الأسطورة، كلمة مفعمة بالغموض الدلالي في الثقافة العربية؛ ذلك لأنها وجدت نفسها مكتنفة بين دراسة أكاديمية غير منصفة، ما برحت تضعها في خانة غير المرتبط بالواقع، ونظرة إسلامية عملت على إعادة صياغتها لتضعها في إطار (العبرة) في المجتمعات التي تشكَّلت مع مجيء الإسلام، جاعلةً منها رمزاً تأسيسياً جديداً. من نافلة القول، إن القرآن العظيم اشتمل بهذا الم عنى الأخير على عدة أساطير، وهيمن كذلك على عدد آخر كان موجوداً قبلاً في الكتب السماوية السابقة. لكن، كان للأميركي من أصل أوكراني ياروسلاف ستيتكيفيتش طريقته المختلفة في النظر إلى الأسطورة العربية، طريقة عملت جاهدة على أن تجمع بين النظرة التاريخية المجردة والمعالجة ذات الطابع الإسلامي لمفهوم الأسطورة. حيث يقوم بخطوتين في اتجاهين متعاكسين؛ أولى ترمم تاريخ ثمود وتعمل على تخليصه من البُعد الأسطوري، وثانية ترمم أسطورة ثمود من خلال تخليصها من التاريخ. هدف ومنهج ستيتكيفتش توسلت الدراسة بمنهج مختلف، اعتمد على منهج الناقد الكندي نورثروب فراي مع قليل من التحوير؛ إذ يرى فراي أن الأسطورة تمثل أعمق رغبات الإنسانية وأعمق مخاوفها. ؛؛؛ الدراسة اعتمدت على منهج الناقد الكندي نورثروب فراي مع قليل من التحوير؛ إذ يرى فراي أن الأسطورة تمثل أعمق رغبات الإنسانية وأعمق مخاوفها. ؛؛؛وحين يتعلّق الأمر بدراسة رموز مشكلة لثقافة ما ذات بناء أسطوري، فإن أولى الخطوات هي الوعي بشروط مواءمة الميثولوجيا فيها بحيث تطوع الأسطورة لتصبح مصدراً لاكتشاف معان آيديولوجية أو يوتوبية، وتعيد إنتاجها في بناء صوري يعبر عن المخاوف والرغبات القديمة في الثقافة نفسها، الشفرة الكبيرة. غير أن ستيتكيفتش يرى أن هذا لا يصح مع ثقافة لا تتردد في إزدراء الأسطورة وطردها من مجال الأدب (الرفيع) إلى خانة الأدب الشعبي الموسوم بالدونية الثقافية. على الرغم من أن الكتاب تم تأليفه باللغة الإنكليزية، إلا أن رغبة كاتبه هي أن (يغري زملائي العرب والغربيين المهتمين بالأدب، بأن يكتشفوا الشبكة الغنية للأسطورة العربية الأصيلة وأن يضعوا هذا التقليد العربي داخل التقاليد الأوسع والمدروسة على نحو أكثر تكثيفاً، الخاصة بالأسطورة في الشرق الأوسط وبالأسطورة الكلاسيكية اليونانية واللاتينية [....]. يغري كذلك باكتشاف أسطورة تكمل سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بأسطورة عربية أصيلة، وأخيراً يغرينا فيها ما تنطوي عليه من ممكنات أسطورية تدعو إلى وجوب المقارنة). توصيف الأسطورة العربية لم تتعزز معرفة العرب بماضيهم الجماعي، وفي داخلها معرفة ورثتهم الإبداعية والاتباعية بعبارة أدونيس الشهيرة بموقف مذهبي ملموس، لا تاريخي، مضاد للأسطورة في مقدوره إحالتها إلى وظيفة حكائية وتلقينية رافدة للذاكرة، بل استولت على هذه المعرفة جدية وصرامة العقيدة منذ اللحظة القرآنية الأولى. ؛؛؛ عبارة (أساطير الأولين) وردت في القرآن الكريم تسع مرات في آيات مختلفة، بعضها مكي وبعضها مدني ؛؛؛ حيث أخذت تواجه معرفة الماضي بالقيم المركزية للأخلاق الإسلامية الحميدة. إذ نجد أن عبارة (أساطير الأولين) وردت في القرآن الكريم تسع مرات في آيات مختلفة، بعضها مكي وبعضها مدني، غير أننا لو قارنا بين معاني التعبير في الآيات المكية والمدنية لوجدنا أنه قد بدأت تحيط بالآيات المدنية دلالات جديدة. حيث بدا حسب ستيتكيفيتش (كل "باطل" وكل "حق" يتميّز تميُّزاً أبدياً مطلقاً إلى زمن ما قبل الوحي السرمدي "عصر الجاهلية" الذي تبعه زمن الوحي السرمدي أيضاً "عصر القرآن" [.....]. وربما لم تتح أي استمرارية تاريخية ثقافية لعصر ما قبل الإسلام، بينما حيل بين عصر الإسلام وبين التأويل؛ إذ عُدَّ مسألة تأويلية لا تتغير، أو معطى مطلقاً على نحو صريح)، الأمر الذي جعل من الصعوبة معالجة أسطورة عربية -ثمود أو غيرها- وفقاً لمصادر تاريخية مجرّدة؛ أي بعيدة عن تدخُّل إعادة التأويل التاريخي الملتزم بالبُعد الإسلامي أو الرافد للتأويل التاريخي بمعانٍ وأهداف جديدة. نزع الأسطورة عن ثمود على الرغم من الاقتصاد السردي في سياق الإشارات العربية إلى الغصن الذهبي لدى الطبري وابن كثير والثعلبي والواقدي وغيرهم، فإن ما يتبلور من تلك النصوص العربية المعزولة هو الفرز الأخّاذ والمثير للحيرة وغير الواعي سردياً للكيفية التي تطلق بها كلمة الغصن الذهبي أو (غصن من ذهب). ؛؛؛ القصة تغرس في ذهن القارئ أحداثاً مثقلة بالاحتمالات، خاصة إذا تمّ ربطها بحادثة الخاتم الذي يعثر عليه أحد المشاركين في غزوة تبوك ؛؛؛ حيث ترد كالتالي: حين كان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في إحدى حملاته العسكرية في الطريق إلى "تبوك" التي كانت في ذلك الحين قاعدة متقدِّمة من قواعد بيزنطة الجنوبية في الجزيرة العربية، مرّ بحجر ثمود القديم، وهكذا رويت سلسلة من القصص والأحاديث المتعلِّقة بالمصير المأساوي لثمود ومدينتهم. ومن بين هذه القصص قصة يظهر فيها النبي نفسه وتأتي مصوغة صياغة "فلكلورية" استفزازية وسردية الأسلوب إلى الحد البعيد. تقول الرواية: (إن النبي مرّ بقبر أبي رغال، فقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا قبر أبي رغال. قالوا: فمن أبو رغال؟ قال: رجل من ثمود كان في حرم الله فمنعه حرم الله عذاب الله، فلمّا خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن ههنا ودفن معه غصن من ذهب. فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم فجثورا عليه فاستخرجوا الغصن). وهكذا تغرس القصة في ذهن القارئ أحداثاً مثقلة بالاحتمالات، خاصة إذا تمّ ربطها بحادثة الخاتم الذي يعثر عليه أحد المشاركين في غزوة تبوك بين أطلال "الحجر" فيأمره النبي أن يُلقي الخاتم حيث وجده، فيعرض عنه مُروَّعاً ويستتر بيده أن ينظر إليه. وهنا يعمل ستيكيفيتش على قراءة هذه القصة/ الأسطورة وأخريات قراءة تزامنية حيث يخلص إلى أن ما تتسم به جميع هذه النصوص الترميمية يستند إلى صياغة أسطورية على نحو صارم، لا تمس حقيقة التاريخ الفعلي للشعب الذي عرف باسم ثمود إلا فيما يتعلّق منها باسمه واستيطانه في مدينة الحجر الصخرية، وتلاشيه النهائي الكامل. وبالتالي فإن ثمة اتجاهات عبثت بالمصادر الحكائية خارج القرآن جعلت من الصعوبة الاطمئنان إلى قضية ثمود كما نقلتها المصادر العربية الموجودة التي لم تخبرنا حتى عن المالك الجديد للغصن الذهبي. وهنا يصل إلى القول بأن ارتباط هذه القصة/ الأسطورة بغزوة تبوك لا يعدو كونه (إدراك راوي المغازي للحالة النفسية للنبي محمد خلال غزوة تبوك من ناحية ومضيّه في إقامة مماثلة مع قصة صالح وثمود من ناحية أخرى، فيقع في سلسلة من المماثلات بين النبي محمد وبقية الأنبياء، حسب التتابع القرآني الذين تتحداهم أممهم الظالمة). لذلك لن نخرج من هذه المحاججة بأسطورة/ قصة ذات معنى إلا إذا أعطينا الغصن الذهبي المكتشف دلالة مستقلة وأمعنا النظر في الظروف والأحوال الاقتصادية -الدور الذي لعبته ناقة صالح في خلخلة البناء الاقتصادي لقومه- والموقع الجغرافي لمدينة الحجر بعد احتلال الرومان للبتراء عام 106م. ؛؛؛ الكتاب يحرض على اعادة قراءة أساطير عربية أخرى لم تجد حظها من الدراسة الجادة.الكتاب يمثل إضافة جدّ مركزية لقراءة الأسطورة لدى العرب ؛؛؛غصن العرب الذهبي ليس من الممكن أن نناقش الغصن الذهبي عند العرب وننكر أن ما نبهه من غفوته هو الجهد الذي بذله جيمز جورج فريزر في كتابه: "الغصن الذهبي"، على الرغم من أن فريزر أفاد ممن سبقه في هذا المجال، حيث نجد الإشارات الرمزية كثيرة جداً إلى الغصن الذهبي والعصا الذهبية التي تشكِّل نموذجاً تبادلياً تلتقي في كونها نباتاً طبيعياً، غير أنها تختلف في دلالتها ورمزيتها. ينتهي ستسكيفيتش إلى القول إنه: (خلافاً للغصن الذهبي الفرجيلي/ الفريزري، وخلافاً لغصن جلجامش الذي يعيد الشيخ إلى صباه، لا يصلنا الغصن الذهبي العربي بأية قصدية نصية، بوصفه فرعاً من الطبيعة النباتية أو حتى بوصفه عينة سحرية متطفلة؛ فهو مجرَّد غصن من ذهب يُسجّى مدفوناً في قبر صاحبه المأساوي القديم، زد على ذلك خلافاً لسميّه عند فرجيل لم يكن هدفاً للبحث والطلب كشرط لدخول الحفرة؛ أي لم يكن مفتاحاً يفك به البطل المغاليق من الخارج، بل يفتح أسطورة مأساوية هي أسطورة الثموديين من داخل بعده الماضي وحده، بل في لحظة إخراجه والتعرُّف عليه، يمس أموراً مستقبلية، بحيث يبدو مسه على السطح مشروعاً لا يكاد يبين). هكذا تكشف لنا بنية اتباع السنة/ المواجهة عن تسويتين؛ بين محمد وصالح عليهما السلام بوصفهما هويتين نبويتين منفصلتين، حيث يُستخلَص صالح من زمن أسطوري لا تاريخ له، ومن أمثولة أخلاقية دورية، تعكس الحس القديم بالدين من حيث هو امتحان بالإذعان. وفيها يكون النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الفاعل التاريخي الكامل الذي يحس مع ذلك بوطأة تلك اللا تاريخية النبوية التي تثقل كاهله إلى حدِّ أنها تتسبب في إثناء غزوة تبوك في أحداث تطابق كامل بين الشخصيتين تقريباً. هل يجدر بي القول إن الكتاب يمثل إضافة جدّ مركزية لقراءة الأسطورة لدى العرب؟ ربما أذهب أبعد من ذلك إلى القول إنها ربما تحرِّض على إعادة قراءة أساطير عربية أخرى لم تجد حظها من الدراسة الجادة. تأليف: ياروسلاف ستيتكيفتش ترجمة: سعيد الغانمي