الوضع لا يزال هشاً هناك، ولكن السودان الشهر القادم من المقرر أن تجرى فيه أول انتخابات متعددة الأحزاب منذ عام 1986. إنها فرصة رائعة جداً، وواحدة من العلامات الكبرى التي تم تجاهلها من قبل العالم الغربي، الذي تعود دائماً على الانتقاد لأفريقيا ولا يحفل بما يحدث فيها عدا حالات الكوارث وفي اللحظات الأخيرة.. سيكون على شعب السودان الذهاب إلى صناديق الاقتراع في الشهر المقبل لانتخاب رئيس، وسلطة تشريعية وطنية، وحكام الأقاليم (الولايات)، وقيادة الجنوب شبه المستقل.. والانتخابات هي وسيلة لمراقبة رحلة طويلة وغير مكتملة، لكنها بلا شك لحظة تاريخية كبيرة. وهذه أول انتخابات تعددية في السودان منذ ما يقارب الربع قرن، وقد أعقبت سنوات مريرة من الصراع بين الشمال والجنوب، وصراعات إقليمية في البلاد، لا سيما في دارفور. ويأتي ذلك على الرغم من استمرار العداء الغربي تجاه حكومة الخرطوم، واتهام قائدها عمر البشير بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية. وبرغم أن الانتخابات تعتبر تعهدات سياسية ولوجستية هائلة، في أكبر دولة في أفريقيا، لكن حتى الآن تسير العملية بشكل معقول. فهناك التقاء مصالح بين الأفراد والجماعات التي كانت متحاربة في السابق، وهو ما يعطيك الثقة، بأن هذه الانتخابات ستكون ناجحة، كما أن هناك لبنة نجاح أساسية وضعت في الشهر الماضي" التقاء المصالح بين الأفراد والجماعات التي كانت متحاربة في السابق، هو ما يعطيك الثقة، بأن هذه الانتخابات ستكون ناجحة " باتفاق السلام بين الحكومة وحركة العدل والمساواة – كبرى الحركات المسلحة في دارفور، ومع أنه هناك ما زالت خلافات متبقية حيث يريد المتمردون تأجيل الانتخابات حتى توقيع اتفاق سلام نهائي في دارفور، والذي تصر بعض الفصائل المتناحرة على رفضه حتى الآن، إلا أن سكان دارفور وبعد أن عانوا طويلاً سيكون التصويت على مستقبلهم في هذه الانتخابات، أصبح الآن في متناول يدهم. والثاني يرتبط بانفراج يعطي زخما جديداً للانتخابات، فقد تم تطبيع العلاقات بين السودان وتشاد، بعد أن كان كلاهما يعطي العون والملاذ الآمن للمناهضين للحكومة الأخرى، وفي الواقع فقد حدث انقلاب كبير، وتصافح الرئيس التشادي إدريس ديبي مع الرئيس البشير في الخرطوم في أوائل شباط/ فبرلير الماضي، ووقعا معاً معاهدة عدم اعتداء. وديبي كانت له أسبابه الخاصة التي تجعله لطيفاً مع السودان، إذ أنه يواجه انتخابات تشريعية في وقت لاحق من هذا العام ببلاده، ويريد التخلص من قوة الأممالمتحدة المكلفة بحماية اللاجئين في شرقي تشاد، وهي العملية التي كان يراها تدخلاً غير مفيد. من جانبه يريد البشير نزع فتيل الانتقادات الدولية، والوفاء بوعده بإحلال السلام في غرب السودان، قبل الانتخابات التي ستجري الشهر المقبل. "الخيارات العسكرية فشلت في كلا الجانبين" هكذا قال "جيروم توبيانا" حين كتب حول "تحسس موقع السودان" على الموقع الإلكتروني لمجلس البحوث العلمية الاجتماعية، وزاد قائلاً: "هجمات المتمردين بالبلدين على عاصمتي بلديهما خلال العام 2008م، تم دحرهما وهزيمتهما. وديبي والبشير الآن يحضران لأكبر القضايا، وهي الاستحقاقات الانتخابية في كلا البلدين، إضافة للاستحقاق السوداني المتمثل في احتمال انفصال جنوب السودان، بعد الاستفتاء على تقرير المصير المقرر في العام المقبل. الاهتمام الشديد لحكومة جنوب السودان التي أنشئت بموجب اتفاق السلام الشامل 2005م، في التحرك دون إبطاء صوب كانون الثاني/ يناير من العام القادم، من أجل الاستفتاء على الاستقلال، هو سبب آخر لأن تسير الحملة الانتخابية بكل سلاسة. ومنذ العام 2005م فالمؤتمر الوطني الذي يقوده البشير، والحركة الشعبية الجنوبية التي يقودها سلفا كير، قد انخرطا في ترتيبات صعبة لتقاسم السلطة، ووجدا الآن هدفاً مشتركاً. وكانت الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني قد صعب عليهما التفاوض بشأن مجموعة من القضايا الثنائية العالقة، لكن اقتراب الانتخابات ركز عقولهما وجعلهما ينجزان عدداً من الاتفاقيات في تتابع سريع، ويقول الخبير في الشئون السودانية أليكس دي وال في مدونته الأخيرة: "هذا يدل على أنهما عند الضرورة، يمكنهما القيام بأعمال تجارية، ويمكننا نحن أن نكون أكثر ثقة، بأن الطرفين سيكونان قادرين على التفاوض على ترتيبات المشاركة في الاستفتاء وما يلي ذلك، دون انهيار كارثي". وكانت هناك مخاوف العام الماضي من أن المحكمة الجنائية الدولية ولائحة اتهامها بحق البشير بتهم تتعلق بدارفور، من شأنها أن تقوض اتفاق السلام الشامل والجدول الزمني للانتخابات، وتزيد" البشير رغم إضعافه سياسياً في نظر بعض المراقبين، إلا أنه استخدم لائحة اتهام الجنائية، لحشد القوى السياسية الوطنية إلى جانبه " من زعزعة استقرار البلاد، وقد ثبت سوء تأسيس هذه المخاوف، فالبشير رغم إضعافه سياسياً في نظر بعض المراقبين، إلا أنه استخدم لائحة الاتهام، لحشد القوى السياسية الوطنية إلى جانبه، وفي الوقت نفسه على رفض الاتهامات الموجهة ضده، باعتبارها باطلة وعلى غير أساس. وفي المقابل فالرجل الذي يقف للبشير بالادعاء في المحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، سقط وسط انتقادات شديدة، أسقطت الأمر في يده على نحو خطير. وحزب المؤتمر الوطني الذي أدار عملا براغماتياً، واتخذ توجهاً وطنياً أكد فيه على النمو الاقتصادي، والذي من المتوقع أن يظهر بعد الانتخابات كأكبر حزب سياسي، خاصة مع عودة البشير للرئاسة. وإن كان الأمر كذلك، فسيكون له جانب إيجابي آخر من حيث الموقف التصالحي غير المتوقع للبشير مع الانفصال. فقد قال البشير في مسيرات جنوبية مؤخراً في عدة مناطق بجنوب السودان، إنه يريد أن يبقى السودان موحداً، ولكن إذا قرر الجنوب الانفصال، فإنه سيكون أول من يعترف باستقلاله. ومع أنه لا تزال هناك الكثير من العقبات التي تحول دون إجراء انتخابات ناجحة، ففي دارفور هناك القتال الذي دار مؤخراً في جبل مرة بين القوات الحكومية وفصائل دارفورية رافضة، وحركة تحرير السودان التي يقودها عبد الواحد محمد نور، والذي شرد عشرات الآلاف من الناس، وأن الاشتباكات ذكرتنا كيف أن الوضع لا يزال هشاً هناك، إضافة إلى الخلافات الحارقة بين الشمال والجنوب حول تقاسم الموارد النفطية، وحقوق المواطنة، وأرقام التعداد السكاني والتي لم يتم حلها. ورغم الصراعات العرقية والقبلية والعنف في أنحاء جنوب السودان، ومخاوف أحزاب المعارضة التي تنتمي إلى تحالف الوفاق الوطني، والمعروف أيضاً باسم مؤتمر جوبا، حول القيود المفروضة على الحملات الانتخابية، والاحتيالات التي يتوقعونها، والتحيز الذي يزعم أن المفوضية القومية للانتخابات قد أبدته في توزيع وسائل الإعلام الوطنية، على الرغم من كل هذا، إلا أن السودان قد قطع شوطاً طويلاً- وأبعد بكثير مما يتوقعه الكثيرون في الغرب. وبعد طول انتظار، فسيكون السفر تجاه الإيجابية. وهو ما يستحق منا الاعتراف والتشجيع. نقلا عن guardian.co.uk