هذا المساء وأنا أقف أمام دكانتي أنادي الزبائن بالحيل الكثيرات، وأعدُّ الفراطة المعدنية قرشاً بعد قرش وشلناً بعد شلن، إذا برجل نحيل منكوش الشعر كث الشارب واللحية تصحبه حسناء كأنها الجمال يمران قريباً مني. ما نظرا ناحيتي حتى قصدا المائدة الصغيرة الموضوعة على مصطبة المقهى المقابل. كان الرجل كالباكي يتمايل ويتهالك في مشيته بل ويترنّح.. ذكرتني مشية الرجل وحركته بأحاسيس غامضة قديمة، بولادتي وإصابتي بالمرض قبل أن تجف دماء مشيمتي، فميلادي صادف خريفاً وأوراقاً بنيةً متساقطة، ملأ الكون المصفر كياني وارتعدت من هوله. ترنّحت تحت وطأة الكيان.. بكيت وبكيت. ترنّحت وترنّحت لأرى الموت وجهاً لوجه. وأنا بعد على أعتاب الخامسة! نعم، هكذا! الحق أقول رأيت الموت في وجه جارنا "دالي". كان مصفداً بالأغلال وكان يحملق بعينين مفتوحتين تحملقان في شيء لا نراه. المرعب الرهيب " الواقع المنظور يتفكك إلى أشكال مجنونة على السبورة والكراس، ثم تتحول تلك الأشكال إلى نغمات وأصوات لترجع آخر الأمر إلى المنظر ذاته دون أن تكونه! " زادني مرأى الموت مرضاً على مرضي إلى أن بلغت السابعة، واكتشفت كالمصقوع كيف يمكنك أن تجرد منظر "دالي" المرعب الرهيب بأصفاده وعينيه المبحلقتين بخمسة أشكال على الورق! قل أحرف! على كلٍّ هي لا تشبه المنظر في شيء، خمسة أشكال مضحكة توضع على الورق هكذا: "ا ل م و ت". والواقع المنظور يتفكك إلى أشكال مجنونة على السبورة والكراس، ثم تتحول تلك الأشكال إلى نغمات وأصوات لترجع آخر الأمر إلى المنظر ذاته دون أن تكونه! دروس المدرسة تترى مثل فتوحات غامضة، والأشجار تخضر وتصفر مع الفصول.. كنت أضع حروفاً وجُملاً موزونةً قالوا إنها الشعر. وأضع أشكالاً ملونةً قالوا إنها الرسم، لكن وعلى الرغم من صغر سني كنت متهالكاً كالباكي دائماً وكالمترنح. بعد موت "دالي" بثلاثة أعوام ناداني مدرس الفنون ودعاني إلى مقابلته في مكتبه. نبرة مبحوحة قال لي بانبهار "خطك قوي واضح يعكس المنظور بظله وضوئه". وحدّق فيَّ طويلاً ثم أردف بنبرة مبحوحة خافتة "عليك أن ترسم كثيراً.. ترسم وترسم"، وصمت ثم زاد "قالوا إنك تكتب شعراً أيضاً"، ولما لم أقل شيئا قال هو "عليك أن تكتب وترسم إنهما بابان مشرعان"، ومن يومها عكفت على الرسم والكتابة فزاد المرض إذ ألفت الوحدة والوحشة حتى توحشت. ثم إني هجرت بيتنا واتخذت لي من شجرة ضخمة في المدرسة مسكناً.. تخضر الشجرة فترك عليها الطيور الملونة مزقزقة، تصفر وتتحول أوراقها إلى لون البن والتراب ثم تسقط عنها كل أوراقها فتقصدها الغربان وأنا متخذ مأوايَّ فيها. كانت كل عاصفة جبارة تعزف أنواؤها لحناً عرفت فيما بعد أن اسمه الفصول الأربعة ل"أنطوان فيفالدي". والمريض -أنا في ذلك الوقت- ما كان عندي شغل سواها: الشجرة. فوق العادة ثم إني مرضت مرضاً شديداً، فما كان من ناظر المدرسة إلا أن عقد اجتماعاً سريعاً وفوق العادة شارك فيه مندوب عن مكتب التعليم المركزي وآخر عن مجلس الآباء. وقال الثلاثة "الولد فيه ملمح من ملامح العبقرية.. انقلوه استثنائيا من الابتدائية إلى الثانوية". في المدرسة الثانوية ملكوني وسائل جديدة، ثم احتاروا لما رأوني أتسلّق وأصعد شجرة لبخ هائلة نديت واستوثقت في الأرض أعراقاً وجذراً. وانطلقت من شجرة اللبخ لعوالم وصفوها بالمتاهات الغامضة. قال ناظر المدرسة الثانوية "هذا الولد حيّرنا! والله حيّرنا!". نعم، فبعد أن زاد عدد الأشكال المضحكة، تلك التي تتحول بعد أن تطالعها العين إلى صور ومنظورات، كنت أرمي لهم كلَّ يوم من قمة اللبخة الشاهقة بمتاهة: The Crito, The Charmides, The Protagors, The Timaeus, The Phaedo, The laches,The Euthyphro, The Theaetetus, The Parmenides, The Apology. أحببت اللبخة الشامخة ومكثت فيها دهراً. آنئذٍ كتبت قصائدي الأولى والأخيرة. كتبت البجع الذي يتراءى فيلة، الوحشة، التوحش، القنافذ تبكي شتاءً، وجميعها التهمتها النيران التي أشعلتها في شجرة اللبخ ذات فجر، لأجعل الفجر يبدو كما تصوره قصيدة روسية.. قصيدة واحدة نجت من ذلك الحريق الفجري أم تراه الفجراوي؟ هي قصيدة البجع الذي يتراءى فيلة، ذلك أنها كانت مبتلة بالماء وبجنون "دالي" آخر غير "دالي" جارنا الذي مات مصفّداً بالأغلال. أصابني الإعياء فنشجت كالباكي وأخذني دوار فصرت كالمترنّح. شجرة اللبخ " النجمة التي كانت تلمع في لجة دموية حمراء.. بعدها حلمت بسوق كبيرة مليئة بألوان البضائع والبائعين والمشترين والمارة " بعد حريق القصائد وشجرة اللبخ وقمتها وفشل اللهب في خلق المؤثرات الملائمة لجعل الفجر المنظور مشابهاً لفجر القصيدة الروسية، أرقدتني الحمى واعترتني الرعشات والهلوسة، فرأيتني في لجة من دم ونجم بعيد يلمع لي متخذاً هيئة القرش. ثم برز لي "بيرس" وجعل يقول في إعياء "ولدت عام 1839م ابناً لأحد أساتذة الرياضيات بهارفارد. ولقد تدربت منذ حداثتي لأكون رياضياً وعالماً. وقد كان إذ عملت حينما كبرت عالماً فلكياً، إلا أن نداءً باطنياً غامضاً كان يدعوني للشعر والألوان. الفلسفة كانت شيئاً أوده في أوقات فراغي، بيد أنني عندما بلغت الثامنة والأربعين من عمري استقلت من وظيفتي في الفلك وتفرغت للشعر والرسم والفلسفة. لكن هذا -وأسمح لي- أغرقني في وحل الفقر والديون إلى أن مت عام 1914م عن عمر يناهز الرابعة والسبعين، ولكن لم أكتب أبداً كتابا". وجعل يسعل ويشير إلى النجمة التي على شكل قرش.. النجمة التي كانت تلمع في لجة دموية حمراء.. بعدها حلمت بسوق كبيرة مليئة بألوان البضائع والبائعين والمشترين والمارة. الأشكال المضحكة ثم إنني عوفيت ذات أغسطس، فانصرفت عن اللجة وعن "بيرس" والشجرة والأشكال المضحكة على السبورة والورق والغموض الذي اكتنفني مع قصيدة روسية، وانصعت للحلم الذي تكرر كثيراً، فانطلقت إلى السوق فيه أبيع وفيه أشتري. وللعجب، ما عدت كالباكي ولا المترنِّح على النحو الذي يفعله هذا الرجل الذي يذكِّرني بالأحاسيس القديمة، بالشجرة المصفرة المخضرة والأخرى ذات الأعواد والغربان والموسيقى والأنواء والعواصف. أعترف أنني الآن وبعد أن مرَّ الرجل والحسناء بقربي تشوش ذهني، فقدت تركيزي فكففت عن مناداة الزبائن إلى دكاني وأهملت عدَّ القروش التي في يدي. كان الرجل الباكي -تماماً مثلي في ما مضى- يتمايل ويتهالك ويترنّح! والحسناء التي برفقته تُربِّت على كتفه وتخلل شعره بأصابعها التي بدت عطوفاً شفوقاً خائفة. ثم دخلت الدكان حفنةٌ من الزبائن، فانشغلت زهاء الساعة وأنا لذلك كاره، حتى إذا فرغت وخرجت وجدت الرجل والحسناء في مقعديهما لا يزالان. الحسناء مهمومة بينما أراح الرجل رأسه على المائدة باسطاً عليها يديه. الدائرة الفارغة " على كلِّ حال، إن كان يهمك أمره فابعديه عن الشجر المخضر والمصفر والآخر ذي الأعواد، وقبل كلِّ شيء عليك أن تبعديه عن هذا. "وأشرت إلى الكتاب الأسود المعنون بماء الذهب" " وفي شبه الدائرة الفارغة، أي في المساحة بين محيط الدائرة ويديه ورأسه كان ثمة قدحان فارغان وكتاب ذو غلاف أسود.. دون أن أدري وبلا تردد أو استئذان جرتني قدماي صوب المقعدين وطاولتهما.. انتبهت لاقترابي الحسناء، لكن الرجل لم ينتبه أو لعله انتبه ولم يكترث. اقتربت أكثر مددت يديَّ للكتاب، أدنيته من عينيَّ فطالعت فيه أشكالاً كتبت بماء الذهب: William Blake . The Complete Works.. قالت الحسناء "إنه الشاعر المعروف... " فهتفت والله إنه المرض. جذبت الرجل المتهالك من شعره وحدَّقت في ملامحه فعسرت عليَّ الإحاطة بها لشدة هزاله. هززت رأسه بعنف عندها سعل سعالاً شديداً وبصق دماً.. التفت إلى الحسناء وسألتها: "أهو زوجك؟" "... ..........." "أهو حبيبك؟" "..........." "أهو أخوك؟ ابن جيرانكم؟" " ............." "على كلِّ حال، إن كان يهمك أمره فابعديه عن الشجر المخضر والمصفر والآخر ذي الأعواد، وقبل كلِّ شيء عليك أن تبعديه عن هذا. "وأشرت إلى الكتاب الأسود المعنون بماء الذهب".