حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    (خطاب العدوان والتكامل الوظيفي للنفي والإثبات)!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    البرهان يزور جامعة النيلين ويتفقد مركز الامتحانات بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالجامعة    وزير الصحة المكلف ووالي الخرطوم يدشنان الدفعة الرابعة لعربات الإسعاف لتغطية    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المحبوب عبد السلام : راشد الغنوشى ومؤتمر النهضة العاشر: إنجاز المؤجل
نشر في حريات يوم 01 - 06 - 2016


راشد الغنوشى ومؤتمر النهضة العاشر: إنجاز المؤجل
المحبوب عبد السلام
كثيراً ما تدرك شعوب ونخب التحديات بعد قيامها ماثلة بفترة طويلة ولا تتصدى لها الا بعد تمام استحكامها فتغدو شاخصة للعيان وقد أحرقت نيرانها كثيراً مما يمكن إدراكه إذا قاموا اليها بنور البصيرة قبل فوات الأوان. وكما يمر الانسان الفذ بمرحلة الإنكار ( denial stage ) اذا باغته نبأٌ صادم، كذلك الامم والشعوب، بل طلائعها ونخبها، تغض الطرف عن الابتلاءات وقد تنكر الهزائم وهى أقرب اليهم من حبل الوريد. من ذلك تأخر إدراك العالم الاسلامى لتفوق أوربا الحاسم واهتراء الخلافة العثمانية لعقود قبل أن تدك الجيوش الاستعمارية حصونهم وتدوى المدافع، بعد دارت المطبعة وانبسطت سكك الحديد وسمع صوت الراديو وقرقعة التلغراف، بل منذ توالى انهيارات الاندلس ظلت الأئمة والرؤساء يكررون الدعاء كلما سقطت مدينة لدى الفرنجة ( ردها الله الى دار الاسلام ). أو كما خرج أهل فلسطين من ربوعها فى العام 1948 وهم لا يحرصون على شىء كما يحرصون على مفاتيح بيوتهم، فالعودة قريبة ماثلة وقد إختاروا كلمة النكبة لوصف الهزيمة والخروج، فالنكبة مثل الكبوة سرعان ما يستقيم بعدها الجواد متقدماً، تعبيرا ضافياً عن حال نفوسهم المتشبثة بالأمل، حتى غدا المفتاح رمزاً للصمود الطويل أمام المحن المغلقة. وكما يتنكر الناس للهزائم والإحباطات وينكرونها ويهشوا للإنتصارات ويتبنونها، يهرعون الى المشاجب وقد أضحت معالم معلومة من كثرة ما علقت عليها المحن والإنكسارات، فهنالك الغرب وأميركا وهنالك الماسونية والمخابرات، والاثنتى عشر منظمة التى تحكم العالم وتتحكم فيه من الباطن،وهنالك مرض نفسى مزمن يستدعى ظهور سيجموند فرويد جديد اسمه ( نظرية المؤامرة )، ذلك رغم صريح القرآن ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير )، ورغم الحديث المبدع الصريح لمالك بن نبي عن القابلية للإستعمار وعن الصراع الفكرى فى البلدان المستعمرة وعن أمله الكبير فى الوهابية، ثم انخذاله الكبير وهو يغض البصر عن لافته كبيرة فى مدينة جدة كتب عليها ( هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ).
لقد قضيت ردحاً من الزمن فى آخر العقد الثمانين من القرن الماضى فى مدينة الأنوار باريس وقد إنكسفت شمس القارة العجوز وتمدد المارد الأميركي منذ أوان الحرب الثانية، ومضت الأوراق العلمية تكتب بالانجليزية، حتى التى يمهرها الفرنسيون، فالبحث والنشر فى الدوريات والرواج لا سبيل له بغير لغة سيدة العالم، كما طفقت الجائزة الأدبية الأرفع فى فرنسا تمضى لاجيال المهاجرين الذين ولدوا هنالك وأضحوا مبدعين بلغة الأم الجديدة، ومع كل ذلك ظل أصدقاؤنا العرب من الشام والشمال الافريقى فى شعورهم ولا شعورهم يعتبرون اللغة الفرنسية هى اللغة الأولى فى العالم.
ومنذ أن أعلن حسن البنا أن جماعته حزب سياسي وطريقة صوفية وفريق رياضى وعقيدة سلفية وشركة تجارية، ثم ما لم يعلنه فى تعريفه الشهير أنهم جيش مسلح بلغ مشارف فلسطين ونصب سعيد رمضان حاكماً للقدس، فى حين تورط الجيش المصرى فى صفقة الاسلحة الفاسدة، ثم هو كذلك مركز للاستخبار والمعلومات، يعتريه ما يعترى تلك الأجهزة من تمددٍ وتغولٍ الى أن يكفر بها الإمام ويصفهم ما هم باخوان ولا مسلمين.
وفى الطريق اللاحب الطويل قسم سيد قطب العالم الى فسطاطين قبل أن يفعل بن لادن بزمن طويل،ثم أصبح ( قطب ) رمزًا للتنظيم وأيقونة الفداء والشهادة لدى الجماعة، التى كان غاية فهمهما تحكيم الشريعة وليست حاكمية، يقول عنها سيد قطب ( أنها أخص خصائص الألوهية )، رغم أن مرشد الجماعة السيد الهضيبي أو بالأحرى ( جماعة مكلفة ) من الجماعة ردت على الأيقونة بكتاب كامل حمل عنوان ( دعاة لا قضاة )، فى أول فصل معلن للسلطات قبل تفصيل الغنوشي بوقتً طويل، ورغم أن المرشد والأيقونة كلاهما جاءا للجماعة من خارجها، فبعد موت المرشد استفرغت الجماعة وسعها ليكون المرشد من اعمق الاعماق، جاء المرشد والمفكر كلاهما من خارجها تماما. لكن من أين جاء الإمام البنا بفكره التنظيمى ؟! ليس من معين آخر سوى السابقة الاوربية فى تطور علوم الادارة والتنظيم وتقدم خبراتها، إذ بنى الخلايا و اختار لها اسماً مبدعاً ( الاسرة )، ثم النظم الاشد دقة التى تقتضيها الاعمال الاستخبارية والعسكرية، لاسيما بعد تطور التجارب النازية والفاشية والشيوعية، وكما أشار لذلك بوضوح مؤلف كتاب الفكر السياسي للامام البنا وكلفه ذلك عضويته التنظيمية وبقاءه فى الجماعة. ولا ريب أن ( بايات) تونس كانوا الاسرع ضمن السطنة العثمانية فى استجلاب التظم الادارية الغربية للحكم والأسبق بعد سليمان القانونى، أو كما أشار إحميدة النيفر فى مقاله المفيد حول تقدم خطاب حركة النهضة بين يدىّ مؤتمرها العاشر فى فتوى المفتى القديم : أن يوسع على الحاكم فى اختياراته. فالدولة الحديثة كانت حتماً مقبلة ومبدلة للنظم القديمة البالية فى السلطنة المتضعضعة.
ولو امتد الزمن بالمفكر العظيم مالك بن نبي و انتهى به الطريق الى ضاحية المقطم ونظر فى اللافته التى تحمل اسم ( جماعة الأخوان المسلمين ) لانحسر بصره كما حدث له مع جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى جدة، فالجماعة غير المسجلة فى أيّما إطار من أطر الدولة الحديثة، فهى وفقاً لتعريف مرشدها أكبر من حزب وأصغر من دولة، فقد كان مالك بن نبي يرى فيها هى الأخرى أملاً كما رأى فى الوهابية، إذ هى تجاوزت ورطة السيد الأفغانى فى الجامعة الاسلامية، ومأزق محمد عبده فى الجامعة الشرعية، فبين سراب وحدة المسلمين تحت الخلافة، ويأس محمد عبده من اصلاح المجتمع عبر اصلاح مناهج الجامعة، أسس البنا جماعة تتشارك فى الأفكار والأموال.
لقد جمدت جماعة الأخوان المسلمين بعد توالى محنها وتتاليها، مستدعية حالة ( شيعية ) تعيش بتسع اعشارها فى التاريخ وتستبقى عشراً تعيش به فى الآخرة، أو كما هى الحالة الايرانية الراهنة إذ تعيش الجماهير بالكامل فى أحزان التاريخ وتتفرغ القيادة بالكامل للدنيا، فى تراجيديا راهنة من عبر الاسلام السياسي. ولا حاجة أن نستدعى أن قواعد الجماعة بحسها الطبعى إختارت القرار السليم، وهى تجدد علاقتها بالمجتمع المصرى الكبير بعد سقوط الديكتاتور وانبساط الحرية عام 2011، فصوتت بكامل قيادتها لمشاركة الآخرين لا منافستهم وإقصائهم، فهى لا ترشح الا لنصف مقاعد البرلمان ولا تطمح الى منصب الرئاسة الأعلى ولا تأخذ من قواعد الوزارة الا مثل رصفائها فى الأحزاب الاخرى، ذلك قبل أن يرتد رأس المال على الشورى ويعيد الجماعة من آفاق المستقبل الى سجن التاريخ، الى الفرد المسلم ثم الاسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم بدلاً عن المجتمع الوطنى العريض الذى يدين الجميع الى دولته، يخربون بيوتهم بأيديهم ويأخذون قومهم الى المصير المحتوم.
إن الذى دعى النهضة الى المراجعة واستدعاها الى المستقبل، ليس مأزق الجماعة المصرية فقط، ولكن الحقيقة التى أضحت لا تغالط، استنفاد الإسلام السياسي لأغراضه، فلا مشاحة فى المصطلح ( الاسلام السياسي )، فهو دقيق مهما يكن الذى أطلقه ومهما كرهه الاسلاميون، فشعار البنا القديم ( دين ودولة ومصحف وسيف ) هو الذى يميز جماعة الاخوان المسلمين والجماعات التى انتسبت اليها عبر تاريخ طويل، وهو ما يصلها كذلك بتجارب الاسلام السياسي فى ايران وباكستان ويشكل فى مجمله مادة المراجعة الازمة، خاصة بعد أن أضحت الدولة الاسلامية عنواناً لتنظيم الدواعش المتفاقم مثل مرض السرطان ولات حين مناص.
فإلى الشرق من مصر تقوم الاردن وفلسطين حيث أنهى حزب العمل الإخوانى سنوات العسل المتطاولة مع العرش الهاشمى فى حالة مزرية من التشظى والإنقسام ، بعد أن ساهمت حماس وغريهمتها اللدودة فتح، فى إنقسام فلسطين المقسومة الى قسمين، وليظل تحدى حماس ليس السلطة الفلسطنية، ولكن قضايا الاسلام السياسي وهى تعيش فى عمق الكيان الاسرائيلى وتجلب منه الزاد والكهرباء وتعبر اليه بالعمالة، ولتتجلى المفارقة، فلا يجمع حماس الى فتح الا الشعار ( الفتحاوى ) القديم ( هويتى بندقيتى )، فلو إختارت حماس ما اختاره الغنوشى وحزب النهضة التونسي لاستثمرت نصرها الذى لم تكن تتوقعه، عندما فازت ب 70٪ من مقاعد المجلس التشريعى، ولاكتفت بالدور الرقابي والتشريعى وعهدت بمجلس الوزراء بكامله الى المستقلين الصالحين، ولصارت هويتها الوطنية هادياً لعملها السياسي الرشيد، أما البندقية الهوية فستظل البندقية الاسرائيلية أقوى وأمضى منها ، ولوجد الغنوشى مادة يضمنها خطابه عن فلسطين، بدلاً عن اغفالها بالتمام كما لاحظ متحسراً الاستاذ الكريم عزام التميمى. فحماس بلا أدبيات سوى خطابات خالد مشعل، ولو انفتحت على الوطن لبدأت من حيث انتهت ادبيات ادوارد سعيد، الذى لا يقل عنهم بغضاً لفتح وقادتها، ولكن يؤصل موقفه على إلتزام رفيع بالقضية، ومعرفة معاصرة ترى بدائه الحاضر وجذورها فى سياقات التاريخ، لا تقول برمى اسرائيل فى البحر ولكنها لا ترضى باقتلاع الفلسطينى من أرضه الذى تمارسه اسرائيل كل يوم فى بجاحةٍ مرعبةٍ وتفقد بسببه كل يوم الرأى العام العالمى الذى ظل منحازاً لها بالكامل ولعقود خلت. إن أكثر ما كان يتنقده إدوراد سعيد فى سلوك ياسر عرفات وزمرة المنظمة، هو فقدانهم للحس التاريخى، ذات الامر الذى تورطت فيه حماس ولا تزال، ولما نظر إدوارد سعيد نفسه الى فتيات حماس المحجبات وشبابها الملتحين، الذين يغشون محاضراته ويراهم من بعيد فى المقاعد الخلفية، وكأنه ينظر الى قادمين من كوكب آخر.
أما معلم الغنوشي الأكبر الشيخ حسن الترابي، وتجربته المريرة مع السلطة والتى أثبتت تعثر أرقى ما يمكن أن تخرجه مدرسة الأخوان المسلمين العربية، فقد ظل يكرر منذ نضوج تجربته الفكرية أن القرآن لم يدعو الى تنظيم خاص لجماعة من المؤمنين ولكنه اجتهاد، ربما أوجبته دورات الإحياء التاريخية للإسلام، ولكن إذ جمد على أفكاره وأشكاله تجاوزته التحديات، بل أضحى الجمود على الشكل شركاً يقتضى الأوبة للتوحيد بالوعى والتجديد. كما جاءت آخر إجتهادات الترابي فى بسط تنظيم واسع يوافى المجتمع ولا يتشبه بالدولة كما درج فى سائر تجاربه الممتدة لعقود، إلا أن الواقع سرعان ما خيب الأمل الجموح وعاد الترابي ليناقش ما وصفه ب ( حزب سياسي فقط )، وهو عين ما دعا له الغنوشي وأشكل فهمه على الكثيرين، فالذى أحدث الفرق بين تجربة السودان وتجربة تونس، هو أن حركة الترابى وجدت فراغاً واسعاً فى مجتمع السودان فطفقت تواليه بالتجربة والخطأ وهى تحتكر المحاولة بالكامل عندما إحتكرت السلطة بالكامل لتنظيمها، ثم لقيت كل ما يلقاه الذى يلغى التعدد والاختلاف، لصالح المتوحد المتسلط، أما حركة الغنوشى فقد وجدت مجتمعاً مدنياً قوياً جابهها بالتحديات، فاستفادت من أخطاء أخواتها واستجابت لوطنها بما ينبغى، فى حين تقاصر تلاميذ الترابي الذين أفنوا سنوات من شبابهم دارسين أو مقيمين فى جامعات الغرب وحواضره، حتى عن التواصل مع الشعب وكسبه عبر الديمقراطية،كما فعا ويفعل رجب اردوغان فى تركيا، لكنهم فور تخلصهم من المفكر تحالفوا مع الاستبداد، وحصدوا ثمار الديكتاريوية المرة، تجزئة الوطن بعد تقسيم حركتهم، وليدخلوا التاريخ يحملون الوزر الثقيل، بعد أن إرتدوا حتى عن شمولية البنا، الى ثالوث الحكومة والحزب والحركة، فى تعبير آخر عن مأزق أول تجربة فى الحكم للاسلام السياسي السنى.
لقد نهضت أوربا بما كان يعرف قديماً بوكالات المجتمع والتى تقدمت نحو ما يعرف بمنظمات المجتمع المدنى، فمن مكاتب المواطن الى جمعيات حماية المستهلك الى روابط البيئة وحقوق الطفل الى نشطاء الرفق بالحيوان والتصدى لصيد ثعالب الفراء، وهو اتجاه فى التاريخ يتقدم اليوم ليغدو ضمن أطر العولمة الى حركة إنسانية شاملة، تجابه توحش الرأسمالية ونزق الصناعة وتحالف الأقوياء، فالنهضة اليوم حزب سياسي له برنامج سياسي يستلهم الاسلام، أما طاقات أعضاء النهضة الفكرية والدعوية والخيرية الاجتماعية والاقتصادية، فمحلها ساحة المجتمع التونسي العريض، فمن تطلع مع إخوانه فى الحركة السابقة ومع الذين يوافقونهم فى الاهتمامات ضمن المجتمع العريض فلهم أن يؤسسوا جماعة ثقافية أو فريق رياضى أو فرقة موسيقية أو مستودعاً للافكار والعصف الذهنى.
أما ما استشكل على البعض أو خيب رجاءهم فى تجاوز حركة النهضة لمعلباتهم وقوالبهم الجاهزة، التى تقسم العالمين كذلك فسطاطين، عالم دينى وعالم علمانى ، فقد وضعهم الشيخ الغنوشى أمام القضية الحقيقية بدلاً عن السفسطة النظرية، عندما أكد أن مرجعية حزب النهضة هى الديمقراطية، باعتبارها مكتسباً إنسانياً إنتهت اليه التجربة البشرية فى إقترابها بفطرتها من قضايا الشريعة الحقة، فى الانسان الحر المكرم ذو الحصانة والحقوق، وفى مجتمع العدل والكفاية، وهى غير الشريعة التى يحصرها الأدعياء عبر الفسطاطين فى العقوبات الحدية. أو كما بين الترابي منذ أوائل العقد الثمانين من القرن الماضى: فإذا كان الاسلام المستيقظ أمس يتحفظ فى تمييز الأصيل والدخيل من المصطلحات، وتمحيص العبارات العابرة للحدود حتى لا يغلب بالغزو الثقافى واللغوى، فالاسلام الناهض المتسع اليوم يستصحب فتحاً وتمدداً لغوياً، ويتسنى له أن يستوعب الكلمات الأجنبية ( محاضرة الشورى والديمقراطية 1983 ).
إن تونس هى اليوم مركز متقدم فى البحث المعرفى لقضايا المسلم المعاصر، خاصة تجديد الفكر الدينى وتحقيق الحداثة الفكرية والسياسية، فما يزال البحث فى مجال الدراسات القرآنية يوالى قطع أشواطٍ جديدة وما يزال التنقيب فى التراث ودراسته يمضى، وما تزال البحوث الفقهية الجديدة تربك أهل القديم، كما يتركز فى المغرب العربي الكبير بأكثر من غيره البحث الأعمق عن الحق العربي فى التفلسف والمداولة حول علم كلام جديد، ثم المساهمة فى الحضارة تجاوزا لدور ( قلة الماء ) كما أسماها مالك بن نبي. والحق أن منسوبي الاسلام السياسي قد وجدوا الفرصة كاملة بعد انفراج المحنة المتطاولة فى منتصف العقد السبعين من القرن الماضى، وبتعاطف كامل ودعم سخى من دول البترودولار، فأشرقت لأعوام مجلة المسلم المعاصر، التى أبانت بجلاء أن رسالتها ليست فروع الفقه ولكن البحث فى أصول الفقه، ليس بالمعنى الذى يقصد فقط تجديد العلم القديم ولكن البحث فى أصول التفكير، كما فعل إقبال قبل عقود من صدور المجلة، ولكن ذلك جهد لم يكتمل ولم يجد من التجاوب بقدر ما وجد من المقاومة. أما التجربة الأخرى الأشد مضاضة فهى الدعوة الى اسلامية المعرفة التى اشترعها مفكر نادر ضمن تلك الأطر هو السيد الفاروقى، ثم آلت التجربة الى الخطباء، فتبددت أموالٌ طائلة و أنصرمت أعوام عزيزة، وبقيت أسئلة كثيرة تنتظر بلا إجابة.
إن السياسة وفقاً لمناهج الحداثة ليست عملا ابستمولجياً محضاً ولا إجتهاد نظرى خالص، ولكنها كذلك، و كما يوضح هابرماس ذات طابع عملى قمينة بأن تكتسي طابع الحقيقة، فالتوافق فى مجالى الاخلاق والسياسة لا يمكن أن يتأسس الا على حقائق تنبثق عن نقاشات عقلانية معززة بحجج وبراهين، ولا يمكن أن تنبنى على قناعات جاهزة ومفروضة لم تخضع لنقاش مسبق.( مقدمة عادل البوانى للنظرية السياسية لهبرماس ). إن تونس هى بلاد خير الدين القائل : إن الممالك التى لا تنسج على منوال مجاوريها فيما يستحدثونه من التراتيب العسكرية والآلات الحربية، توشك أن تكون غنيمة ولو بعد حين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.