صدر أخيراً للأستاذ بدرالدين سليمان، وزير الصناعة الأسبق، كتاباً بعنوان: "نموذج بديل للنمو.. نتائج النمو الأخلاقية"، في 152 صفحة من القطع المتوسط عن مطبعة الحياة الجديدة، وهو كتاب يحمل رؤى حول هموم أفريقيا والدول النامية في التنمية والتقدُّم. والكتاب حصيلة وعصارة لتجارب بدر الدين سليمان الثرة، واسهاماته في الأوساط المحلية ومداخلاته في المحافل الاقتصادية الدولية، فهو حافل بمادة دسمة ترفد قواميس الحديث عن التنمية الأخلاقية بتعابير جديدة، وكلمات مستحدثة، ورموز مبتكرة تمنح القارئ متعةً في القراءة، وتتبع المعلومات والأفكار. ويدور جوهر الكتاب حول الغزو الفكري والحضاري والصدام بين الحضارات لسحق أي حضارة غير الحضارة الغربية، باعتبارها حضارات دونية، حيث يتطابق ذلك مع حديث ابن خلدون بأن الدول المغلوبة مولعة دوماً بتقليد الدول الغالبة، ويؤكد على ضرورة حماية تنوع التقاليد الثقافية الأساسية للأمم باعتبارها المكونات الأساسية للتراث الإنساني. تفكير استراتيجي في هذا الباب الذي عنون له المؤلف ب"التفكير الاستراتيجي" يقول: (تنطوي الحلول الاستراتيجية على معاني الرؤية التنبؤية للمستقبل والبصيرة باتجاهات تشكله وتطور وقائعه، وعلى رؤية الأخطار القادمة.. ودرئها في الوقت المناسب.. ويتطلّب ذلك التوصل للمعلومات المستقبلية المتداخلة وطرح الافتراضات الصحيحة، هذه الرؤية المستقبلية المنهجية هي نقيض الغفلة والتخمين الاعتباطي ولا سبيل معها للمداهمات المباغتة أو المضاعفات المفاجئة. ؛؛؛ للحلول الاستراتيجية أيضاً معاني القدرة على إنتاج المستقبل الذي يتم اختياره وليس المستقبل الذي يفرضه أو تلده المصادفات العمياء ؛؛؛ بهذا المعنى تصبح الحلول المطروحة حلولاً استراتيجية وليس محض استجابات طائشة مرتجلة بعد فوات الزمن.. وتتضمن الحلول الاستراتيجية أيضاً معاني القدرة على إنتاج المستقبل الذي يتم اختياره وليس المستقبل الذي يفرضه أو تلده المصادفات العمياء أو تشكِّله المضاعفات العارضة. نحن قادرون -لو أردنا- على قيادة مصيرنا وتاريخنا هذا هو التعبير عن معاني القدرة على تغيير حياتنا واستلهام رؤى الأمل والسمو واستصحاب ذكريات وتجليات تاريخنا ومشاهد ملامحنا وانفعالنا بنداء الخلاص الأبدي في دنيانا وآخرتنا، نحن قادرون لو أردنا. ويؤكد بدرالدين سليمان أن الحضارة الغربية التي تتباهى بالنصر على التاريخ تحمل في أعماقها سجلاً يفيض بالرزايا والمحن التي أوقعتها بالإنسانية، مثل محن الغزو والطمع والعنف الدموي والنهب والاسترقاق والتجارة الوبيلة في الرقيق والأفيون، والتي أسماها المؤلف (الهولوكست العالمي). تحول المفاهيم ويمضي ليقول: هذه الديون في أعناق الدول الاستعمارية تفوق ديونها على كلِّ الدول المستضعفة بأضعاف مضاعفة، ولكنها بكل أسف ليست ديوناً ترصد في دفاتر البنوك ولا يتعامل فيها صندوق النقد الدولي ولا ينظر في جدولتها نادي باريس، فهي ديون من الدماء التي أريقت، والحياة التي استرقت والإنسانية التي أهدرت فلا بد من مؤسسات إنسانية جديدة للنظر في جدولة هذه الديون الدموية الباهظة. ؛؛؛ الإسلام عقيدة ونظام حياة لا يستتبع الجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، ولا يصح أن تعني عبارة الحاكمية الإلهية إنكار الاجتهاد والتجديد ؛؛؛ ويرى المؤلف أن النقطة الجوهرية للإصلاح التي نجد لها جذوراً في تطور المجتمعات الإنسانية في الشرق والغرب على حدٍّ سواء، هي التحول من مفاهيم الأساس المقدس للحكم إلى مفاهيم الأساس المدني للسلطة والحكم، وأنه لا يجوز أن ينهض الإصلاح السياسي في العالم الإسلامي على إسقاطات لمفاهيم الدعوات الإصلاحية في المجتمعات الكنسية على المجتمعات الإسلامية، ذلك أن الفكر الإسلامي الأصولي لا يضع الدين في مواجهة الدنيا، فهذه ثنائية كنسية لا يعرفها الإسلام، فالدنيا يقابلها في الإسلام الآخرة، والدين يحكم الناس في الدنيا والآخرة معاً. ويشدد المؤلف على أن أصول الحكم في الإسلام لا تؤسس نظاماً ثيوقراطياً بالمعاني التي تناهضها العلمانية، فالأساس المدني للسلطة ركنٌ من أركان الفكر الإسلامي، ولكنها سلطة مقيدة بالمشروعية العليا، بمعنى أن القول إن الإسلام عقيدة ونظام حياة لا يستتبع الجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، ولا يصح أن تعني عبارة الحاكمية الإلهية إنكار الاجتهاد والتجديد، وتقديم النقل على العقل والرأي، وإلغاء التمييز بين العقائد والعبادات وأمور الحكم والمعاملات. فحاكمية الله هي معنى التوحيد الخالص والتنزيه المطلق للرب الواحد الأحد، وهي نفي الوثنيات والشرك، والحاكمية الإلهية هي نظر كوني يصطحب نواميس الكون وشرائعه الكلية بالاختصاص الرباني المطلق المنزه الأحد. بناء الحضارة يدعو بدرالدين سليمان إلى بناء حضارة شامخة ترتكز على عدة محاور: أولها تحقيق الترابط الشامل بين القطاعات الفرعية للصناعات، وثانيها تحقيق ترابط شامل أمامي وخلفي بين قطاع الصناعة والقطاعات الاقتصادية الأخرى. والمحور الثالث السعي لتحقيق طفرة نوعية لمعالجة ضيق القاعدة الإنتاجية وضحالة العمليات الصناعية. والمحور الرابع التحول عن إنتاج سلع التقنية العالية القيمة بخلاف السلع الصناعية التقليدية، وهي منتجات القوى العقلية والمحور الخامس توسيع القاعدة الصناعية على أنماط متكاملة من الصناعات القاطرة وقاعدة عريضة من الصناعات المتوسطة والصغيرة. ؛؛؛ الجانب المادي وحده لا يحقق التقدم الاقتصادي لأن المال وحده لا يحقق للفرد كل شيء وإذا كان الإنسان لا يسمع له صوت ولا مشاركة، فهذا يعني أن المال وحده لا يحقق رغباته وطموحاته المتكاملة ؛؛؛ والمحور الأخير تبني تقنيات وعمليات إنتاجية صناعية أكثر نظافة وأكثر توافقاً مع البيئة بزيادة كفاءة استخدام الطاقة والمياه والموارد الطبيعية وتدوير المخلفات والخردة والتطبيق الصارم لأنظمة المراجعة البيئية للمشاريع الصناعية. ويقترح المؤلف نموذجاً للإصلاح الاقتصادي والإنماء الصناعي، يبدأ بالانتقال إلى مرحلة بناء حضارة صناعية مستندة على البنيات الأساسية، مع وضع برامج للتنمية البشرية وبناء القدرات المؤسسية الذاتية، ويقوم على تأسيس المساندة لها سواءً البنيات المالية منها أم الاجتماعية خاصة، ومنح أولوية قصوى لقطاع التغيير التقني، باعتباره قاطرة الإنماء والتغيير الشامل، وتغيير استراتيجية إزاحة المعوقات السياسية والإدارية والاقتصادية تعتبر من أهم مكونات إصلاح السياسات. تهميش اقتصادي قدَّم الأستاذ بدر الدين سليمان في كتابه، رؤية متقدِّمة حول مشاكل التهميش الاقتصادي لصغار المستثمرين وأهمية إدماج الفئات البسيطة في المنظومة الاقتصادية واسترشد بدراسات قدمت في مصر حول القطاع غير المنظم والذي كما جاء في دراسة حديثة يمثل أكثر من 80% من حجم الإنتاج الكلي في مصر، بل إن الدراسة التي قدمتها صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية عزت تهميش وتبطل الشباب إضافة إلى عدم المؤسسية والديمقراطية أحد أسباب ثورات الربيع العربي. وأضاف الأستاذ بدر الدين أن المعلومات الاقتصادية عن مستوى دخل الفرد والدخل الكلي يجب ألا تقرأ بمعزل عن الرضا والرفاهية الاجتماعية والسياسية، لأن الجانب المادي وحده لا يحقق التقدم الاقتصادي لأن المال وحده لا يحقق للفرد كل شيء وإذا كان الإنسان لا يسمع له صوت ولا مشاركة، فهذا يعني أن المال وحده لا يحقق رغباته وطموحاته المتكاملة. ؛؛؛ الرئيس الفرنسي السابق؛ نيكولاي ساركوزي، أعد دراسة حول تعريف أشمل وأدق لمعايير قياس النمو وإيجابياته، وهل ما يتحقق من زيادة في الدخل القومي يعني الرفاهية والكفاية، أم أن المطلوب أكثر من ذلك ؛؛؛ وأضاف كذلك أن الإنسان قادر على المبادرة والتجاوب والتطوُّع إذا أحس بأن له معنىً وقيمةً يُرتجى منها، مما يجعل مشاركته ذات نفع وفائدة، ودلل بالآية الكريمة في سورة قريش "الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" وتفسيرها يشير لتكامل وتلازم الإشباع المادي بالأمن المعنوي والروحي، وهو طرح ينبع من مقاصد الاقتصاد الإسلامي. ولفت المؤلف إلى أن مصر الآن تجري دراسة (حزب العدالة والتنمية) لإدماج الاقتصاد غير المنظم في الاقتصاد الكلي من أجل تحقيق الأهداف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في آن واحد. كما تعرَّض الأستاذ لدراسة ضخمة أعدّها رئيس فرنسا السابق نيكولاي ساركوزي حول تعريف أشمل وأدق لمعايير قياس النمو وإيجابيات النمو، وهل ما يحقق من زيادة في الأرقام في الدخل القومي يعني الرفاهية والكفاية، أم أن المطلوب أكثر من ذلك، حتى لا تكون الأرقام خادعة لمن يظن أن فيها الإجابة الشافية حول زيادة دخل الأفراد وكفايتهم. وأسهب في وصف المعاني وما وراء الأرقام الإحصائية المجرَّدة، وتحسَّر على واقع أصحاب المعاشات وضعف دخولهم ووضعهم الاجتماعي المتدهور. عموماً الكتاب يستعصي على من يعرضه تلخيص ما فيه، لأن كلماته تمسك بعضها بعضاً، وتأتلف لتشكِّل جسماً واحداً ينضح بالحيوية، وينبئ عن جهد خلاق لوضع لوحة متناسقة لقضايا وإشكالات نظرية، وطرائق عملية لبسط رؤى ونموذج بديل لتنمية سليمة تنأى عن التجاوز في الرؤى أو الإفراط فيها وتتلمّس حقيقة التنمية ثوباً يليق بمن يلبسه شكلاً ومضموناً.