توفيت في المكسيك في 2 أبريل 2012م، عن 96 عامًا، النَّحَّاتة وفنانة الليثوغراف إليزابيث كاتليت، التي اعتُبِرَت واحدةً من أكثر الفنانين الأفرو - أميركيين أهميةً في القرن العشرين (تحولَت منحوتاتُها لتصبحَ رموزًا لحركة الحقوق المدنيَّة)، رغم أنها أمضت معظم حياتها في المكسيك. عَكَسَ مزجُها المهيب لكُلٍّ من الفن والوعي الاجتماعي تأثيرَ الرسّام الألماني ماكس بخمان، والمكسيكي دييغو ريفيرا، وفناني منتصف القرن العشرين أمثالهما، ممن جعلوا من الفن وسيلةً لنقد البنى السلطوية. «كانت كاتليت، منذ بداية احترافها للفن، جزءًا من محيطٍ سياسيٍّ عريض شملَ فنانين ينتمون إلى عدة إثنيات عانوا اللاعدالة الاجتماعية»، بحسب ما صرَّحَت ميلاني آن هيرزوغ لصحيفة التايمز عام 2005م. وهي التي نشرت عام 2000م سيرة الفنانة الذاتيّة: (إليزابيث كاتليت: فنانة أميركية في المكسيك) بدا قرار كاتليت في التركيز على هويتها الإثنيّة، وانخراطها في النضالات ضد الاسترقاق والتمييز الطَّبَقي، قرارًا جَسورًا وغير مألوف في الثلاثينيات والأربعينيات. " كاتليت جابهَت، بثقتها في قدرة الفن على تعزيز التغيير الاجتماعي، الممارسات المنافية للعدالة الأشدّ مضايقةً ضد الأفرو - أميركيين، بما فيها حالات الشَّنْق والقمع والضرب " في الوقت الذي اعتقدَ الأفرو - أميركيون وأمِلوا في «أن يتمثّلوا أكثر داخل الأخلاقيات الأوروبيَّة»، كما قالَ راعي الفنون لاوري ستوكس سيمز، في مقابلة مع (الراديو الوطني العام) سنة 1993م. جابهَت كاتليت، بثقتها في قدرة الفن على تعزيز التغيير الاجتماعي، الممارسات المنافية للعدالة الأشدّ مضايقةً ضد الأفرو - أميركيين، بما فيها حالات الشَّنْق والقمع والضرب. وكانت منحوتة (الهدف) (1970م) واحدة من أشهر أعمالها، وكانت شرعت في تنفيذها إثر إطلاق الشرطة النار على أحد أفراد منظمة ال (بلاك بانثرز/ الفهود السود)، وتُظهر رأسَ رَجُلٍ مؤطَّر بدائرة التهديف لمسدس. غير أنها اجترحَت تعبيرات أكثر تفاؤلًا من خلال لوحات ليثوغرافية ومنحوتات لكُلٍّ من هاريت توبمان العَبْدَة التي قادت آخرين نحو الحريّة، وسوجورنر تروث، العَبْدة الأخرى الناشطة من أجل إلغاء الاسترقاق. وفي الأغلب كانت تعود إلى الموضوعة الدائمة المتمثّلة في الأُم وطفلها، وعكست سلسلةُ أعمالها الليثوغرافية المطبوعة عام 1946م المُسمَّاة (المرأة الزنجيّة) الكرامةَ البطوليّة التي عاينتها في موضوعاتها. تاريخ النساء السود «أردتُ أن أُظهِر مختلف أوجه تاريخ النساء السود وقوتهن»، أدْلَت كاتليت بهذا لصحيفة ذا سان بيترسبرغ تايمز في 1992م. شارحةً: «النساء العاملات، والنساء الريفيات، ونساء المدن، والنساء العظيمات في تاريخ الولاياتالمتحدة». بُني عمل كاتليت المبكِّر على تشكيل الوجه، وهو ما أفسحَ المجال للتكعيبيّة كلّما تحركَت باتجاه المنحوتات شبه التجريديّة. وهو المآل الذي باتت تفضّله بعد دراسة الشكل عندما كانت طالبة قيد التخرج أواخر الثلاثينيات. ظَلَّ تاريخا الجنوب الأميركي والأفريقي الأميركي ماثلين وبارزين في منحوتاتها. وتُظهر منحوتة (الوحدة السوداء) العائدة لسنة 1968م قبضةً من خشب الماهغوني المصقول اللامع في جانبٍ منها (الأمام)، وقِناعين إفريقيين يشبهان الوجه في الجانب الآخر (الخلف). وكذلك منحوتة «إجلالًا لأخواتي الصغيرات السوداوات» في السنة نفسها، المشغولة من خشب الأرْز الأحمر، تمثّلُ امرأةً برأسٍ مرفوع وقبضة مشهرة على نحوٍ تجريديّ. ثم تحوّلَ هذان الشكلان البسيطان «لا ليكونا رمزين فقط لحركةٍ ما، إنما هما رسالة خَطّية بتوقيعها تشهد على أنّ رأسها وقلبها كانا قد تجذرا عميقًا في النضال»، بحسب ما كتبت لاينل جورج عام 1999م في جريدة التايمز. وكعادتها في الأشكال المطبوعة لأعمالها؛ رَسَمَت كاتليت مجموعة موضوعات ذات علاقة بالرجال الأفرو–أميركيين؛ عُمَّال مصانع، ورجال من الطبقة الوسطى بسترات ورابطات عُنق. وعلى نحوٍ بارز رَسَمَت أيضًا أشخاصًا مثقفين مثل مارتن لوثر كينغ. بعد انتقالها للمكسيك في الأربعينيات لدراسة فن السيراميك، أبْقَت على التزامها بقضايا الأفرو-أميركيين، لكنها أخذَت في الحسبان كذلك نضالات العُمّال المكسيكيين. ولقد أشارت إلى هذا بالتوصيف التالي: (شَعباي الاثنان)، وأحيانًا أقدَمَت على دمج ملامحهما الجسديّة في أعمالها. وسرعان ما وجدَت في مكسيكو سيتي ضالتها من خلال ورشة فنيّة مختصّة بالغرافيك، مكوّنة من مجموعة فنانين معروفين بإنجاز أعمال جداريّة هائلة الحجم غايتها دعم ومؤازرة قضايا عامة. وهناك حظيت بمستوى من القبول لم تعرفه على الإطلاق في وطنها، وتزوجَت زميلًا لها في تلك الورشة هو فرانسيسكو مورا أواخر الأربعينيات. «ثمّة مسلكيات مختلفة حيال الفن في المكسيك»، قالت في مقابلتها مع جريدة ذا سان بيترسبرغ تايمز: «فأنت تحظى بالتقدير لكونكَ فنانًا، ولا يُنظر إليك باعتباركَ شيئًا غريبًا». ورغم اكتسابها المواطنة المكسيكيّة في عام 1962م، فإنها تابعَت ملاحقة قضايا السود في أميركا. وتضمنَت أعمالها الليثوغرافيّة منذ نهاية الستينيات صورًا لقائدَيِ النشاطات الاجتماعيّة في تلك السنوات، مالكولم إكس، وأنجيلا ديفيز. في مقابلة أجرتها جريدة التايمز عام 2005م، قالت تريتوبيا هايس بنجامين، مديرة غاليري الفن في جامعة هوارد في واشنطن العاصمة: «إليزابيث كاتليت جزء من تاريخ فن الاحتجاج في أميركا. لقد صاغت مواقفها عبر فنها من شروط الظرف الإنساني، وحيال العدالة الاجتماعية والإجحاف». أدّى وجود تجمُّعات يساريّة تنحو باتجاه الاندماج إلى أن تعلن حكومة الولاياتالمتحدة أنّ كاتليت «شخصية غريبة غير مرغوب فيها» عام 1959م، وذلك حين شاركت في جمع شمل الأميركيين المقيمين في المكسيك المشتبه بكونهم منخرطين في أنشطة شيوعيّة. وفي حقبة الستينيات حُرِمَت الحصول على تأشيرة دخول للولايات المتحدة، وهو ما شكَّلَ عاملًا معززًا – إضافةً إلى كونها إفريقية الأصل– لأن تكون شخصًا مغمورًا، نسبيًّا، داخل التيّار الرئيس في الفن الأميركي. حفيدة لعبيد محررين ولدت إليزابيث كاتليت في 15 إبريل 1915م في واشنطن العاصمة، حفيدة لعبيدٍ محررين. " منحوتة (الهدف) كانت واحدة من أشهر أعمالها، وكانت شرعت في تنفيذها إثر إطلاق الشرطة النار على أحد أفراد منظمة ال (بلاك بانثرز/ الفهود السود) " أبوها بروفيسور في الرياضيات توفي قبل ولادتها، وأُمها عملت مسؤولة ضبط الحضور والغياب في إحدى المدارس. نالت شهادة البكالوريوس في الفن من جامعة هوارد، المعهد التعليمي التاريخي للسود، منتصف الثلاثينيات، بعد أن طُرِدَت من معهد كارنيغي التكنولوجي بسببٍ أنها (مُلوَّنة)! انضمت إلى (إدارة النهوض بالعمل)، البرنامج الذي عمل على توظيف عدد كبير من الفنانين الجائعين إبان حقبة الكساد. وجرى تعريفها بريفييرا وزميله المكسيكي فنَّان الجداريات ميغيل كوفارّوبياس، حيث كان لفكرهما السياسي تأثيره في أعمالها المستقبليّة. عملت كاتليت في تدريس الفن في «نورث كارولاينا هاي سكول» لمدة من الوقت، لكنها أُحْبِطَت بسبب عدم المساواة في الرواتب بين الأساتذة السود والبيض. ثم انتقلت إلى ما يُعرف الآن بجامعة أيوا، لتنال منها درجة الدكتوراه في الفن عام 1940م. وكان من بين هيئة التدريس المشرف عليها الفنّان غرانت وود، المشهور بلوحته المُسمَّاة (القوط الأميركيون)، التي رسمها في عام 1930م. وفيها رجلٌ وامرأة ريفيان متزمتان من أيوا «هناك أكثر من تأويل في تأمل هذه اللوحة التي باتت أيقونة عن الجنوب الأميركي». ولقد شَجَّعها على أن تحتذي به وتعمل ما عمله هو؛ وذلك بأن تستعين بثقافتها ومجتمعها كموضوعات لفنها. «لم أكن محاطة في أي وقت بأناسٍ بيض طوال حياتي، سوى الذين أتعارك معهم» قالت كاتليت فيما بعد، واصفةً دعم وود لها غير المتوقَّع. أما موضوع تخرجها، فكان منحوتتها (أُمّ زنجيّة وطفل)، وفازت بالجائزة الأولى في معرض كولومبيا 1940م، ومعرض شيكاغو للفنانين الأفرو - أميركيين. حين عُيِّنَت أستاذة كرسي لقسم الفنون الجميلة في جامعة ديلارد في نيو أورليانز عام 1940م، لم يكن مسموحًا للأفرو-أميركيين بدخول موقف السيارات المحيط بمتحف نيو أورليانز، فما كان من كاتليت إلّا أن تحتال على هذا الحظر بجعل طلابها يستقلون الحافلة حتى باب المتحف. وفي عام 1941م، انخرطت كاتليت في أنشطة المركز الفني لمجموعة الجانب الجنوبي في شيكاغو، وكان نقطة جذب للفنانين الأفرو - أميركيين التقدميين. وهناك التقت الفنان تشارلز وايت، وانتقلت معه إلى نيويورك بعد زواجهما. ثم ما لبثت أن انضمت إلى هيئة التدريس في كلية جورج واشنطن كارفر، وهي بمنزلة مركز تعليمي في هارلم يُدار من أشخاصٍ تقدميين وراديكاليين. وهناك، بحسب ما كتبت هيرزوغ عنها في سيرتها: «تجذرت قناعتها بأنّ على فنها أن يتجه مباشرةً للجماهير العريضة من العُمّال». في نهاية الأربعينيات انتقلت لمكسيكو سيتي وسرعان ما انفصَلَت عن زوجها الأوّل. ومن خلال ورشة أعمال الحفر والطباعة، تعرفت إلى مورا (زوجها الثاني) الذي عرض عليها تعليمها اللغة الإسبانيّة، ثم توفي في عام 2002م. رُزِقَت من مورا بثلاثة أبناء أعانوها على مواصلة حياتها؛ فرانسيسكو: موسيقيّ معنيّ بالجاز، وخوان: صانع أفلام، وديفيد: فنّان. إضافة إلى أنها جَدّة لعشرة أحفاد وستة أبناء أحفاد. في عام 1959م، أصبحت أوّل امرأة ترأس قسم النحت في الجامعة الوطنية المستقلّة المكسيكيّة، وهو المنصب الذي شغلته حتى تقاعدها في عام 1975م. عند مباشرة (متحف الأستديو) في هارلم العمل على إقامة معرضٍ كبير لأعمالها الفنيّة عام 1971م، منحت وزارة الخارجيّة كاتليت تأشيرة دخول إثر انهمار عرائض استرحام من أجلها. وكان لهذا المعرض أن دعمَ سمعتها المتنامية كفنّانة من الروّاد وكصوتٍ يعلو لصالح الأفرو - أميركيين. تبع ذلك معارض أخرى في الولاياتالمتحدةوالمكسيك، واقتنت أعمالها المتاحف الرئيسيّة. وبمناسبة إقامة متحف كاليفورنيا للفن الأفرو - أميركي معرضًا لأعمالها في لوس أنجليس عام 1999، قالت كاتليت لجريدة التايمز: «إنّ مشاهدة كلّ هؤلاء الناس إنما تبعث لي برسالة تفيد بأني ربما أفعلُ شيئًا ولو بسيطًا مما كنت أريد فعله، وهو إدخال الأفرو - أميركيين للمتاحف. وإني أومن فعلًا إنْ كان لهذا علاقة بهم، فإنهم سيأتون». *عن مجلة الفيصل