السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصحافة الثقافية بين المثال والواقع
نشر في السوداني يوم 13 - 04 - 2012

التقرير بشأن الصحافة الثقافية مرتبط بواقع الصحافة السودانية عموما، وأبعد من ذلك مرتبط بالواقع المجتمعي الذي ترزح فيه بلادنا، حيث أنها لا تزال تكابد لحل إشكالاتها التاريخية، وتناضل لتجاوز هموماتها اليومية. ولذلك يصعب الحديث، محضا، عن صحافة ثقافية دون الإشارة إلى الظروف التي تحيط بها. وكما يعلم بعضنا فإن الصحافة تقوم، بشكل عام، في العالم الثالث على بناءات أنظمة سياسية تحاول النهوض من إرثها العشائري البدائي لتحقق دولة مواطنة تتيح للديموقراطية منفذا، وللحرية نطاقا للإزدهار، وللإستقرار وضعه المنشود.
والحال هكذا بقيت الصحافة الثقافية في تلك البلدان، والسودان من ضمنها، متأثرة بما يفرزه مناخ الدولة من تحولات على كل بنائها، وركائزها. وهذه التحولات لا بد أن تنعكس على المواطن، النخبوي منه، والمتواضع في المعرفة. ولما كان رئيس التحرير، والمحرر الثقافي ، والناقد، يمثلون عناصر هذه النخبة التي تتأثر بمجريات الواقع، فإن أدائهم الثقافي، والإعلامي، والنقدي، لا مناص من أن ينبجس وهو متأثر بقدر عال من توترات البيئة الوطنية التي فيها ينشطون.
فرئيس التحرير، من حيث أهليته وإبداعيته، لا يني في ظروف المناخ السياسي الشمولي من أن يسعى إلى حل مشاكل صناعة صحيفته، والتحزم لقوانين إستثمارها، وضرائبها، وعشورها. وكذلك هو مسؤول عن معالجة قضايا محرريه الناشطين، والكسالى، وتفادي عيون الرقابة الحكومية والأمنية، وغير الأمنية. وهو قائد الصحافيين المسائل قانونيا، ورمزيا، أمام الرقابات المجتمعية من دينية، وإجتماعية، وإثنية، إلخ. وهناك مشاكل كثيرة تجابه رئيس التحرير المسؤول الموكلة إليه رعاية بذرة المستثمر الصحفية قبل رعاية الملفات الثقافية، ووضعها عند إعتباره الإداري اليومي، والإسبوعي.
أما المحرر الصحفي المؤمل فيه أن يكون في المستوى المطلوب لتحرير صفحات ثقافية تجد الرضا عند قراء المادة الثقافية فهو مواجه بظروفه المعيشية التي تضغط عليه ضغطا عنيفا، ومحكما. أما على مستوى ظروف الصحيفة فإن الضرورة تقتضي على المحرر الثقافي أن يتحرك وفق سياساتها المعلومة، والتي يتمظهر أساسها في تحجيم مادة الثقافي أمام السياسي، والرياضي، والإجتماعي، وهكذا. ولهذا يفهم سبب غياب الصحيفة الثقافية الإسبوعية، على أقل تقدير. وكذلك يفهم أمر سبب غياب المجلة الثقافية الدورية التي تكون الواجهة الثقافية للقطر، حيث فيها يزداد التداول حول الشأن الثقافي، وعندها تنطرح إبداعات الشعراء، والروائيين، وكتاب القصة، والنقاد، وعليها تتفرد بحنو صفحات ملونة للوحات التشكيل، وأكسسوارات الممثلين، وهكذا دواليك.
أما بالنسبة لظروف الناقد الذي يتعاون مع الصحيفة فهو، بخلفيته المعلوماتية الممتازة، يدرك عبر المناخ المجتمعي الذي يمارس فيه دوره أن الأولوية الإعلامية ليست في تعلية سقوف التنوير، أو ترقية الذوق الأدبي، وإنما تتمثل الأولوية في محافظة الجماعة الحاكمة على تمرير خطابها الثقافي الأحادي، والمحافظة عليه بكل ما يمكن من وسائل حربية، أو سلمية، أو ترغيبية.
إن هذا الناقد الطامح إلى إزدهار الحركة الثقافية لابد أيضا أنه مدرك بالتمام أن الصحف التي يترجاها كي تنشر دراساته القيمة للدواوين الشعرية، والمجموعات القصصية، وحوار المدارس التشكيلية، ومقارباته النقدية، وتناوله لإبداعات الرموز الثقافيين، محكومة برغبة الناشر، وهي رغبة إستثمارية في المقام الأول، وليست تنويرية، أو تثقيفية. ومدرك ناقدنا الهمام أيضا أن رؤساء التحرير في سبيل إرضاء المستثمر الصحفي من أجل المحافظة على مناصبهم يستطيعون التضحية، في لمحة بصر، بصفحتين ثقافيتين هما في طريقهما للمطبعة، هذا إذا رن تلفون رئيس تحرير ما ووجد على الخط أحد المعلنين ليعبر عن نيته في نشر إعلانين لشركته في العدد الماثل للصدور تواً.
إذن فإن ثالوث (رئيس التحرير، والمحرر الثقافي، والناقد) مرجو فيه، نظريا أو مثاليا، تطوير الصحافة الثقافية، وتثبيت بنيانها، ونشر معانيها، وهذا الثالوث الأنتلجنسي مدرك كذلك لوظيفة الملف الثقافي، ولكنه مدرك أكثر لطبيعة حيله القاصرة إزاء المجال الذي فيه يتحرك المبدعون لإحداث التناغم الوظيفي وسطهم. ومع ذلك دعنا نجمل الإشكالات العملية التي تواجه الصحافة الثقافية، وذلك بعد هذه الفذلكة التي قصدنا بها الإحاطة ببعض الظروف التي تواجه الكادر المسؤول عن إنتاج صحافة ثقافية لها القيمة المعنوية، وتحوز على الإستمرارية الموطدة في قابل الزمان.
- 2-
إن الصحافة الثقافية كمصطلح كثيرا ما يرتبط بالصحافة المعنية بالثقافة لوحدها، أوالمتمثلة في شكل الصفحة، أو الملفات، أو المجلات الثقافية. وتاريخيا يمكن القول إن الصحف السودانية نشأت أدبية الطابع، أكثر منها مهنية بالتصور الذي نعايشه اليوم. وحقا يمكن الإشارة إلى مؤسسي الصحف من السودانيين بإعتبارهم محررين ثقافيين لمادة سياسية، إذ أن خلفياتهم كانت أقرب إلى المناخ الفكري الذي سبق الإستقلال. ولقد تاثر هذا النفر من النخبة بذلك المناخ، وعبروا عن أشواقهم السياسية بإسلوب أدبي. ويمكن الرجوع إلى إسلوب عرفات محمد عبدالله، وحسين شريف، وجعفر حامد البشير، ومحمد وعبدالله عشري الصديق، والمحجوب، وعبد الحليم محمد، والذين كانوا يمثلون قادة الرأي السياسي، والإجتماعي، والأدبي، في ذاك الوقت الباكر من عمر التأسيس الوطني. فإذا حسبناهم ككتاب رأي سياسي بالمفهوم السائد اليوم فهم إنما مثقفون ونقاد، ولهم حظ من المعرفة الفكرية، والأدبية. وللمفارقة أن رؤساء التحرير، وكتاب الرأي، الذين يسودون صحف ذلك الزمان كانوا في الواقع نقادا موسوعيين للوقائع السياسية، والأدبية، والثقافية، والدينية، وذلك التصنيف مما يجعلهم أفضل من كثير من قرنائهم اليوم. فمعيارية إختيار رئيس التحرير، وكتاب الرأي السياسي اليوم لا تخضع ضمن ما تخضع إلى صرامة المهنية، والقدرات الفكرية، والأدبية، الخلاقة، فضلا عن التجربة المعطونة بأسرار الممارسة. ولعل هذه المعيارية في إختيار قادة الصحافة، والرأي، تخضع ضمن ما تخضع أيضا إلى أهواء سياسية، وحزبية، وإجتماعية.
في تلك البيئة نشأت الصحافة الثقافية، والأدبية، وتلونت بلونها الباحث عن الحرية، والإستقلال. أما على المستوى الحرفي لمعنى الصحافة الثقافية آنذاك فقد كانت هناك صفحات للرأي الأدبي إتسمت بالنقاشات، والمساجلات، الأدبية، ولكنها لم ترق إلى كونها صفحات مهنية تتيح المجال للخبر الصحفي، وتغطية الفاعلية الثقافية، ونقد الشعر، والترجمات، والمقاربات النقدية، والاهتمام بالحركة المسرحية والتشكيلية، كما هو حادث اليوم حيث دخل المسرح، والتشكيل، والاتجاهات الموسيقية الجديدة، في صلب إهتمامات المحرر الثقافي.
من هذا النشوء الأدبي لصحافة العشرينات، والثلاثينات، تطور مفهوم الصحافة الثقافية، وتشكل تطبيقيا، في مسعى صحف الستينات التي إزدهرت فيها الصحافة الثقافية وبدأ الشكل المهني يتطور بتطور صناعة الصحافة، وشاهدنا كل الصحف وهي تحاول فرد صفحات للثقافة، والأدب يحررها من هم هميمون بالثقافة، والأدب. ومن رحم تلك الصفحات الشحيحة خرج معظم الأدباء والمبدعين، وشقوا طريقهم من بعد، وصاروا أعلاما. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى مجهودات عثمان علي نور الباكرة في خلق مجلة ثقافية تعني بالقصة، وسائر دروب العمل الثقافي، وهي الباكورة الأولى على نطاق العالم العربي والأفريقي. وكانت المجلة رائدة في مجال تطوير فن القصة. وهكذا ظلت الصحافة الثقافية التي يحررها عبد الهادي الصديق، وعبد القدوس الخاتم، وإلياس فتح الرحمن، وعلي المك، تتطور بتطور المجتمع وصحافته، وتنحط بإنحطاطه إلى أن وصلنا إلى صحافة الأنترنت التي أنجبت صحافتها التي صارت تنافس الصحافة الثقافية التقليدية، ولعل هذا النوع الجديد من الصحافة قد ذكى أسماء جديدة، وصارت تهدد وجود الصحافة الثقافية التقليدية إجمالا.
- 3-
إن جزءا من وظيفة الدولة يتمثل، كما نعلم، في الإهتمام بمجمل النشاط الثقافي، والأدبي، ومحاولة خلق قنوات إعلامية للتعبير عنه، ومع ذلك ركزت الدولة على الإهتمام بالإعلام الإذاعي والتلفاز في شقه التعبوي بإعتباره الأكثر، والأنجع، تأثيرا على الراي العام، ولكنها لم تكن لتهتم بأمر الصحافة الثقافية حيث تركت الصحف لتهتم بهذا الأمر كدأبها. ووجدنا أن الدولة لم تسع أيضا إلى الإهتمام بتشجيع صناعة المجلات كما إهتمام الدول الرصيفة بها، حيث أغدقت المال على مجلة العربي، والدوحة، والفيصل، وفصول، وأدب ونقد، وإبداع، إلخ.
والمدعو للدهشة أن الدولة لم تغب يوما عن التصريح بأنها رسالية، وتحمل مشروعا حضاريا، ومع ذلك أنها لم تقدم لنا أفكارا، وإبداعات، بواسطة مجلة شهرية، أو فصلية، تطرح من خلالها أهدافها الحضارية عبر موادها الثقافية. وبرغم ما لمثل هذه المجلة المنتظمة من فائدة للدولة نفسها إلا أنها فضلت غض الطرف عن الإهتمام برعايتها. فضلا عن ذلك فالدولة لم تشجع المبدعين، كعهدنا بها، في توفير دور نشر تتيح لهم نشر إبداعهم. وللأسف فإن تجربة (حروف) الرائدة التي أصدرتها دار نشر جامعة الخرطوم وئدت بقسوة، فضاعت المجلة والمجهود العظيم للدار التي كانت تحمل رسالة جامعة الخرطوم، ورسائل حكماء المجتمع. كما أن الدولة لم تصبر على الصرف على مجلتي الخرطوم، والثقافة السودانية، اللتين أعادتهما الهيئة القومية للأبداع والفنون إلى الوجود. وبخلاف ذلك فإن قوانين الإستثمار في الصحافة، وإرتفاع تكلفة الطباعة، وحجر الدولة على الحريات، وتدخل أجهزة الأمن في عمل الصحافة، والدور السلبي لمجلس الصحافة والمطبوعات، كل هذه المنغصات أثرت على صناعة الصحافة عموما، وإنعكست على مستوى تقليص مساحة المادة الثقافية، فضلا عن أن سياسة الدولة القامعة للصحافة، والصحافيين، أدت إلى هجرة الكوادر الصحفية، والثقافية، والذين من بينهم النقاد، وكتاب القصة، الذين يثرون الصحافة الثقافية المتمثلة في الصفحات، أو الملفات الثقافية، أو الأعمدة الصحفية التي يهتم أصحابها بالتناول الثقافي.
والحال هكذا، حيث تتجاهل النخبة المسؤولة مهامها الحكومية المفترضة، بدت هناك مجهودات أهلية للإهتمام بالإبداع الثقافي، والنشر، تمثلت في مركز الدراسات السودانية الذي أتاح حيزا للصحافة الثقافية فكانت مجلة كتابات سودانية مجالا رحبا أسهم في هذا المجال. أما المجهودات التي يقوم بها بعض المؤسسات الرسمية، والخاصة المقربة من السلطة، في إنشاء مجلات ثقافية ظلت تعبر عن تيار سياسي أحادي، أو مجموعة من باحثين، وكتاب، ونقاد، لا يختلفون جوهريا مع السلطة فكريا. والملاحظ أن المسؤولين عن هذه الإصدارات جزء من بنية السلطة، وليست لديهم قدرة، أو رغبة، في إتاحة الفرص للباحثين الآخرين لنشر إنتاجهم. فهم إنما يريدون توجيه الخطاب الثقافي المعين لجمهور المتلقين. ومع ذلك فإن هذه المجلات تغيب عنها مهنية العمل الصحفي، فهي أقرب إلى المنشور الآيديولجي منها إلى المجلة التي لديها شكلها ومضمونها المعلوم، وفيها من براح الحرية ما يحفز.
إن المجلة وبإعتبارها أكثر أشكال الصحافة الثقافية تأثيرا ظلت تلعب دورا كبيرا في ترقية العمل الإبداعي على المستوى الإقليمي المحيط بالسودان. ولكن صناعتها في السودان ظلت متعثرة، ومتأثرة، بمناخ التحولات السودانية. وبرغم أن معظم المجلات الرصينة صدرت في أنظمة شمولية إلا أنها لعبت دورا في التنوير السياسي، والثقافي، وبرغم الدور الذي بذلته الهيئة القومية للإبداع والفنون بقيادة الدكتور أحمد عبد العال في إعادة إصدار المجلتين إلا أن التجربة توقفت بتوقف الهيئة نفسه.
- 4 -
نتيجة لوضع الصحافة عموما كما ذكرنا في مفتتح هذه الورقة فإنه لم يكن هناك إهتمام بالناقد بحسب أنه الضلع الأنتلجنسي الثالث في نجاح مهمة رئيس التحرير، والمحرر الثقافي المسؤول. فالإستثمار الصحفي لا يضع في حسبانه تقييم معياري عادل للصحافيين الذين يغذون الصحيفة يوميا، فما بالك الاهتمام بدور الناقد في تثرية الصفحة الثقافية، ولهذا لم تكن الفرصة متاحة للمحررين الثقافيين لإستكتاب النقاد في صفحاتهم لتشجيع حركة النقاد والمبدعين معا. أما بالنسبة لوضع التحرير الصحفي فإنه يكفي الإشارة إلى أن الصحف ليست لديها إمكانيات لتقديم دعم لوجستي للمحرر الثقافي المسؤول عن الملف الثقافي بحيث أن تمده بطاقم من المحررين، وإنشاء قسم خاص كطاقم الأخبار، والمنوعات، والرياضة. والحقيقة أن الصحف تكتفي بأن تعهد مسؤولية التحرير الثقافي لفرد واحد لا يستطيع وحده تغطية الفاعليات الثقافية التي تقام على مدى الأسبوع. كما أنها لا توفر له مكتبا مريحا يستقبل فيه ضيوفه من الأدباء والنقاد. ومن خلال معلوماتي ليست هناك صحيفة أنشأت مكتبا خاصا للمحرر المسؤول عن الصفحة الثقافية برغم أن من بين المحررين من يفوقون بعض رؤساء التحرير تجربة في العمل الصحفي.
والحقيقة أنه ما من شأن هذه الورقة بحث وضع المطروح نقديا في الملفات الثقافية، أو النظر إلى مهنية المادة المقدمة فيها للحكم لها أو عليها. ولكن يبدو أن بحث أمر المادة الصحفية التي تقدمها هذه الملفات متصل بأمر الوضع العام الذي فيه توقفت كل البنى المجتمعية عن التطور. وما من شك أن عوامل غياب الحرية، وهجرة المبدعين إلى الخارج، وضمور الإنتاج الأدبي بسبب الظروف التي تواجه المبدعين، ألقت بظلالها على القريحة الإبداعية، وعليه فليست هناك إمكانية لتطور أداء النقاد ما دام أن الفاعليات الثقافية، والمطروح في سوق العمل الثقافي، بقي شحيحا، أو يعتوره بعض الضعف الإبداعي.
إن الناقد الموكول إليه تقديم مادة أسبوعية يعالج فيها، بتصوراته النقدية، مجموعات قصصية، أو دواوين شعرية، أو التعليق على معارض تشكيل، أو نقد المسرحيات، لا يجد جديدا في هذه المضامين الإبداعية المطروحة إلا ما ندر. ولذلك يظل السؤال قائما حول تطور نظرة الناقد بناء على خبرة القراءة، والتأمل، والشوف. فضلا عن ذلك فإن غياب التقييم المادي المشار إليه سابقا عبر الصحف لا يحفز الناقد وهو المحروم أصلا من مناخ الحرية لإثراء الملف الثقافي.
صحيح أن هناك كتابات نقدية مجتهدة مقروءة بين الفينة والأخرى، ولكن أين هو إنتاج النقاد الذين ظلوا يقدمون إنتاجا كثيفا في الماضي. الأكثر من ذلك أين هم النقاد المتخصصون في مجال السينما، والتشكيل، والمسرح، ومعظمهم صامتون إزاء غياب أعمال سينمائية، ودرامية، ومسرحية. ونعلم هنا أن عددا من هؤلاء النقاد حاز على شهادات عليا في مجال النقد المسرحي، وبعضهم يملك الخبرة التي تمكنهم من التعليق على الأعمال السينمائية. وإذا طفرنا أكثر لتساءلنا عن دور مؤسساتنا الأكاديمية في الإهتمام بدور علوم النقد، وتأسيس أقسام خاصة بها لتخرج نقادا عارفين بمجالي الغناء، والدراما، وغيرهما.
والحقيقة المرة هي أننا ليس لدينا مؤسسات تخرج نقادا متخصصين في المجالات الإبداعية. فكليات الآداب، والموسيقي، والمسرح، والتشكيل، والصحافة، تخرج متخصصين في هذه المجالات، ولكنها لا تخرج نقادا بالمعنى الحرفي للكلمة من خلال تخصصاتهم الإبداعية في المجال المعني. ونذكر أن المعهد العالي للموسيقى والمسرح كان يخرج نقادا مؤهلين في مجال الدراما والمسرح ،غير أن نزيف الأدمغة الذي واجه الكلية لم يتح فرصا لتطوير هذا الدور الرائد، ويكفي الإشارة إلى أن الأستاذ هاشم صديق رئيس قسم النقد المسرحي قد قدم إستقالاته عن التدريس منذ عقدين أو يزيد، كما أنه كناقد في مجالي الدراما والمسرح لم يقدم جديدا منذ توقف مساهماته طوال هذه الفترة.
- 5 -
إن المحررين الثقافويين ظلوا يكافحون في ظروف بالغة القسوة عليهم، وعلى الواقع الثقافي، ورسخوا أقدامهم من أجل الإستمرار في تنمية القارئ ثقافيا عبر ملفاتهم، وذلك بناء على المعطيات المتوفرة. وهنا يمكن الإشارة إلى الأستاذين عيسى الحلو، ومجذوب عيدروس، حيث ظلا يتحايلان على أحابيل الواقع السياسي، والثقافي، وتحرير المادة الثقافية. ونسبة لخبرتهما الطويلة في هذا المجال كرموز صحفية، ونقدية، وإبداعية، أمكن لهما التأثير على سياسة تحرير الصحف التي يعملان فيها لإستقرار الملفات وتجويدها. وربما لعبت علاقة الأستاذين الأدبية في تشجيع النقاد في الكتابة لهذه الملفات وبجانب الحلو، وعيدروس، لا تنسى مجهودات الأساتذة أحمد طه، ومصطفى عوض الله بشارة ومحمد أحمد مبروك، ومحمد نجيب محمد علي، وأحمد عبد المكرم، ونبيل غالي، ولعل التجربة التي بدأت منذ الثلاثينات تقريبا جاءت بجيل جديد من المحررين الثقافيين ليبنوا في هذا الإرث، ومنهم الأساتذة الصادق الرضي، وعثمان شنقر، وعاصم الصويم، ومحمد إسماعيل، ومأمون التلب، وعصام أبو القاسم، وراشد مصطفى بخيت، وخالد أحمد بابكر، والزبير سعيد، وطارق شريف، وأنس عبد الرحمن، وموسى حامد، وهناك آخرون.
ومع كل التقدير لهذا الدور المبذول في تطوير الصحافة، وخدمة مناحي الإبداع، فإن محاولات الصحافيين الثقافيين، والنقاد، في هذا الجانب، تظل عرجاء في ظل غياب مناخ الحرية، والديموقراطية. فهذه الملفات الثقافية، وهي صحفية الطابع، مرتبطة بوضعية الصحيفة في مجتمع لا يزال باحثا عن إستقرار سياسي يكون فيه للوطن معنى، وللمواطن قيمة، وللمعرفة مجال. نقول هذا ونحن واضعون في الإعتبار أن الصحافة الورقية نفسها تناضل في عالم اليوم لتثبيت وجودها أمام زحف الوسائل الإعلامية الجديدة الراغبة في وراثة دور الصحافة. فالقنوات الفضائية، والأجهزة الإتصالية، ومواقع الإنترنت المختلفة في إهتماماتها، مثلت البديل للمواطن الباحث عن الإعلام، والمعرفة، والتسلية. وكما قلنا سابقا أن شكلا جديدا من الصحافة يتخلق الآن عبر مواقع الإنترنت فإن التحدي الأكبر أمام مختلف أنواع الصحافة هو الحفاظ على القارئ عبر خدمات صحافية جديدة تجبره على التواصل مع الصحافة يوميا.
المشاهد الآن عبر الإنترنت هو أن مواقعه أتاحت المجال للمبدعين جميعهم لنشر أو بث أعمالهم دون سنسرة كانوا يواجهونا عبر الصحافة الثقافية التقليدية. ولقد ساهم الانترنت ليس في مجال تقديم أصوات إبداعية جديدة فحسب، وأنما إستطاع أن يفتح المجال للمبدعين للتواصل مع جمهرة المهتمين، وغير المهتمين، بالعمل الثقافي، وبالتالي صار هناك تفاعل معتبر بين المبدع، ومتلقي إنتاجه. بل وصار من المتاح لكل صاحب فضل إبداعي أن يجد سانحة للتعريف به دون حجر. كما أن الإنترنت الذي قدم أعمالا إبداعية وضع الصحافة الثقافية التقليدية في حرج نظرا لقدرتها الضئيلة في إستيعاب كل النشاطات الإبداعية عبر صفحاتها الأسبوعية المحدودة.
ومع كل هذا هناك فرصة للصحافة الثقافية التقليدية لجلب عدد من القراء عبر خدمتها النوعية، خصوصا وأن الفرصة متاحة أيضا لهذه الملفات الثقافية للإستفادة من الإنترنت الذي يتيح لها أيضا الفرصة للإنتشار من بعد الطبع. ومن المؤكد أنه يمكن أن تكون هناك نسبة قراءة عالية للملفات الثقافية من قبل رواد الإنترنت. ولكن يبقى أمر الحرية الغائبة عن الصحافة الثقافية المراقبة حكوميا، ومجتمعيا، سببا يضعف أهميتها بالنظر للحرية التي يجدها المبدعون في مناخ الإنترنت، مضافا لهذا أن السعة الكبيرة التي يمتلكها الإنترنت مقارنة بالسعة المحدودة للملفات الثقافية لن يترك مجالا للمحررين الثقافيين إلا دعم المادة المطبوعة بمواد أخرى غير مسموح بنشرها، وذلك دعما للملف الثقافي الذي يرى عبر شاشة الإنترنت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.