تمتلئ زياراتي للسودان، أو إقاماتي المؤقتة كما أطلق عليها مؤقتاً أيضاً، دوماً بمتعة عجيبة. فلقاء الأهل والخلان يجعلاني أشعر مثل الظامئ الذي أصابه عطش الغربة برغبة عميقة في استسقاء كل ثانية تمر وقضاءها في حديث وضحك وفرح وشجن، علها تكون شجيرات ذكرى مورفة في هجير غربة لا ترحم. وتأتي مع تلكم اللقاءات الدعوات الكرام، والتي قد تشمل أحدث الأماكن التي افتتحت في السودان أو تلك التراثية والتي تحتفظ ببهاء تراثنا القديم. وتكون أكثر الدعوات المحببة إلى نفسي تلك التي أزور فيها سوق "قندهار" أو المحلات المشابهة له في أرجاء العاصمة المختلفة. "راكوبة الحاجّة طيبة" كان في برنامج زيارتي الأخيرة للسودان سياحة في عالم من جلسة اندثرت بواقع الزمان. عنقريب، "جردل" من ألمونيوم وبداخله مياه باردة تحتاجها بالرغم من برودة الجو اللذيذة، والتي تجعل من الجلسة تحت راكوبة الحاجة "طيبة" جلسة طيبة أيضاً بحق. وبقيت في مكاني أتأمل المكان الذي دعيت إليه، مجموعة من الرعاة يحضرون للمشاركة في سوق البقر ويطلبون بعضاً من لحم يقايضون على سعره حياً بعد دقائق قلال. كانت الرائحة الذكية تفوح في المكان فتزداد ذبذبات البطن الجائعة في الخفقان، وتبدأ الهتاف بأن تريد أكلاً في الحال طيباً، ولكن في ثانية تبدل في دواخلي الحال. تشغيل الأطفال سمعت إحدى السيدات، والتي تعرِّف الراكوبة باسمائهم وهي تنادي شخصاً ما لكي يساعدها في أمر. وكنت أنتظر أن يحضر رجل إلى المكان أو إمرأة أخرى رشيد. " الصبي انحنى على أحد ال"صاجات" التي كانت تطبخ فيها أمامها ورفعه من فوق ال"كانون" بيده العارية المجردة " وبعد نداء آخر أتى سريعاً معقباً وكان يحمل بين طياته "نهرة،" حضر ذلك الذي دعته وبت أنا اتأمل فيه. لقد كان طفلاً، بكل مقاييس الطفولة التي بالعين المجردة تستطيع أن تلمحها. كان، إن حاولنا أن نقيس سنوات الدراسة، في حوالي السنة الخامسة أو السادسة من الصف الابتدائي. كان يرتدي زي "على الله" ويبدو أنه ترك حاله أيضاً على الله لكي يدبره، فلقد بدا مستمعاً جيداً لتوجيهات سيدة الشية. وفي ثانية انحنى على أحد ال"صاجات" التي كانت تطبخ فيها أمامها ورفعه من فوق ال"كانون" بيده العارية المجردة. وظننت أنه سيرفعها لثانية ربما تعدل فيهم السيدة الفحم الذي يقوم بتسخينها ونقل الحرارة إليها ويعيده سريعاً، لكنني وجدته يهرع خارج ال"راكوبة" وهو لا يزال يحمل ذات الصاج الساخن ولا أدري أين تركه. منظر مرعب وأصابني المنظر الذي شهدته "بأم" عيناي بالرعب الشديد. ليس فقط لأن الوعاء كان ساخناً أو لأن قطع اللحم التي كانت بداخله لا تزال تدوي وتعوي داخل فم طالبيها فحسب، بل لأنني انتبهت لأن الوقت الذي ذهبنا فيه إلى السوق كان لا يزال باكراً. لقد كانت الساعة تقارب عقاربها الواحدة بعد منتصف النهار وكان آذان الظهر يسمع من قريب وبعيد. أين المدرسة؟ أين الأساتذة؟ وأين الأسرة التي ستكون، ولا محالة، قد أجبرت أماً على إخراج ابنها من المدرسة أو عدم تسجيله في الأصل أبداً؟ وبدأت أرقب مساعدي الحاجات المختلفين وأحاول أن استنبط أعمارهم وسنواتهم الدراسية. كان بعضهم يبدو كما بالمرحلة الثانوية وآخرون كما بالجامعية، وظل صديقي الأول الذي رقبته هو الأصغر سناً والأيفع عوداً لا محالة. جريمة اغتيال وشعرت في لحظات مراقبتي تلك انني بحضوري إلى ذلك السوق قد شاركت في ارتكاب جريمة اغتيال. لقد شاركت بتشجيعي، ليس لصناعة تلك النسوة فهن من حقهن تماماً، البحث عن أساليب عيش كريم وإذا كان هنالك طلب على بضاعتهن لجودتها وطعمها فهنيئاً لهن إذن. لكنني شاركت بأن شجعت، حتى وإن كان ضمنياً، بجريمة اغتيال لسنوات عمر اولئك الشباب الصغار. لقد كنت بحضوري وبدفعي لمال يسدد ماهية أولئك الصغار، اقترف جريمة لاغتيال براءتهم وأحرمهم من سنوات لعب ولهو حرياً أن يمارسوه في طفولتهم. وليست هذه هي الجريمة الوحيدة، فبينما تضن الظروف على جموع هؤلاء الصغار بأن يسعوا للعلم فإننا نقف بذلك ونصنع حاجزاً ما بين بلادنا وبين تطورها وتقدمها والمعرفة. اليوم العالمي للطفولة ولكي يصبح الوضع أكثر سوءاً، فلقد تقارب موعد زيارتي تلك مع اليوم العالمي للطفولة. " الاهتمام بالطفولة وتنمية الصغار ليس مجرد اتفاقيات توقع أو حبر يوضع على ورق، إنه التزام جاد وعهد مغلظ " تم الإعلان عن اليوم العالمي للطفل لأول مرة في جنيف عام 1954، بواسطة الجميعة العامة للأمم المتحدة. كان الهدف من يوم الطفولة هذا هو تشجيع العالم على النظر لأمور الطفل وعلى تحديد يوم معين لمناقشة مشاكلهم وكيفية معالجة قضاياهم. ولا يزال يقام في العشرين من نوفمبر من كل عام هذا الاحتفال الذي وقعت على اتفاقيته 91 دولة كان السودان من ضمنها. وببلوغ عام 1989 كان الموقعون على الميثاق قد بلغ ال(191) دولة. ولكن الاهتمام بالطفولة وتنمية الصغار ليس مجرد اتفاقيات توقع أو حبر يوضع على ورق. إنه التزام جاد وعهد مغلظ ما بين الكبار المسؤولين عنهم، سواء كانت أسرهم أو أولي الأمر منهم. أساسيات الحياة الكريمة إن الالتزام بمعاهدات حماية الطفولة تعني أن نعمل بجد كبير من أجل توفير أساسيات الحياة الكريمة لهؤلاء الأطفال وأقلها في هذا العالم الذي يتنافس من أجل العقول الفذة هو التعليم. من حق الأطفال أن تكون لهم حياتهم التي يعيشونها وأيامهم ولحظاتهم والتي لا تتضمن بأي حال من الأحوال العمل طوال اليوم وبتلك الطريقة التي راقبتها. من حق الأطفال علينا أن نهيء لهم الأمان والطمأنينة حتى ينشأوا بنفس سليمة بعيدة عن آلام الحروب وجراح الفراق وعذابات الاضطهاد المؤلمة. من حق الأطفال أن ينعم والداهم بأعمال تدر عليهم دخلاً معقولاً يمكنهم من العيش دون مستوى الفقر ودون إحساس خجل بحوجة أو فاقة أو "عوزة". وتشغلني أمور الطفولة أينما كانت وتحتل جزءاً كبيراً في البال. لسبب ما أجدني أتعاطف مع الأطفال في كل مكان، وفكرت أن السبب ربما يعزي لكوني أم لثلاثة أولاد تتراوح أعمارهم ما بين التاسعة ودون الثانية. أم باتت تنحصر أحلامها، ليس فقط في توفير أفضل تعليم ومسكن وملبس، بل حتى في تهيئة فرصة للأنشطة الرياضية والابداعية المختلفة لهم. أم بات جل همها في إمداد أطفالها بقناطير من سعادة تبقى لهم ذخراً لمستقبلهم وتقيهم تقلبات الزمن. ولكم من أم هذا أملها ولا تستطيع إليه سبيلا. كائنات مستضعفة لكن حتى هذا، لا أظنه، السبب الرئيسي. ربما يكون لإحساسي بأن الأطفال هم كائنات على الأرض مستضعفة، حضرت إلى هذا العالم بدون إرداة منها أو مشورة. " الكاتبة: قررت التوقف عن زيارة مثل تلك الأسواق والمحال في الوقت الراهن حتى أشعر أنني لا أشارك في جريمة اغتيال طفولة ومستقبل سيدور تراه علينا " وصار عليها أن تمر بظروف يشيب لها الوجدان وتعمل وكأنما ليس لعذابها من يرحمها ويرفق بها. هنالك شعور مني بمسؤولية عظيمة تجاه هؤلاء الصغار الذين يتسكون في الطرقات حيناً يلعبون، أو يستجدون ملئ "باغاتهم" بالمياه في منتصف الليالي، أو أولئك الذين يمدون أيديهم "يشحدون" بضعة قروش أو جنيهات. أو أولئك الذين يعملون بكد ويحملون "صاجات" الشية الساخنة فتصيب أيديهم بدلاً من أن تتذوق أفواههم ما حملته. وكنت أفكر أنه إذا كان هذا مصير أبناءنا اليوم ونحن صوب ربي إلى رحول متيقن، فكيف هيأنا خلفاءنا في هذه الأرض وكيف من بعدنا سيرعونها؟. إذا كان مصيرهم مظلماً فهكذا حال بلادنا، وإن تنزلت عليهم نعمة بعض اهتمام من زعمائنا فهكذا ستكون أيامنا التي لن نشهدها وإن نستطيع، بسهولة، أن نتوقعها. وقررت التوقف عن زيارة مثل تلك الأسواق والمحال في الوقت الراهن حتى أشعر أنني لا أشارك في جريمة اغتيال طفولة ومستقبل سيدور تراه علينا، يا ربي، بأي حال ويعود!!