لم يمنعه محبساه منزله وفقدانه للبصر من قطع علاقته مع وحي إلهامه، الذي يزوره من حين إلى آخر، فهو ونيسه وجليسه الذي تهفو إليه روحه، للدرجة التي جعلته يخيل إليه أنه يسمع صوته بل يحدِّثه عن أعماله القديمة. يتحاور الشاعر مع إهامه حول الجديدة منذ ولادة إحساسها في دواخله إلى أن ترى النور قصيدةً مكتملةً لتبقى في انتظار ملحن بارع يصيغ لها الألحان. ومن ثم تجد القصيدة طريقها إلى أحد الفنانين الذين يردودن أغنياته صباح مساء دون أن يقدموا له حقه المادي الذي امتطى بعضهم به عرباتٍ فارهةً، وأضعف الإيمان البحث عنه وزيارته، ثم ليتهم يدسون أيديهم تحت وسادته ليضعوا له حفنة جنيهات من حقوقه الكثيرة التي بطرفهم. شاخص ببصره للسماء البحث عن منزل الشاعر محجوب سراج لم يكن مضنياً، فأهل أمدرمان لا يخطئون بيوت المبدعين أبداً، كيف لا وهم عشاق للفن الأصيل، وسراج واحد من شنَّف آذاننا وأطرب أبداننا. ؛؛؛ البحث عن منزل الشاعر محجوب سراج لم يكن مضنياً، فأهل أمدرمان لا يخطئون بيوت المبدعين أبداً، كيف لا وهم عشاق للفن الأصيل، وسراج منهم ؛؛؛طرقت على الباب مرة وقبل أن أمد يدي لأطرق مرة أخرى جاء ابنه الصادق وألقى عليَّ التحية، وطلب مني الدخول. وأول شيء وقعت عليه عينايَّ هو الشاعر محجوب سراج الذي وضع جسده النحيف على سرير تحت ضل الضحى رافعاً رأسه بكلتا يديه شاخصاً ببصره للسماء، وما أن التقطت آذانه صوت القادم بدأ يبحث عن مصدر الصوت، فعجلت لأمسك بيده فأطبق بكلتا يديه على يدي وقبضها بشدة ربما أراد أن يعبِّر لي عن سعادته بالزيارة تلك. يعاني العمى والفلس كيف هي صحتك يا أستاذ؟ سؤال دفعت به إليه بينما كان المثل الذي يقول (الحال يغني عن السؤال) حاضراً، ولكن أردت أن أسمع منه، فأجابني قائلاً: الحمد لله لا أعاني إلا من العمى -صمت قليلاً- وأردف والفلس، فالحالة الاقتصادية صعبة، فأنا يا ابنتي رجل فاقد للبصر ؛؛؛ قصص الحب التي عاشها انتهت بالفراق ولن ينسى الشاعر تلك الفتاة التي انتحرت من أجله ؛؛؛ وأغنياتي التي يتغنى بها الفنانون لا يصلني منها جنيه واحد لأستعين به على الحياة القاسية، فالغلاء أصبح في كل شيء، وحتى الراتب الشهري الذي خصصه لي السموأل خلف الله، وهو ألف جنيه، بعد أن عُيّن وزير ثقافة غيره توقف ولا أدري لماذا؟ ومضى بالقول أنا وحيد فأصدقائي الشعراء والفنانين لا يزورونني أبداً، وأشار بيديه لمنضدة موضوع عليها تلفزيون، هذا الجهاز أسمع صوته، ولكنني لا أرى من هو صاحب الصوت وأفضِّل الاستماع إلى الإذاعة ولكن لا يوجد لديَّ راديو. عدل الإله عشمه سراج رغم المرض والحزن العميق البادئ على ملامحه ما زالت قريحته الشعرية حُبلى بقصائد جميلة آخرها قصيدة أصوات التي كتبها بعد أن خيِّل إليه أنه يسمع أصواتٍ تتحدث إليه عن أعماله القديمه وحتى الجديدة التي يرغب في كتابتها، وتقول بعض من مقاطعها: ؛؛؛ الشاعر سراج يفضل الإستماع الى الإذاعة ولكنه لا يمتلك راديو يستمع إليه ؛؛؛"أتمنى أسعد في الحياة أصلو الشقاء في الناس وهم أصوات تقول لي عيش هواك أصوات تجرِّعني الألم غرَّدت لي حب الحياة أصدق غُنا وأجمل نغم سبحت ضد الموج سنين أنا في الوجود بعد العدم موج المظالم والعذاب لاقاني زي طير الرخم أحمل أحبابي وغناي فوق الجبال أعلى القمم أسمع ندا صوت الحبيب يدعوني لي شجر السلم وأصبر علي ألمي وشقاي عدل الإله عندي العشم" قدره الفراق والحزن (شاعر الحزن النبيل) هو لقب محجوب سراج وجاء من أغنياته الحزينة وأشهرها "بعد الغياب" التي تغنى بها الفنان صلاح مصطفى. سراج قال لنا إن هذا اللقب خائلاً عليه فأنا قدري الحزن والفراق فتجاربي العاطفية التي ما زالت تلقي بظلالها الحزينة على كتاباتي أثّرت فيني كثيراً، وكلما راودتني قصيدة تذكّرت إحدى محبوباتي. واحدة منهن كانت مسيحية، وقالت لي يومها إنت لا يمكنك أن تترك دينك لأجلي، وأنا كذلك لن أتخلى عن ديانتي المسيحية لأنني أحبك وكتبت فيها: "جاي تسأل عني تاني بعد ما ضيّعت الأماني رحلت خليتني لزماني وإنت عارفو عليَّ جاني" وثانية، كان شقيقها سبب في أن نفترق ورفضني عندما ذهبت إليها خاطباً وفي اليوم الثاني حرقت نفسها وماتت منتحرة فكتبت لها أغنية: "إنت لو فكرت تتذكر غرامك تبكي ماضيك البعيد" ولن أنسى أم هاني، بنت أحد أمراء المهدية، التي من سوء حظي كانت مخطوبة ورثيت حبها بكحيل الطرف يا هاني زي الزهرة ماتت في الصغر. ثنائية الشاعر محجوب سراج والفنان صلاح مصطفى، حققت لكلٍّ منهما النجومية، وعلى الرغم من إصابة سراج بالعمى إلا أن إصراره كبير على مواصلة كتابة الشعر لرفد الساحة بأغنيات رصينة لتكافح الهابطة ورغب في أن ينفخ الروح من جديد في ثنائيته مع صلاح وكتب له أغنية تقول: "ما تفتكر أنا زي زمان أسأل عليك ما دمت أطفأت الأمل الكان بنوّر لي وليك والحب الكبير أصبح أثر والأغنيات الطيبة زي الزهرة ماتت في الصغر وأنا زي زمان ما ممكن أرجع تاني ليك فالنار إذا هي أخمدت ما بتشتعل قط من جديد" وبعد أن ألقى محجوب القصيدة وضع رجلاً على الأخرى وتحسّر على قصيدته تلك التي دفع بها إلى صلاح مصطفى ووعده أن يلحنها لتعانق أسماع الناس، ولكن للأسف لم يبر بوعده وأخذها وذهب بها ومضى على هذا الأمر شهور إلى أن أصابه اليأس من يراها تعانق بعد الغياب وبقية أخواتها على بوابة الخروج قبل أن أغادر مجلسه الذي لا يُمل سألته عن أمنية يحلم أن يحققها، لحظتها ؛؛؛ الشاعر يتساءل: لماذا منع عني وزير الثقافة الجديد الراتب الشهري الذي خصصه لي السموأل خلف الله ؛؛؛ارتفع صوته عالياً وردد أنا لا يوجد لديّ ديوان.. أنا لا يوجد لديّ ديوان شعر، وكثير من أشعاري ضاعت في المجلس الأعلى للثقافة وأحلم بديوان يضم قصائدي المغناة، ثم أرسل سؤالاً لكل من زامله في الإدارة القومية للكهرباء وللفنانين الذين تغنوا بأغنياته وهم على قيد الحياة لماذا لا تزورنني؟