يحكى عن الرئيس السابق جعفر نميري أن الوزير محمد حسن عساكر وزير التخطيط العمراني بالإقليم الأوسط يومذاك أهداه قطعة أرض.. وطلب منه أن يرسل له مالاً لكي يشيدها له فقال له نميري، (أبني بيت لي منو أنا لا عندي محمد ولا فاطنة..؟!!) فتأثر عساكر جداً حتى انهمرت دموعه. القصة يرويها المهندس الطيب تاج الدين مدير الري يومذاك بمشروع الجزيرة، ووزير التخطيط العمراني في حكومة نميري وأول مدير لسد مروي سنة 1995، ووزير التخطيط العمراني بنهر النيل، الرجل من الجيل الذهبي في السودان، ولد بالحصاحيصا، لأسرة تنتمي للشيخ الزوين مؤسس مدينة الحصاحيصا وسليل قبيلة الدباسين. كان الطيب تاج الدين من التكنوقراط الذين عملوا في حكومة مايو، بعد تخرجه في جامعة الخرطوم كلية الهندسة. زمان المدارس الوسطى ويرى تاج الدين أن المدارس الثانوية والوسطى يومذاك كانت تضع اللبنة الأولى لأساس متين، لذلك خرجت كوادر متميزة وفاعلة، ولها تأثيرها اللاحق في الحياة السياسية والاجتماعية. يقول تاج الدين: درست الوسطى بمدينة رفاعة وهي مدينة لها صيتها في التعليم حيث التحقنا بمدرسة الشيخ لطفي، وكان قبلها يعمل مفتشاً للمدارس الصغرى في السودان. وشهدت المدرسة كادراً تعليمياً وتربوياً مميزاً جداً ضم الأستاذ سيد أحمد نقد الله والأديب الطيب صالح.. ولم نحظ بتدريسهما ولكن كانت سيرتهما ملء السمع والبصر. ويحكى أن الإنجليز كانوا غاضبين من سيد أحمد نقد الله ويتهمونه بالشيوعية، وطلبوا من الشيخ لطفي فصله من المدرسة وألحوا في الطلب ولم ينصاع لهم لطفي. وتحت الضغط، كتب له خطاباً لصديق من اليمن حتى يساعده في العمل ولكن قال له (لازم تجيب مدرس في مستواك، فجاء بالطيب صالح). مدرسة خورطقت.. علامة فارقة وتعتبر خورطقت الثانوية علامة فارقة في مسيرة كل الطلاب الذين درسوا بها، وكانت ملتقى لأهل السودان وافتتحت سنة 1950 وكان أول ناظر سوداني لها الأستاذ النصري حمزة وعمل نائباً لناظر مدرسة حنتوب الثانوية مستر براون، وهو من أبناء مدينة الكوة." خورطقت شهدت الأستاذ محمد أحمد عبد القادر الذي عمل نائباً للناظر وكان ابنه زين العابدين يدرس بمدرسة الأبيض الوسطى وأصبح فيما بعد عضواً بمجلس قيادة ثورة مايو " ومن السلوك الحميد الذي كان معمولاً به في خور طقت أن يتناول الناظر ونائبه وجبة الغداء مع الطلاب في سفرة خاصة، لكن الطعام الذي يتناولانه كان من جنس طعام الطلاب وذلك بغرض تفقد نوعية الطعام وجودته..!! ويذكر الطيب تاج الدين أن ابن نائب ناظر المدرسة عبد الحليم علي طه كان يسكن بداخلية المدرسة مع أن منزله داخل سور المدرسة، وبعد ذلك أصبح أول وكيل لوزارة المعارف. وشهدت الأستاذ محمد أحمد عبد القادر الذي عمل نائباً للناظر وكان ابنه زين العابدين يدرس بمدرسة الأبيض الوسطى وأصبح فيما بعد عضواً بمجلس قيادة ثورة مايو. خورطقت وقيادات الدولة ومن أولاد دفعة المهندس الطيب تاج الدين بمدرسة خور طقت الثانوية، المرحوم حسن أبو العائلة، ود. كمال شداد رئيس اتحاد الكرة السابق، وبروفسير محمد هاشم عوض وزير التعاون في حكومة مايو. وكان منهم المشير عبد الرحمن حسن سوار الدهب والفريق عبد الماجد حامد خليل، والمقدم بابكر النور الذي أُعدم في حركة يوليو 1971م، والمقدم محمد نور سعد وبروفسير السماني عبد الله يعقوب مدير جامعة جوبا الذي توفي في حادث طائرة بجوبا. وكان منهم الصحافي السفير أحمد محمد عبد الله العمرابي، ومكي عوض النور مدير التلفزيون وكانت له مهارة فائقة في الترجمة. يمتن المهندس تاج لشخصيات كثيرة أسهمت في بلورة شخصيته ومن الشخصيات التي يعجب بها أستاذه في كلية الهندسة جامعة الخرطوم بروفسير دفع الله عبد الله الترابي وكان محاضراً مميزاً، وحاد الذكاء، وبارع جداً في اللغة الإنجليزية، وكان له تخصص فريد اسمه "قوة المادة في الخرسانة والحديد". وغير الذين ذكرناهم من قيادات الدولة والمجتمع ممن درسوا بمدرسة خورطقت، يلاحظ المهندس الطيب أن معظم أبناء دفعته في خورطقت أو جامعة الخرطوم تبوأوا مناصب قيادية. ويذكر من زملائه في الهندسة، د. بشير العبادي وزير المواصلات، ومحمد أحمد الطيب مدير عام الطرق ومدير السكة الحديد، وعمر الأقرع أستاذ بكلية الهندسة جامعة الخرطوم وغيرهم.. وغيرهم. نميري كان نسيجا لوحده وشهدت فترة عمله في حكومة مايو الكثير من المواقف التي تروى عن الرئيس نميري ورغم محاولات تشويه صورته من قبل خصومه السياسيين لكن تاج الدين يؤكد أن نميري كان نسيجاً لوحده. " النميري بهرني، فقلت كيف له أن يحفظ حديثاً علمياً ويترجمه لعامة الشعب؟ ومنذ تلك الواقعة أدركت أن الرجل غير عادي " يقول الطيب: أذكر كنا نشهد لقاءً جماهيرياً لنميري في عطبرة سنة 1973 وتناول فيه الواقع العربي ومشكلة فلسطين، وكان الخطاب طويلاً، فصاح عامل بسيط في نميري (جعنا جعنا جعنا) فقال له نميري الجوع «اليكتلك» فرد الرجل «الجوع اليكتلك إنت والمعاك» فحاول رجال الأمن الإمساك به، فمنعهم نميري وطلب منه الجلوس بجواره، وبعد قليل قال له أمش أهلك، وطلب من رجال الأمن عدم متابعته!! وذات مرة قام بزيارة إلى خشم القربة ورأينا اثنين من الهدندوة بشعرهما الأشعث المعفر بالتراب، فاقترب منهما الرئيس وقام بأخذ لقطات معهما، وطلب من الوزراء التصوير معهما قائلاً: "نحن جينا نغير هذا الواقع فلابد أن نقترب من الناس ونهتم بمشاكلهم". ويقول الطيب حول حنتوب: "المدرسة دي ما بخشها طالب بليد"، ويؤكد الطيب تاج الدين هذا بقوله "كنت وكيلاً لوزارة الري وشكا مواطنو نهر عطبرة من قلة المياه وقالوا ناس الري بقطعوا مننا الموية، فناداني الرئيس وسألني وشرحت له الموقف وأسبابه وحتى المصطلحات الإنجليزية ترجمتها للغة العربية ومشاكل خزان القربة وأسبابها، فسمع كلامي بالحرف، واعتلى المنصة وأعاد حديثي بلغته البسيطة، والله انبهرت لهذا الرجل، كيف له أن يحفظ حديثاً علمياً ويترجمه لعامة الشعب؟ فمنذ تلك الواقعة أدركت أن الرجل غير عادي.