، أو أن يغيّر المسار التقليدي الذي مضى فيه كثير من الفقهاء في المسائل ذات الطابع الجماعي أو تلك المتعلقة بالأفراد. لم يكن أحد يتوقع أن يصل التغيير إلى أفق لم يكن مستهدفاً أصلاً، فثورة الشباب في تونس ومصر ومن نسجوا على منوالهم استهدفت في المقام الأول إزالة الطبقة السميكة من الفاسدين الذين جلسوا على سدة السلطة وسوّدوا المشهد السياسي والاقتصادي بممارسات كانت تؤذن بانسداد الأفق وبقاء الحال البائس على ما هو عليه. تحضرني في هذا السياق بعض الأمثلة التي تولدت من رحم الثورة التي قادها هؤلاء الشباب وأفرزت مؤشراً دينياً، يمكن القول بكل بساطة وارتياح، أنه قاد إلى ما يشبه الانقلاب بالنظر إلى ما كان سائداً من قبل. الثورات وتحفظ الفقهاء المظاهرات نفسها كوسيلة للتعبير أو التغيير -دعك ما أفرزته من نوازل- كانت موضع تحفظ لدى قطاع واسع من الفقهاء، فمما استقر في أذهان الكثيرين أن معظم المؤسسات الدينية الرسمية والشعبية في البلدان العربية تضع المظاهرات في خانة (المكروه) إن لم يكن (الحرام).؛؛؛ المظاهرات كوسيلة للتعبير كانت موضع تحفظ لدى قطاع واسع من الفقهاء، فمما استقر في أذهان الكثيرين أن معظم المؤسسات الدينية الرسمية والشعبية في البلدان العربية تضع المظاهرات في خانة (المكروه) ؛؛؛ كثير من الفقهاء يرون في المظاهرات خروجاً على النسق الإسلامي في طريقة إسداء النصح للحكام ومجانبة لكيفية تحري الظروف المواتية لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فضلاً على أن فيها اتلافاً للممتلكات، ويرجح أن تؤدي إلى إزهاق الأرواح. مربط الفرس الذي وقف عنده الفقهاء، كانت النصوص الداعية إلى تحريم الخروج على الحاكم مالم يصدر منه كفراً بواحاً للمسلمين عليه من الله برهان، أو تلك النصوص الداعية إلى الصبر على الحاكم ما أقام الصلاة ولم يعطلّها. ربما كانت هذه النصوص هي التي قيّدت حركة كثير من الفقهاء عن النظر ومن ثم الاهتداء إلى أن المظاهرات والمسيرات تختلف من حيث الشكل والمضمون عن مبدأ الخروج على الحاكم. خروج طلاب الأزهر بل إن التشدد بلغ ببعض من ينتسب إلى العلم إلى وضع المظاهرات في خانة البدعة لأنها ليست من الأساليب التي عرفها المسلمون في صدر الخلافة ولم تُمارس طوال تاريخهم الإسلامي الذي بلغت فيه دولة الإسلام أوج مجدها. ولكن كان خروج طلاب ومشايخ الأزهر في مظاهرات ميدان التحرير وسط القاهرة أبلغ في الفتوى، وأشد تمرداً على الصورة النمطية لموقف الفقهاء الرافض اتخاذ المسيرات والمظاهرات وسيلة للتعبير والتغيير، وهذه أولى الأمثلة على تأثر الفقهاء والفتوى. لقد أغنى خروج مشايخ الأزهر لميدان التحرير عن الفتاوى اللاحقة المؤيدة للتظاهر كوسيلة من وسائل التعبير التي لا يرفضها الشرع، فقد فعلها بعض شيوخ الأزهر بأنفسهم، واستقبوا الفتاوى اللاحقة التي أشارت إلى جواز التظاهر. "البوعزيزي" الملهم الأول ثاني هذه الأمثلة، هو إقدام محمد البوعزيزي -الشاب التونسي الأشهر في سماء ثورة التغيير- على إضرام النار في نفسه احتجاجاً على الملاحقات والإهانات التي قامت بها السلطات المحلية ضده. بالطبع، لا أحد يعرف على وجه الدقة هل قصد البوعزيزي، أن يشعل ثورة احتجاج تؤدي إلى إسقاط النظام التونسي، أم أنه أقدم على هذه الفعلة من واقع ضيقه وتبرمه، وكوسيلة احتجاج وحيدة وأخيرة يملكها أمام تعنت السلطات المحلية وتضييقها عليه في وسيلة كسبه. ما يعرفه الجميع، هو أن البوعزيزي كان الملهم الأول لثورة التغيير في تونس، فالنار التي قدح زنادها في جسده لاحقت الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، ودفعته إلى الهرب والنجاة بجلده أمام المد الثوري الشعبي الهائل. ؛؛؛ البوعزيزي كان الملهم الأول لثورة التغيير في تونس، فالنار التي قدح زنادها في جسده لاحقت الرئيس التونسي المخلوع بن علي، ودفعته إلى الهرب والنجاة بجلده أمام المد الثوري الشعبي الهائل ؛؛؛ ومن فرط ولع الكثيرين في أرجاء الوطن العربي بالنتيجة التي أحرزتها تونس في مضمار التغيير، حاول عدد من الشباب في مصر والجزائر ودول أخرى مضاهاة النموذج البوعزيزي ظناً منهم أن المقدمة المتشابهة تكون نتائجها دائماً متشابهة كذلك. ما أفرزه هذا الاحتجاج البوعزيزي الناري، هو تعليق الشيخ القرضاوي عليه في برنامج الشريعة والحياة عندما قال في البرنامج "إني أتضرع إلى الله تعالى، وابتهل إليه أن يعفو عن هذا الشاب ويغفر له، ويتجاوز عن فعلته التي خالف فيها الشرع الذي ينهى عن قتل النفس". كان مجرد دعاء القرضاوي على هذا الشاب بالرحمة والمغفرة كافياً ليثير انتباه الكثيرين ممن تعجلوا في النظر إلى ما قاله الشيخ القرضاوي حتى إن البعض دفعه التسرع إلى القول إن الشيخ أجاز حرق النفس كوسيلة للاحتجاج. وهو ما دفع القرضاوي في المقابل إلى توضيح موقفه بالتذكير بقاعدة شرعية مهمة، وهي أن الحكم بعد الابتلاء بالفعل غير الحكم قبل الابتلاء به. القرضاوي قال ما نصه "إنه قبل الابتلاء بالفعل ينبغي التشديد حتى نمنع من وقوع الفعل، أما بعد الابتلاء بوقوعه فعلاً، فهنا نلتمس التخفيف ما أمكن ذلك". المهم في هذا السياق أن الفعل (الحرام) المتمثل في حرق النفس عمداً، قد أفضى إلى جدل فقهي خفيف صاحبه أخذ ورد، وكان الشأن في السابق هو النظر إلى مثل هذا الفعل على أنه انتحار دون النظر فيما قبل أو بعد وقوعه. فتوى قتل القذافي ذات القرضاوي قدّم المثال الثالث الذي نحن بصدده عندما أفتى بقتل معمر القذافي، فقد نُسب إلى الشيخ دعوته لضباط وجنود الجيش الليبي إلى إطلاق الرصاص على القذافي وقتله حتى يرتاح الناس من شره. ؛؛؛ الدعوة على الخصوم من فوق المنابر، كانت عادة تاريخية اقتصرت على عهد الدولة الأموية ، ثم أوقفها الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز ؛؛؛ صحيح، إنه لم يُشتهر عن أحد من الفقهاء أنه ساير الشيخ في فتواه، ولكن عدداً منهم -خاصة في دول الخليج ذات الطبيعة السلفية المحافظة- كان يدعو على القذافي من فوق المنابر. المفارقة هنا هي أن هؤلاء الشيوخ الذين من بينهم رائد مدرسة الوسطية والاعتدال، كادت هذه الفتوى أن تنقلهم إلى معسكر الجماعات المتشددة التي تكفّر الحكام وتبيح دمهم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدعوة على الخصوم من فوق المنابر، كانت عادة تاريخية اقتصرت على عهد الدولة الأموية عندما كان بعضهم يدعو على اتباع سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم أوقفها الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز. على كلٍّ فقد دخلت ثورة التغيير ساحة الفقهاء وعلماء الدين، وهو دخول إيجابي لجهة أنه حفّز الفقهاء على مراجعة ما كان يسود من اعتقاد واسع أنه من المسلمات.