الانتخابات العامة التى ستشهدها البلاد فى أبريل المقبل تستوجب مشاركة الجميع من أجل الخروج بالبلاد إلى فضاءات الاستقرار السياسى والتحول الديمقراطى المنشود، وتلك العملية الوطنية لا تستنثى أحداً، وواجب المشاركة يقع على الجميع. ولكن هذا الكتاب الذى نحن بصدده يركز على شريحة مهمة من أبناء الوطن وهى الطائفة القبطية التى ظلت على مر السنوات وتعاقب الحكومات على السودان تتخذ خطاً وطنياً داعماً لقضايا الوحدة والسلام والاستقرار وتسهم بشكل كبير فى التنمية الاقتصادية بالبلاد، وبما أن انتخابات العام 1986 كانت آخر انتخابات عامة تصبح العودة إليها لأخذ العبر والدروس فى هذا الوقت بالذات مطلوباً. الكتاب الذى هو فى الأصل بحث علمى يقع فى 135 صفحة من القطع المتوسط، يتناول فيه الكاتب فى الفصول الخمسة، الجوانب المنهجية للدراسة، ولمحة عن الأقباط السودانيين، بيئة الانتخابات فى أبريل 1986، ومشاركة الأقباط فى الانتخابات. الأقباط وجود مثمر الأقباط موجودون بالسودان منذ القرن الرابع الميلادى، ولم ينقطع هذا الوجود على مر العصور، وربما اعتراه التزايد أو التناقص فى ظروف خاصة، لكن السمة البارزة لهذا الوجود هى زيادة أعدادهم منذ جرت الاستعانة بهم فى شؤون الإدارة والحكم فى السودان فى شتى المجالات، فضلاً عن ممارسة التجارة وبعض الحرف التى برعوا فيها والتى تزاولها منذ القديم أعداد كبيرة منهم. وقد تلازم هذا الحضور مع إحساس الأقباط بأن السودان قد صار لهم وطناً وأنهم إنما يعملون ويعيشون فى بلدهم، ويعتزون بهذا الوطن ويعملون من أجل رفعته وتقدمه، وقد انخرط الأقباط ولا يزالون فى حركة المجتمع السودانى وإطاره التاريخى العام فى سبيل تحقيق آمال وطموحات هذا المجتمع فى التحرر والديمقراطية والتقدم فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة. العروبة عند الأقباط والأقباط أقلية دينية، فهم يؤمنون بالمسيحية بعقيدتها الأرثوذكسية التى تقودها الكرازة المرقسية ومركزها مدينة الإسكندرية التى بدأ منها القديس مرقس أحد رسل السيد المسيح فى التبشير برسالة المسيحية فى أفريقيا. " الأقباط يتشابهون فى الشكل العام والصفات الجسدية مع كثيرين ممن ظلوا تاريخياً يسكنون شمال السودان " ومن حيث الصفات والملامح الأنثروبولوجية يتشابه الأقباط فى الشكل العام والصفات الجسدية مع كثيرين ممن ظلوا – تاريخياً- يسكنون شمال السودان، وهؤلاء والأقباط يختلفون فى تلك الصفات عن غيرهم من سكان السودان ككل. وعلى الرغم من احتفاظ الأقباط بلغتهم القبطية على نطاق ضيق بين الأفراد وبصفة خاصة فى الصلوات الكنسية والقراءات الدينية إلا أنهم وبشكل عام قد تعربوا وصارت اللغة العربية هى لغة الأم عندهم. وصارت العروبة عند الأقباط لغة وثقافة ووجداناً، وفى هذا الإطار يشتركون مع غيرهم من السودانيين فى جوانب الثقافة السودانية بنكهتها المميزة فهم يتخاطبون بالعامية السودانية ويشتركون فى كثير من العادات والتقاليد والقيم التى ميزت سكان هذا الوادي منذ أزمنة بعيدة. داخل المصالح الحكومية فى تاريخ السودان الحديث اعتباراً من العام 1821م، نجد أن الأقباط قد عملوا فى المصالح والادارات الحكومية : فى الادارة ، البريد والبرق والتلغراف، السكة الحديد، الإدارات المالية، الأشغال، الزراعة والغابات، المصلحة القضائية والترجمة. وانتدب بعضهم للاستكشاف فى جهات عديدة بالسودان ومن هؤلاء من وصل بحيرة رودلف، وقد كان إسهامهم فى إدخال وترقية الحرف وليد مشاركة العديد منهم فى القيام بمتطلبات القطاع الأكبر من أعمال وأنشطة السكة الحديد أكبر المستجدات الحديثة التى دخلت السودان وكانت مشاركتهم فى القطاع المهنى بمزاولة مهن المحاماة والطب والصيدلة وغيرها. ومن أبرز المجالات التى قدم فيها الأقباط مساهمة أصيلة للمجتمع هى مجال التعليم، سواء بإنشائهم للمدارس بمستوياتها المختلفة للجنسين أو بتقديمهم عدداً من المعليمن الذين شاركوا فى السعى لنشر العلم والمعرفة فى ربوع السودان. اختلاط وتمازج وينتهى الكاتب فى محاولاته سبر أغوار الشخصية القبطية، بأن النظرة المعاصرة للأقباط تبين لنا أنهم يختلطون بغيرهم من المواطنين، ويشتركون معهم فى جميع المصالح." النظرة المعاصرة للأقباط تبين لنا أنهم يختلطون بغيرهم من المواطنين، ويشتركون معهم فى جميع المصالح " كما نجدهم موزعين جغرافياً فى جهات متعددة ولا يرتبطون برقعة جغرافية محددة، فى المدن الحواضر وفى المدن الريفية وفى البلدات الصغيرة، كما أنهم يتوزعون فى مختلف الأحياء السكنية فلا يكونون كياناً منعزلاً منغلقاً على نفسه. وهذا كله –بحسب الكاتب- أتاح للأقباط فرصة الامتزاج والاندماج بغيرهم من المواطنين السودانيين، بحيث لا تلمس فرقاً يذكر بين هؤلاء وأولئك، أذ أنهم لا يشكلون فئة متميزة أو خاصة أو معزولة في سياج منفصل بل ظلوا مثلهم مثل غيرهم من السودانيين. مشاركة الأقباط فى الانتخابات حدد الكاتب ثلاثة عوامل رئيسة دفعت الأقباط إلى الإقبال بحماسة على آخر انتخابات تعددية فى البلاد وهى انتخابات العام 1986، وما أشبه الليلة بالبارحة. والعوامل هى، القضايا والاتجاهات السياسية البارزة ومن أبرزها ميراث حكم جعفر نميرى، ثم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة على الجماهير، وأخيراً طبيعة النظام السياسى ونوع وخصائص واتجاهات القيادات السياسية واتجاهات المثقفين وقادة الرأي. وقام الكاتب بإحصاء و"تحليل مضمون" لمشاركة الأقباط فى الانتخابات من خلال الأرقام، وخلص إلى أن الملامح العامة تبين طبيعة هؤلاء الناخبين الأقباط وإعلاءهم لقيمة العمل. وقال إن الغالبية منهم يعملون فى مجالات مختلفة وفى مرحلة الشباب الذى يتميز بالرغبة الكبيرة فى مزيد من المشاركة فى أمور المجتمع والوطن، ويميلون إلى تبنى اتجاهات اجتماعية وسياسية ويحققون توحدهم مع قضايا المجتمع بالانتماء إلى الأحزاب والتنظيمات والالتزام بفكر معين فى معالجة القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. دور الدين فى الاختيار وطرح الكاتب سؤالاً محورياً عن مدى تأثر اختيارات الناخب القبطى للمرشحين، هل لكونهم إقباطاً مسحيين أم مجرد وطنيين وحسب؟ وهل تلعب ديانة الفرد أي دور فى هذا الاختيار؟. وفى ثنايا للكتاب نعثر على الإجابة المدعومة بنتائج استطلاع للرأي قام بها الكاتب، وقد أثبتت الدراسة الميدانية بوسائلها المتعددة أن القليلين منهم يتأثر اختيارهم للمرشحين بحقيقة كونهم مسيحيين، بينما غالبيتهم ليست كذلك، وقد أكدت نتائج استطلاع الرأي تلك الحقائق. إذ أن حوالى 87% من عينة البحث قد أجابت بنعم على سؤال –الكاتب – عما إذا كان اختيارهم المرشح، يأتي لأنه يعطي ضمانات معينة لحقوقهم الدينية والاجتماعية." الخلفية الفكرية للاختيار عند الأقباط ترتبط بالاتجاه العام السائد فى الساحة السياسية وليس بمعتقدات الفرد الدينية " وأجاب بنعم 93% منهم على سؤال عما إذا كان اختيارهم للمرشح يأتي لأنه لا يرفع شعارات تمس حقوقهم الدينية. وكتأكيد أخير وصريح لتلك النتيجة ما ذكره المبحوثون فى إجابتهم عن الاقتراع لمرشح جنوبى مسيحي، من أنهم لا يختارون مرشحاً على أساس الدين ولا يتعاطفون أو يتباعدون من منطلق أنهم مسيحيون، بل يتحدد موقفهم على حسب برنامج المرشح السياسى. ويخلص الكاتب بذلك إلى أنه ليس ثمة دور لمعتقدات الفرد الدينية فى اختيار المرشح عند الأقباط، وترتبط الأسباب التى شكلت الخلفية الفكرية للاختيار بالاتجاه العام السائد فى الساحة السياسية من التأكيد على القيم الديمقراطية، والحريات الأساسية، وحقوق الإنسان وضمان سلامة وأمن المواطن. الموقف من الشريعة الإسلامية ورغم ما شاب تجربة تطبيق الشريعة الإسلامية فى عهد الرئيس الأسبق جعفر نميرى، وكان لها انعكاساتها على العملية الانتخابية بعد الانتفاضة التى أنهت حكم النميرى سلمياً، فإن الكاتب من خلال استقصائه لموقف الأقباط من الشريعة الإسلامية، انتهى إلى أن موقفهم لا ينبع من تعصب أو كراهية، إنما يتأصل بالفهم العميق لطبيعية دور الدين فى حياة الإنسان، وإدراك المعانى الكريمة السامية التى شاءتها الحكمة الإلهية بأن يكون هناك أكثر من دين، وأن يتوزع البشر لكل منها تابعين، وإن لم يكن كذلك فأين حرية الاختيار التى منحها الله للإنسان؟. ولعل هذا ليس موقفهم وحدهم، بل إن هناك من المسلمين من يؤكد على نفس هذه المعاني.