يبدو واقع الصحافة الثقافية في السودان في الوقت الراهن في تراجع مستمر بعد أن عاشت في السنوات التي أعقبت اتفاق السلام فترات زاهرة بسبب المناخ الذي كان سائداً وقتها. يُلخص ياسر فائز، وهو محرر ثقافي عمل بأكثر من صحيفة خلال الأعوام الخمسة السابقة؛ يلخص واقع الانحطاط المعرفي المعاش الآن. بمفارقة طريفة مفادها أن الشاعر الصادق الرضي، منذ أن غادر البلاد إلى بريطانيا في يونيو من العام الماضي؛ نشرت عنه صحيفة "الغارديان" البريطانية وحدها، أكثر من 11 مقالاً. بينما لم تتناوله الصحافة السودانية كلها أكثر من خمس مرات. بل إن الصحيفة التي كان يعمل محرراً ثقافياً بها فصلته من العمل في الوقت الذي تضع فيه بريطانيا نماذج من شعره في متحف لندن! مبادرات جريئة في سنوات منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، بدا أن الثقافة، في الصحف التي يكتب الكثير منها تحت (اللوغو) الخاص بها "يومية- سياسية- شاملة"؛ قد بدأت تأخذ حيزها المفترض، أو المُرضي للشريحة التي تستهدفها الصفحات الثقافية: الكثير من الملفات في جميع الصحف تقريباً، أخبار ثقافية تقفز إلى الصفحة الأولى، بل إن رئيس تحرير مثل عادل الباز، قام في مبادرة جريئة العام 2008م بتخصيص 50% من صفحات الصحيفة أسبوعياً للملف الثقافي! ؛؛؛ في سنوات منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، بدا أن الثقافة، في الصحف بدأت تأخذ حيزها المفترض، أو المُرضي للشريحة التي تستهدفها الصفحات الثقافية ؛؛؛الآن تغيَّر الحال، فبعدما كان بالإمكان إحصاء ملفات في صحف: الأيام، الصحافة، الحرية، الرأي العام، الأضواء، السوداني، الأحداث، الأخبار، أجراس الحرية، الرائد، رأي الشعب،... والكثير غيرها، أصبح من العسير على الذاكرة استحضار كم صحيفة لا يزال بها ملف ثقافي، إمّا لتوقف الصحيفة ك: الأخبار وأجراس الحرية والأحداث، وإما لإيقاف الملف من قبل ناشرين ربما رأوا فيه سقط متاع لا غير، مثلما حدث ب: السوداني، والرأي العام. صحفيون "مُجرَّد "مثقّفاتيّة" خلال السنوات الماضية، ومع موجات التغيّر التي تضرب رمال الواقع دون استثناء؛ ظل المحررون الثقافيون عرضة للكثير من الاسقاطات السلبية التي يفرزها وجودهم في بيئة يرى الكثيرون منهم أنها تتدهور وتنحط بسرعة مخيفة. ؛؛؛ الكاتب الصحفي فيصل محمد صالح يرى ان المحررين الثقافيين صاروا الآن "... مُجرَّد "مثقّفاتيّة"، لا يهشِّون ولا ينشّون، وهم الذين (يَفتَكِرون) ويُبرِّمون شُعورهم ؛؛؛فبعد أن "تأسست الصحافة السودانيّة على أيدي مثقّفين يوازون تماماً مشرفي الملاحق الثقافيّة، والكتّاب والأدباء والفنانين، والمهتمين بالقراءة والمعرفة..." كما يقول الصحفي والكاتب فيصل محمد صالح؛ صاروا الآن "... مُجرَّد "مثقّفاتيّة"، لا يهشِّون ولا ينشّون، وهم الذين (يَفتَكِرون) ويُبرِّمون شُعورهم، وهم، بعد تاريخهم الطويل في العمل الصحفي، الفئة المُهمَّشة والمَسخُور منها، ظاهراً وباطناً، لانعدام شَغَلَتها، بالتأكيد، وفراغ زمنها لدرجةٍ تُمكِّنها من قراءة كتاب" كما ينقل ذلك عنه مأمون التلب؛ المشرف السابق لعدد من الملفات الثقافية بعدد من الصحف. عبارات الإقصاء المستبطن رغم الكثير من حسن الظن في تفسير بعض الأفعال والتفاصيل تجاههم، إلا أن وجود المحررين الثقافيين بالصحف ظلّ –ربما- غير مريح لبقية العاملين بالصحيفة. ؛؛؛ الكثير من العبارات التى توصف المحررين الثقافيين .. عبارات تحمل قدراً غير يسير من الإقصاء المستبطن، أو على أفضل الفروض قدراً من العنف اللفظي ؛؛؛ يمكن استقراء هذا الأمر من عبارات مثل: "كلام المثقفاتية دا أنا ما بفهمو.." خصوصاً حين صدورها –العبارات- من أحد كبار المحررين (مدير تحرير، رئيس تحرير أو نائبه). وهي العبارات التي تحمل قدراً غير يسير من الإقصاء المستبطن، أو على أفضل الفروض قدراً من العنف اللفظي، هذا قبل الانتقال في ما بعد إلى مرحلة العنف الرمزي حين يتم الزحف على الصفحات الثقافية بالإعلان مثلاً. في الوقت الذي تتوافر فيه خيارات أخرى لصفحات لا تحمل غير صور بعض ال(فنانات) المجلوبة مع أخبارها من الإنترنت؛ بما يكون في الكثير من الحالات مقدمة للإلغاء التام للصفحات الثقافية في الصحيفة، التي ينظر إليها كثير من الناشرين بوصفها صفحات مهدرة، أو موجودة فقط (لحفظ الخانة) إلى أن يُقيَّض لها أن تُملأ بالإعلانات. غربة ووجود مغاير هذا بالطبع غير المناوشات والتحرُّش الذي يوجه من قبل (الزملاء) نحو المحرر الثقافي مغلفاً في الكثير من الأحيان بالهزار أو الدعابة. ؛؛؛ الملفات الثقافية تواجه عداءً داخلياً (نفسيا) من محرري الأقسام الأخرى، بحسب أحمد النشادر –أحد محرري الملف الثقافي بصحيفة الأحداث- لأنها بالنسبة لهم "مربكة، ومزعزعة للمطمئن والسائد" ؛؛؛ هي (غربة)، مثلما يصفها عثمان شنقر، وهو محرر ثقافي عمل بأكثر من خمس صحف على مدى أكثر من عشر سنوات، وتدرج حتى وصل إلى منصب (رئيس التحرير). يقول شنقر: "المحرر الثقافي في الصحيفة السيّارة في السودان، ولسنوات طويلة، ظلّ يشعر بغربته ووجوده المغاير وسط (الزملاء) من المحررين، الذين يكنون عداءً مستتراً له يبرز في صور شتى من (العنف اللفظي)، هذا بجانب إحساسه بالتهميش من إدارة التحرير التي تنظر إلى عمل المحرر الثقافي بكثير من عدم الفهم والريبة في أغلب الأحيان". كذلك يرى أحمد النشادر –أحد محرري الملف الثقافي بصحيفة الأحداث- أن الملفات تواجه عداءً داخلياً (نفسيا) من محرري الأقسام الأخرى، لأنها بالنسبة لهم "مربكة، ومزعزعة للمطمئن والسائد"، وهو ما يظن النشادر أنه يتمظهر في وصفها بأنها "غير مفهومة". الباب الآخر وربما يقود هذا إلى افتراض على علاقة بالمسار الذي أوصل المحرر الثقافي إلى الصحيفة، إذ نلاحظ أن أغلب المحررين الثقافيين هم في الأصل أدباء (بوصف الأدب هو الإبداع الذي يتمظهر في اللغة). فنجد منهم الشاعر والقاص والروائي والناقد، أي أنهم دخلوا المجال الصحفي من باب يختلف عن الباب الذي أتى منه الآخرون. إذ نجد أن أكثرية الصحفيين هم من خريجي كليات الإعلام التي –في الغالب- رسالتها ليست ذات اهتمام بالأدب من حيث هو أدب. ؛؛؛ المحررين الثقافيين هم في الأصل أدباء، فنجد منهم الشاعر والقاص أي أنهم دخلوا المجال الصحفي من باب يختلف عن الباب الذي أتى منه الآخرون ؛؛؛يقول مأمون التلب إن المحررين الثقافيين "دائماً، هم آخرون". وهو وصف إن صحّ ربما يضفي قوة على الافتراض أعلاه. إلا أن ياسر فائز ينبش بعيداً بحثاً عن جذور هذا التهميش والعداء، ويقول إن "صعود الرأسمالية الطفيلية، أوجد مجتمعاً صحفياً جديداً، وظروفاً جديدة لسوق الصحافة تتواءم مع هذه الرأسمالية الطفيلية". تمظهرات الإنحطاط يستطرد فائز شارحاً: "السياسة التحريرية أصبحت بناءً على هذا الواقع تضع الربح المالي مقدماً على الرسالة الصحفية، وبذلك تسعى الصحيفة لتناول موضوعات تضمن لها نفوذاً سياسياً ومجتمعياً بما يشكّل دعامة لضمان الربح المالي بما يتجاوز مفهوم (العلاقات العامة)". ثم لخّص ياسر كل ذلك بقوله إن التجني على الصحافة الثقافية هو "أحد تمظهرات الانحطاط المعرفي العام"، مظهراً المفارقة في أن "من المفترض للصحافة أن تكون تجاوزاً للانحطاط أو ترفّعاً عنه في أضعف اجتهاداتها، تقديراً لذاتها". ؛؛؛ المحرر الثقافي عليه أن يكون "صاحب مبادرات تحريرية مبتكرة وألا يكتفي بالملحق الثقافي الأسبوعي، بل عليه الدخول بقوة والإسهام بشكل فعال في أقسام الصحيفة الأخرى ؛؛؛ قبل أن يصل إلى أن "سوق الإعلان هي التي تتحكّم في أرباح الصحيفة ومن المستحيل أن تحقق أي صحيفة ربحاً -ولو ضئيلاً- باعتمادها على التوزيع فقط، لذلك فإن المحررين الثقافيين الذين يحتجّون بأنهم يوزعون نسخاً أكثر من الصحيفة في يوم (الملف الثقافي) يتجاهلون أنهم لن يزيدوا الصحيفة ربحاً، وأنهم ما زالوا خارج تجاذبات النفوذ السياسي والمجتمعي الذي تسعى إليه الصحيفة". وليس بعيداً عن هذه الخلاصة، يذهب التلب إلى أنه "لو كانت هذه الثقافة ثقيلة على ميزانيّة الجريدة، نسبةً لعدد القراء الضئيل جدَّاً مقارنةً مع المواد ذات الخطوط الخفيفة، أو تلك المُثقلةُ بالدماء والتعذيب والاغتصاب، فمن الأفضل للملفات الثقافيّة أن تنسحب، دفعةً واحدةً، من الصحف وتكوّن مجلّة أو صحيفة مستقلّة بأيةِ صورةٍ من الصور". المحرر صاحب المبادرات دعوة التلب هذه يقابلها شنقر بدعوة أقل حدة، بقوله إن على المحرر الثقافي أن يكون "صاحب مبادرات تحريرية مبتكرة وألا يكتفي بالملحق الثقافي الأسبوعي، بل عليه الدخول بقوة والإسهام بشكل فعال في أقسام الصحيفة الأخرى من أخبار وتحقيقات ومنوعات وغيرها، لأن المحرر الثقافي بما يمتلك من لغة رصينة ومتميّزة يمكنه إضفاء نكهة جديدة على المادة الصحفية في شتى أشكالها". وهو طرح يربطه النشادر بالإنصاف المادي والمعنوي وتوقف الرقابة الداخلية على الملفات، إذ "هناك من يفهمون ومن يتغذون من هذا القلق أو قل الجوع وهذا يكفي". إلا أن ياسر فائز يقترح قفزة أبعد من كل ذلك بقوله: "من الضروري أن يكون محررو القسم الثقافي شركاء في صناعة السياسة التحريرية للصحيفة بدل أن يكونوا ضحية للسياسة التحريرية".