كتبت في المقال السابق عن أزمة حقيقية تعيشها كرة القدم السودانية في المفاهيم من خلال النظرة للأندية والمنتخب الوطني ومن هو الممثل الشرعي الذي يرفع له علم السودان في المحافل الدولية؟. أعود اليوم لأؤكد بأن أزمة المفاهيم لا تتوقف عند هذا الحد ولكن هناك إشكالات كثيرة في هذا الجانب تحتاج إلى ما هو أكثر من هذه المساحة. واحدة من هذه الإشكالات تعريف الناديين الكبيرين كما يطلق عليهما (الهلال والمريخ)... نجد هناك جدلاً وصل مرحلة الصراع حول (نسب) هذين الناديين.. ما بين الانتماء للسودان بمعنى أنهما ناديان خالصان للسودان.. وبين الانتماء لمدينة أمدرمان.. وسبب هذا الجدل أو الصراع، الشعبية الكبيرة التي يتمتعان بها بالدرجة التي وصلت معها التقديرات والقراءات وبعض الدراسات إلى أن تؤكد أن جمهور كرة القدم في السودان منقسم بينهما.. وأصبحت هذه القسمة من الثوابت لينتقل الحديث بعدها إلى من هو أكثر شعبية من الآخر؛ هل هو الهلال أم المريخ..؟ وساعدت عوامل كثيرة على ترسيخ هذا المفهوم، على رأسها الإعلام المنقسم أيضاً بين الناديين الكبيرين وهي من الغرائب في عالم الكرة أن تجد إعلاماً بأكمله منقسماً في الولاء والانتماء لفريقين فقط.. وهي من الحالات التي تحتاج أيضاً إلى تناول أكثر تفصيلاً.. فالشاهد أن الإعلام المقروء على وجه الخصوص (الصحافة الرياضية) منقسمة بلا استثناء بينهما. والدهشة في أن من رسموا خط هذه الصحف يفتخرون بهذا الانتماء وبتصنيف الصحف.. وإذا أخذنا نماذج في هذا الجانب سنجد أن صحيفة (قوون) تأتي في التصنيف صحيفة فريق الهلال الأولى.. وهذا الأمر لا يجد دهشة واستغراباً من إدارة التحرير بل على العكس يجد هذا الأمر عندهم كل الفخر والإعزاز.. فالصحيفة الهلالية في التصنيف تخاطب بصورة مباشرة جمهور الهلال وهناك دلالات كثيرة تؤكد هذا الاتجاه. " تصنيف الصحف الرياضية بين الولاء للهلال أو المريخ يعتبر عند إداراتها وساماً يزين الصدور ويستحق الفخر والإعزاز " وما ينطبق على صحيفة (قوون) ينطبق علي صحيفة أخرى هي صحيفة (الصدى) المصنفة مع المريخ وتعتبر أيضاً صحيفته الأولى.. وأيضاً لا تجد إدارة التحرير ما يخجل في هذا التصنيف بل يعتبر عندهم وساماً يزين الصدور ويستحق الفخر والإعزاز أن تكون الصحيفة مريخية الهوى. وهذا الأدب المطروح من هاتين الصحيفتين كنموذج خطير للغاية.. فالتصنيف يبعدها عن الصحف الاستقلالية، وبالتالي تدور كثير من الشكوك حول الخدمة التي تقدمها هذه الصحف للقارئ وتضعها في دائرة التوجيه، بمعنى أنه يحولها من صحف يفترض أنها مستقلة إلى صحف موجهة تخدم الناديين، مع الفارق هنا وهناك في كيفية تنفيذ هذه الخدمة. ومع ذلك تحاول أن تعطي هذه الصحف نفسها بعض الحيادية ولكن كيف؟.. الحيادية عندهم في (الوزنة)، كما يطلق عليها، بأن تكون هناك نسبة مقدرة للنادي الآخر في الجانب التحريري.. وهذا يجعل الصحف بها أخبار وآرء أخرى خاصة بالفريق المنافس. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد ظهر في الشهور الأخيرة طرح أكثر تطرفاً في العمل الصحفي من خلال الصحف الرياضية، وذلك بظهور صحف تحمل تصنيفاً كاملاً (من الغلاف للغلاف) للهلال والمريخ، بمعنى أن سياسة تحرير هذه الصحف تعتمد بصورة مطلقة على النادي (الهلال أو المريخ).. وهذه السياسة عند أصحاب هذه الصحف أو إدارات تحريرها ليس فيها أمر يستحق التوقف عنده.. بل يعتبر عندهم شيئاً مفرحاً ومبهجاً.. من هذه الصحف (حبيب البلد ) و(السوبر) و(وهج الصفوة). كل هذه الإشكال من التوجه الإعلامي رسخت لسيادة الناديين الكبيرين على الكرة في السودان.. وجعلت من (نسبهما) أمراً أشبه بالواقع، بمعنى أن الهلال هو هلال السودان والمريخ مريخ السودان وأية محاولة للتعدي على سودانيتهما المطلقة تفتح النيران في كل الاتجاهات وتشعل حرباً لا تبقي ولا تذر. ولكن أين الحقيقة وسط كل هذا الزخم والهيمنة الإعلامية ؟! الإجابة على هذا السؤال تعيدنا إلى الأصل في هذه التكوينات (الأندية) وهو القانون الذي يعبر عن نفسه بعيداً عن العاطفة.. فالقانون يحدد أولاً وجود الهلال والمريخ في الخرطوم كعاصمة أو ولاية وهذا يجعلهما منتميين من البداية لهذا المكان الجغرافي.. وفي العاصمة المثلثة بمدنها الثلاث (الخرطوم وبحري وأمدرمان) يوجد الناديان في مدينة أمدرمان، بمعنى آخر هما في قانون الكرة يتبعان للاتحاد المحلي بولاية الخرطوم وفي الاتحاد المحلي وجودهما في مدينة أمدرمان أي يتبعان لمنطقتها الفرعية التي تتبع لاتحاد الخرطوم المحلي.. واتحاد الخرطوم المحلي، كما نعلم، اتحاد وسيط يعمل تحت مظلة الاتحاد العام لكرة القدم. كل هذه المؤشرات تؤكد على أن (نسب) الهلال والمريخ للسودان بالمعنى المطلق للكلمة حديث لا علاقة له بالواقع وأنهما في الأول والآخر ينتميان لاتحاد الخرطوم المحلي ومنطقته الفرعية بأمدرمان.. كما أن قانون الكرة في التنافس مثل ما هو مرتبط بالتفوق والصدارة والتمثيل الخارجي يرتبط بالصعود والهبوط. ونجد بالتالي أن الهلال والمريخ في الحساب ضمن أندية الممتاز الممثلة للاتحاد المحلي.. وفي حال تدهور مستوى أي منهما ومواصلة الهبوط من درجة إلى درجة لن يهبط في درجة اسمها (السودان) ولكن سيصل إلى الدرجة الثالثة في منطقة أمدرمان الفرعية التابعة لاتحاد الخرطوم المحلي. وحتى في الجانب الاداري في حالات التعيين يقوم بتعيين المجلس الوزير الولائي وليس الاتحادي.. كل هذه المفاهيم وغيرها تقبض بخناق الكرة السودانية وتمنعها من التقدم.. ويبقى الحل في التحرر أولاً من مثل هذه المفاهيم البالية.