من قال إن الصوت يضيع.. لكن صوت القطر ضاع يا سادتي.. سألت مازن إبني -صاحب الخمس سنوات- صباح سبت طويل الطلبات والمطبات، الواحد لمن يتأزّم في مسارب الضي وينجزم في الانكماش العاطفي يعمل شنو؟! أجابني وهو ما زال يعافر لعنته الصباحية وضع المعجون على الفرشاة -الواحد يدخل في الشراب- بضم الشين. ثم مضى لحال سبيله، وتركني ألعق مرارة فشل مشروعي الثقافي. تذكرت كل ذلك ونحن في داخلية بانت بقايا من إنسان يقتات على فتات مصطلحات جوفاء تدعى الثقافة والمعرفة والوجدان نافر، والفكرة تلاوح بالسفر، بقطر كريمة، إلى حيث البسطاء الأغنياء أهلي. مال هذا السودان عصي على الإدراك، يعرفه أهلوه المدثرون بلون التراب ويمد لسانه ترفعاً عن خيانة المتعلمين من أبناء جلدته، وهم يتكالبون على أن يلبسوه رداءً أجرب (وبالغصب).. فود العتيق عليه رحمة الله عندما يأتي "للخرتوم" أول وصاياه "يا ولد أديني من موية الجر" "الزير"، الموية المبردة بالغصب لا تجيبا لي -أي يُبعد عنه المياه المثلجة، لأنها تبترد بغير رضا. وود عتيق هذا بشحمه ولحمه عليه رضوان الله، عندما أتاه من يطلب تبرعاً، هاتف إبنه "يا ولد عزّل ليه التمر السمح، عشان ما تعتر لينا تمرة مسوسة في الصراط، أي ورع ذاك الذي يخيف. كل هذا يطوف بالخاطر، يفضح الجهل وأن تحمل "الهاندباك" المؤسفة وتتوجه إلى محطة الخرطوم قبل أن تصبح "بيويوكواناً" يضج بالباعة والعربات والمتوجهين إلى الفراغ." وبالطبع لا علاقة لنا بشباك التذاكر فسطوح القطر الملتهبة خلقت لنا ونحن أولاد الحكومة " تجد القطار رابضاً كثعبان أنهكه طول الطريق.. وبالطبع لا علاقة لنا بشباك التذاكر فسطوح القطر الملتهبة خلقت لنا ونحن أولاد الحكومة. دراسة وداخلية، وعليك الله أحجز لي جمبك. في مواقع تحيل ما يخرج منك دماً من فرط الحرارة وطول المسير ومتعة الزوغان من كمساري القطر وبوليسه. فإذا أردت أن تعرف السودان وأهله فاحرص أن لا يفوتك القطر. نحفظ المحطات، محطة محطة، ومن الجيلي تغادر إلى جوف الصحراء وقد تكون محملاً بالجوافة "الما خمج" والرويان الفارهة العطش تحيلها الآن ثريات المصفاة. ويا سبحان الله، الجيلي تستأثر بالاسم كشأن الأغنياء دائماً. فالقطر الشال معاوية يتكسر زاوية زاوية، والقطر الشالك إنت يتكسر حتة حتة، لكن القطر المتوجهين نحوه الآن ننأى به عن التكسير، لكن الإهمال وظلم ذوي القربى، لمن نشكيه.. القطر الرابض الآن نغني به مع بنات طلسم قطار الشوق متين ترحل، أي جسارة تلك التي تحيل قطر الحديد والخشب إلى كائن يحس ويجامل ويسرع بعجلاته ولا يتوقف حتى يأذن له الحبيب. عمنا أحمد عمر الرباطابي، عليه الرحمة وعرفه العالمين بأم در يا ربوع سودانا، رجل كامل البداهة ذكي العبارة، اتصل بقريبه كمساري القطر بأن يحجز له، وفي أبي هشيم من أنتجت للناس بابكر بدري وآخرين كثر، ركب الرباطابي وفج طريقه بصعوبة والقطر شيال حمول، فعلاً استقبله قريبه وطلب منه الانتظار، والناس حشراً بين يدي بعضهم، وبعد عدة محطات جاء إليه بانزعاج متوهم، أها إن شاء الله تكون مرتاح، وأحمد عمر الذي لا يعجزه الرد قال "الحمد لله ترا نَتَفْتِف في شعر روسين الناس من خشمنا"، كناية عن الزحمة والتلاصق الذي لا يطاق. وعندما وطأت قدمه أحد الغرباء وهو في ممر القطر وصاح غاضباً، يا زول إنت ماشي وين. قال له أنا ماشي أهلي إنت الماشي الوين." بوستة القطر منها قرأنا روزاليوسف والمصور وآخر ساعة والدوحة والعربي وفهمي هويدي وثوار الملايو والزنوجة وحسن البنا وتشي جيفارا " وللقطر علاقات ثرية وذكريات تصل منحوتة في صخر الذاكرة، وقد تنسال شعراً أو تتوج زواجاً أو لوعة في القلب وغناء مع إبراهيم عوض ألم الفراق ولمن تشتكي. ومن بوستة القطر قرأنا روزاليوسف والمصور وآخر ساعة والدوحة والعربي وفهمي هويدي وثوار الملايو والزنوجة وحسن البنا وتشي جيفارا، ولعنا سنسفيل إبراهيم الطويل لأنه سب أهل السودان وكتب (رحلة القطار الملعون من حلفا إلى الخرطوم)، والوطن حينها يتحكر في القلب قبل أن يهدر دمه بين القبائل والمصالح، وتحلقنا يومها حول هنا أمدرمان نستمع شجياً إلى قطر الهم وعمي الزين وكيل صنفور وهاشم صديق عبر حنجرة وداللمين البازخة يصدح بالملحمة... آه مال الذكريات تؤلم. كان معهد إعداد المعلمات بالدامر يرمي في جوفه الحميم بطالبات من كل فج عميق، "هدى" كانت لها مساجلات مع بشرية المنصورية بحجة أن أهل المناصير أراضيهم ضيقة وجبالهم قاحلة، وناس هدى عندهم فسحة الأرض "وريقان" النخل الوارفة. ركبن القطر، شيال الحمول. وفي سندة كرقس الشهيرة نزلت هدى في الجهة المعاكسة للنيل ووجها قبالة الصحراء الموحشة. وهنا انتصرت بشرية لكل هزائم الجدال مع هدى "إنتي جناينكن وينن"، أي، أين حدائق النخل التي تتبجحين بها. وسوء الحظ يبلغ مداه حين يصل بك قطر كريمة تخوم أبو حمد فجراً والدنيا شتاء وعمر كرز يصر إصراراً لا يخالجه الشك أن "أبرد منطقتين في الدنيا" المتجمد الشمالي وأبو حمد. وتكاد أن تصدقه، ولا يطفئ ذاك الزمهرير إلا سوق الحفرة ونساء يصنعن الشاي بجمر الصبر. ودي أبو حمد؟!! ويرد الطفل بفراسة من يلمح الاستهزاء في عيون السائل. لا... دي أبو ظبي. وفضاء القطر يظل معك حتى حين تغادر عرباته. فمن الأهمية بمكان أن تذهب لمكان العزاء وأنت "بهدوم" القطر، دليلاً على الاهتمام وحزناً على الراحل وإن كان قبل شهور خلون، وأمك تهاتف: "عليك الله قبل ما تغيِّر أصل ناس المحجوب تعزيهم في أبوهم وبعدين تعال ارتاح وما تنسى تغشى ناس عمتك النعمة باقي عندهم خبر بكا"، ألم أقل لكم إن هذا السودان عصي على إدراكنا نحن أدعياء العلم والثقافة. القطر الآن استحالت محطاته خرائب تتغنى بنعيق البوم ومواء الموحش من القطط، والسكة خطان متوازيان يرمزان للذكرى -الذكرى فقط- من لنا- من؟!