منعم سليمان تقريرٌ مرعبٌ وصادم قرأته أمس عن سودان ما بعد الحرب. وأكثرُ ما استوقفني فيه تلك التقديراتُ المفزعة التي تشير إلى أن أكثر من ستة ملايين قطعة سلاح تجوب شوارع ولايات ومدن وقرى السودان؛ لا في أيدي جيوش وطنية، بل في أيدٍ استباحت الوطن تحت لافتة "الدفاع": عن الدولة، عن السيادة، وعن الجيش، بينما هي، في الحقيقة، لا تدافع إلا عن مشاريع الفوضى وصناعة الخراب؛ إذ لا دولة هناك، ولا سيادة، ولا جيش! ما يحدث ليس سوى تفككٍ منهجيٍّ مقصودٍ للوطن، وتقسيمٍ ممنهجٍ، وتمزيقٍ مدروس. الميليشيات القبلية، والجهوية، والعقائدية، تتكاثر كالخلايا السرطانية؛ كل واحدةٍ منها تزعم الحماية، لكنها لا تزرع سوى الموت. لقد أصبحت الولايات السودانية أرخبيلًا من البنادق، تدور فيها الحياة وفق منطق السلاح، لا سلطان القانون. وصار المواطن لا يرى في الدولة ملاذًا أو مأمنًا، بل تهديدًا لوجوده، وخطراً على ما تبقّى من أمنه وكرامته. لكن، من أطلق الرصاصة الأولى في قلب الوطن؟ ومن أطلق الثانية ليفتح باب الجحيم على مصراعيه؟. لم يعد مجهولًا من انقلب على الشعب، ومن أشعل الحرب عليه. لقد فعلها الكيزان بدمٍ بارد، وتخطيطٍ مبيّت، حين أيقنوا أن مشروع الدولة المدنية هو إعلان نهايتهم التاريخية. فدسّوا أنيابهم داخل جسد الجيش، عبر تنظيمٍ عسكريٍّ موازٍ، ظلّ نائمًا لعامين كخليةٍ سرطانية، ثم استيقظ لحظة وجد في عبد الفتاح البرهان القابلية، والأداة، والواجهة. ولم يتأخر البرهان، ذلك الحالم النزق، الساعي إلى الحكم بالغدر والخيانة؛ فخان الثورة، وانقلب على المرحلة الانتقالية، ثم سلّم البلاد من جديد إلى ديناصورات الخراب، وأفاعي الدين وتُجّاره، ليعيد عقارب الخراب مرةً أخرى. قارن ذلك بمشهد الحكومة المدنية الانتقالية؛ فعلى الرغم من المؤامرات المحبوكة، والعقبات المصنوعة، والألغام المزروعة في طريقها، كانت تمضي إلى الأمام بخطى متعثّرة، لكنها واثقة وفي الطريق الصحيح. كان الخلاف، مهما احتدّ، يُحسم باللسان لا بالأنياب، وبالحوار لا بالإقصاء. كانت الدولة تتشكّل بالكلمة، لا بالبندقية، وكان المواطن يرى نفسه طرفًا فاعلًا في معادلة الحكم، لا هدفًا في مرمى النار، ولا رقمًا هامشيًا في دفاتر الرصاص والموت المجاني. المجد للإنسان والثورة... لا للبندقية.