في مقال سابق نشرته في "القدس العربي" عنوانه (الساحة الإعلامية في مأزق)، تناولت حملة الترويج التي أعلنتها وزارة الدفاع (البنتاغون) لتحسين صورة أمريكا بنشر مقالات وإعلانات عبر محطات التلفزة والإذاعة والصحف ومواقع الإنترنت. وذهبت في المقال إلى أن الخطوة لا تتميز بالحصافة، لا سيما وأن المشرفين عليها خبراء في جهاز دعم العمليات النفسية في الجيش الأمريكي، وهو الجهاز ذاته الذي تورط في دفع مبالغ نقدية سراً إلى صحف عراقية وعربية لنشر مقالات كتبها عسكريون أمريكيون قُدموا على أنهم صحافيون مستقلون! عادت بي ذاكرتي إلى هذا المقال وأنا أشارك الأسبوع الماضي في ورشة أقامتها رابطة الصحافة الأجنبية في لندن عنوانها الصحافة التحقيقية Investigative Journalism، وقدمها كل من الصحافي البريطاني نك ديفيس الفائز بسلسلة جوائز من بينها صحافي العام، مراسل العام وأفضل كاتب للعام، البروفيسور غافن ماكفادين مدير مركز الصحافة التحقيقية بجامعة لندن، ومنتج الأفلام الوثائقية شون لانغان الذي أنتج عدداً من الأعمال الوثائقية المميزة، أهمها فيلما Fighting The Taliban و Meeting the Taliban وشون فائز كذلك بجوائز عدة في الإنتاج الوثائقي، وقد اختطف في أفغانستان لثلاثة أشهر في العام وكان أقرب حينها للموت لولا مجهودات بعض القادة الأفغان الذين خبروا الرجل وحياده ومهنيته. مساعدة الإعلاميين الورشة رعتها السفارة الأمريكية ببريطانيا ممثلة في مركز التواصل الإعلامي والذي مثلته حضوراً سيدة غاية في التهذيب تدعى كاثرين ان دي يت وهي مديرة المركز وكان رفقتها نائبها دي يد بويل وهو الآخر يحسن النقاش، وشارك في الندوة لفيف من ممثلي المؤسسات العربية والشرق أوسطية من بينها هيئة الاذاعة البريطانية "بي بي سي" العربية وقناة "الجزيرة" وعدد كبير من الإعلاميين، إلا أن نسبة المشاركين السودانيين كانت الأكبر مقارنة بالحضور. كاثرين عبرت صراحة عن دهشتها لوجود أكثر من خمسين إعلامياً وإعلامية سودانية بالمملكة المتحدة يشغلون مناصب مرموقة في وسائل إعلام مختلفة، وأوضحت أنها بصدد الترتيب للتواصل بينهم ومركز التواصل وبعض المهتمين بالشأن السوداني من الرسميين الأمريكيين. كاثرين حدثتني بلغة عربية طليقة عن أهداف الورشة قائلة، إن الهدف هو مساعدة الإعلاميين على تعزيز قدراتهم المهنية بعيداً عن أية أجندات مستترة. حيادية الإعلام هذا الأمر يمنح قدراً من التفاؤل بأن العلاقة بين الغرب والشرق تسير نحو آفاق أرحب، وثمة مؤشرات مبشرة تعيشها الساحة الإعلامية اليوم في عهد الإدارة الأمريكية الحالية ورئيسها أوباما تبعث الأمل مقارنة بما كان في عهد سلفه الرئيس بوش." الإعلام الغربي لم يتعامل بالتجرد اللازم مع قضايا الشرق ممثلة في القضية الفلسطينية والحرب على العراق وأفغانستان وأخيراً الأزمة في دارفور " لست معنياً بإبراز التوجهات الأمريكية ووضعها في زاوية شكوك وريبة، إلا أن قضية حيادية الإعلام مثلت محوراً أساسياً في الورشة باعتبار أن الإعلام الغربي لم يتعامل بالتجرد اللازم مع قضايا الشرق ممثلة في القضية الفلسطينية والحرب على العراق وأفغانستان وأخيراً الأزمة في دارفور. وقد أثرتُ من جانبي قضية دارفور نموذجاً حياً لتناول بعض وسائل الإعلام الغربية وإطلاقها التهم على عواهنها من خلال عناوين الإثارة واتباع نهج الحكم المسبق الذي يتنافى ومبدأ الصحافة التحقيقية الرصينة الذي أقيمت لأجله الورشة. السياسة التحريرية ذكرت مثالاً لخطأ وقعت فيه إحدى الصحف البريطانية (الرائدة) في عنوانها الرئيس بنعتها وزيراً سودانياً متهما من المحكمة الجنائية الدولية بعبارة دامغة. علماً أن الحوار الذي استنبطت منه الصحيفة هذا العنوان المثير، كان حواراً مزدوجاً بيني ممثلاً ل"القدس العربي" وصحافي بريطاني شهير ممثلاً لصحيفته ذائعة الصيت وكنت حينها قد نشرت الحوار في صحيفة "القدس العربي" تحت عنوان: (الوزير السوداني الذي تتهدده مذكرة اعتقال من "الجنائية الدولية": متصالح مع نفسي وأوكامبو يسيء للعدالة). في حين اختارت الصحيفة البريطانية عنواناً مثيراً (العقل المدبر لمأساة دارفور يقول المزاعم مؤامرة استعمارية) Mastermind of Darfur tragedy says allegations are a colonialist plot. طالعنا الخبر عبر الشبكة الإسفيرية من مقر إقامتنا بفندق "السلام روتانا" بالعاصمة السودانية الخرطوم قبل عودتنا الى لندن، واتصل الصحافي البريطاني عبر الهاتف بإدارة صحيفته مستوضحاً دواعي هذا العنوان الذي لا يعلم عنه شيئاً، فأفادوه أن ذلك يأتي تماشياً مع السياسة التحريرية للصحيفة، بمعنى أن الصحيفة اتهمت وحكمت ولم يبق لها إلا أن تدخل الوزير السوداني في غياهب السجون الهولندية حيث أقام الرئيس اليوغسلافي الراحل سلوبودان ميلوسيفيتش. علماً أن الوزير يمارس اليوم مهماته الدستورية في السودان في حرية كاملة ولا تزال مذكرة التوقيف في حقه سارية، وصدرت بعدها أخرى أكثر جدلاً في حق الرئيس عمر البشير (وهذا الرأي لا ينفي وقوع فظاعات وجرائم في حق مواطني دارفور تستوجب العقاب). الحياد والعدالة غير أن هذه الحادثة تقود للقول، أنه عندما هبت عاصفة المواجهة بين الغرب والشرق في خضم الحرب على الإرهاب، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) تراجع الغرب عن مبادئ الحياد والعدالة وإشاعة مفاهيم الفكر الصحافي المستنير بدواعي المعرفة وإجلاء الحقيقة للرأي العام بصورة صادقة." أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) جعلت الغرب يتراجع عن مبادئ الحياد والعدالة " وخرجت بعدها كثير من الدول الغربية خاسرة لمعركة كسب عقول وقلوب العرب والمسلمين. اليوم تريد هذه الدول وعلى رأسها أمريكا الدخول الى قلوب الملايين عبر آليات إيصال الأفكار من خلال بوابة الأجهزة الإعلامية ومنتسبيها لتبنيها مداخل منفتحة، وهذا أساس لفكرة مشروع إصلاح صورة أمريكا في العالم الذي وضعته إدارة الرئيس بوش والذي أضحى من بعد هدفاً استراتيجياً لخلفه أوباما. وهذا الأمر يقود للقول إنه إذا كانت أمريكا تسعى صادقة لرفع قدرات الإعلاميين بعيداً عن المكاسب السياسية فهذا أمر جيد، أما أن يكون الأمر إيهاماً بغير الحقيقة كما حدث من تخطيط لتغيير المناهج التعليمية في بعض الدول الإسلامية ونشر الثقافة الغربية في المجتمعات المحافظة بهدف ترسيخ الفكر الليبرالي على هدي حملة الترويج التي تبنتها وزارة الدفاع (البنتاغون) فإن ذلك من شأنه أن يبقي صورة أمريكا مشوهة كما الحال اليوم لسنوات قادمات. هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته * صحيفة القدس العربي