السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المحبوب عبد السلام : راشد الغنوشى ومؤتمر النهضة العاشر: إنجاز المؤجل
نشر في حريات يوم 01 - 06 - 2016


راشد الغنوشى ومؤتمر النهضة العاشر: إنجاز المؤجل
المحبوب عبد السلام
كثيراً ما تدرك شعوب ونخب التحديات بعد قيامها ماثلة بفترة طويلة ولا تتصدى لها الا بعد تمام استحكامها فتغدو شاخصة للعيان وقد أحرقت نيرانها كثيراً مما يمكن إدراكه إذا قاموا اليها بنور البصيرة قبل فوات الأوان. وكما يمر الانسان الفذ بمرحلة الإنكار ( denial stage ) اذا باغته نبأٌ صادم، كذلك الامم والشعوب، بل طلائعها ونخبها، تغض الطرف عن الابتلاءات وقد تنكر الهزائم وهى أقرب اليهم من حبل الوريد. من ذلك تأخر إدراك العالم الاسلامى لتفوق أوربا الحاسم واهتراء الخلافة العثمانية لعقود قبل أن تدك الجيوش الاستعمارية حصونهم وتدوى المدافع، بعد دارت المطبعة وانبسطت سكك الحديد وسمع صوت الراديو وقرقعة التلغراف، بل منذ توالى انهيارات الاندلس ظلت الأئمة والرؤساء يكررون الدعاء كلما سقطت مدينة لدى الفرنجة ( ردها الله الى دار الاسلام ). أو كما خرج أهل فلسطين من ربوعها فى العام 1948 وهم لا يحرصون على شىء كما يحرصون على مفاتيح بيوتهم، فالعودة قريبة ماثلة وقد إختاروا كلمة النكبة لوصف الهزيمة والخروج، فالنكبة مثل الكبوة سرعان ما يستقيم بعدها الجواد متقدماً، تعبيرا ضافياً عن حال نفوسهم المتشبثة بالأمل، حتى غدا المفتاح رمزاً للصمود الطويل أمام المحن المغلقة. وكما يتنكر الناس للهزائم والإحباطات وينكرونها ويهشوا للإنتصارات ويتبنونها، يهرعون الى المشاجب وقد أضحت معالم معلومة من كثرة ما علقت عليها المحن والإنكسارات، فهنالك الغرب وأميركا وهنالك الماسونية والمخابرات، والاثنتى عشر منظمة التى تحكم العالم وتتحكم فيه من الباطن،وهنالك مرض نفسى مزمن يستدعى ظهور سيجموند فرويد جديد اسمه ( نظرية المؤامرة )، ذلك رغم صريح القرآن ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير )، ورغم الحديث المبدع الصريح لمالك بن نبي عن القابلية للإستعمار وعن الصراع الفكرى فى البلدان المستعمرة وعن أمله الكبير فى الوهابية، ثم انخذاله الكبير وهو يغض البصر عن لافته كبيرة فى مدينة جدة كتب عليها ( هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ).
لقد قضيت ردحاً من الزمن فى آخر العقد الثمانين من القرن الماضى فى مدينة الأنوار باريس وقد إنكسفت شمس القارة العجوز وتمدد المارد الأميركي منذ أوان الحرب الثانية، ومضت الأوراق العلمية تكتب بالانجليزية، حتى التى يمهرها الفرنسيون، فالبحث والنشر فى الدوريات والرواج لا سبيل له بغير لغة سيدة العالم، كما طفقت الجائزة الأدبية الأرفع فى فرنسا تمضى لاجيال المهاجرين الذين ولدوا هنالك وأضحوا مبدعين بلغة الأم الجديدة، ومع كل ذلك ظل أصدقاؤنا العرب من الشام والشمال الافريقى فى شعورهم ولا شعورهم يعتبرون اللغة الفرنسية هى اللغة الأولى فى العالم.
ومنذ أن أعلن حسن البنا أن جماعته حزب سياسي وطريقة صوفية وفريق رياضى وعقيدة سلفية وشركة تجارية، ثم ما لم يعلنه فى تعريفه الشهير أنهم جيش مسلح بلغ مشارف فلسطين ونصب سعيد رمضان حاكماً للقدس، فى حين تورط الجيش المصرى فى صفقة الاسلحة الفاسدة، ثم هو كذلك مركز للاستخبار والمعلومات، يعتريه ما يعترى تلك الأجهزة من تمددٍ وتغولٍ الى أن يكفر بها الإمام ويصفهم ما هم باخوان ولا مسلمين.
وفى الطريق اللاحب الطويل قسم سيد قطب العالم الى فسطاطين قبل أن يفعل بن لادن بزمن طويل،ثم أصبح ( قطب ) رمزًا للتنظيم وأيقونة الفداء والشهادة لدى الجماعة، التى كان غاية فهمهما تحكيم الشريعة وليست حاكمية، يقول عنها سيد قطب ( أنها أخص خصائص الألوهية )، رغم أن مرشد الجماعة السيد الهضيبي أو بالأحرى ( جماعة مكلفة ) من الجماعة ردت على الأيقونة بكتاب كامل حمل عنوان ( دعاة لا قضاة )، فى أول فصل معلن للسلطات قبل تفصيل الغنوشي بوقتً طويل، ورغم أن المرشد والأيقونة كلاهما جاءا للجماعة من خارجها، فبعد موت المرشد استفرغت الجماعة وسعها ليكون المرشد من اعمق الاعماق، جاء المرشد والمفكر كلاهما من خارجها تماما. لكن من أين جاء الإمام البنا بفكره التنظيمى ؟! ليس من معين آخر سوى السابقة الاوربية فى تطور علوم الادارة والتنظيم وتقدم خبراتها، إذ بنى الخلايا و اختار لها اسماً مبدعاً ( الاسرة )، ثم النظم الاشد دقة التى تقتضيها الاعمال الاستخبارية والعسكرية، لاسيما بعد تطور التجارب النازية والفاشية والشيوعية، وكما أشار لذلك بوضوح مؤلف كتاب الفكر السياسي للامام البنا وكلفه ذلك عضويته التنظيمية وبقاءه فى الجماعة. ولا ريب أن ( بايات) تونس كانوا الاسرع ضمن السطنة العثمانية فى استجلاب التظم الادارية الغربية للحكم والأسبق بعد سليمان القانونى، أو كما أشار إحميدة النيفر فى مقاله المفيد حول تقدم خطاب حركة النهضة بين يدىّ مؤتمرها العاشر فى فتوى المفتى القديم : أن يوسع على الحاكم فى اختياراته. فالدولة الحديثة كانت حتماً مقبلة ومبدلة للنظم القديمة البالية فى السلطنة المتضعضعة.
ولو امتد الزمن بالمفكر العظيم مالك بن نبي و انتهى به الطريق الى ضاحية المقطم ونظر فى اللافته التى تحمل اسم ( جماعة الأخوان المسلمين ) لانحسر بصره كما حدث له مع جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى جدة، فالجماعة غير المسجلة فى أيّما إطار من أطر الدولة الحديثة، فهى وفقاً لتعريف مرشدها أكبر من حزب وأصغر من دولة، فقد كان مالك بن نبي يرى فيها هى الأخرى أملاً كما رأى فى الوهابية، إذ هى تجاوزت ورطة السيد الأفغانى فى الجامعة الاسلامية، ومأزق محمد عبده فى الجامعة الشرعية، فبين سراب وحدة المسلمين تحت الخلافة، ويأس محمد عبده من اصلاح المجتمع عبر اصلاح مناهج الجامعة، أسس البنا جماعة تتشارك فى الأفكار والأموال.
لقد جمدت جماعة الأخوان المسلمين بعد توالى محنها وتتاليها، مستدعية حالة ( شيعية ) تعيش بتسع اعشارها فى التاريخ وتستبقى عشراً تعيش به فى الآخرة، أو كما هى الحالة الايرانية الراهنة إذ تعيش الجماهير بالكامل فى أحزان التاريخ وتتفرغ القيادة بالكامل للدنيا، فى تراجيديا راهنة من عبر الاسلام السياسي. ولا حاجة أن نستدعى أن قواعد الجماعة بحسها الطبعى إختارت القرار السليم، وهى تجدد علاقتها بالمجتمع المصرى الكبير بعد سقوط الديكتاتور وانبساط الحرية عام 2011، فصوتت بكامل قيادتها لمشاركة الآخرين لا منافستهم وإقصائهم، فهى لا ترشح الا لنصف مقاعد البرلمان ولا تطمح الى منصب الرئاسة الأعلى ولا تأخذ من قواعد الوزارة الا مثل رصفائها فى الأحزاب الاخرى، ذلك قبل أن يرتد رأس المال على الشورى ويعيد الجماعة من آفاق المستقبل الى سجن التاريخ، الى الفرد المسلم ثم الاسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم بدلاً عن المجتمع الوطنى العريض الذى يدين الجميع الى دولته، يخربون بيوتهم بأيديهم ويأخذون قومهم الى المصير المحتوم.
إن الذى دعى النهضة الى المراجعة واستدعاها الى المستقبل، ليس مأزق الجماعة المصرية فقط، ولكن الحقيقة التى أضحت لا تغالط، استنفاد الإسلام السياسي لأغراضه، فلا مشاحة فى المصطلح ( الاسلام السياسي )، فهو دقيق مهما يكن الذى أطلقه ومهما كرهه الاسلاميون، فشعار البنا القديم ( دين ودولة ومصحف وسيف ) هو الذى يميز جماعة الاخوان المسلمين والجماعات التى انتسبت اليها عبر تاريخ طويل، وهو ما يصلها كذلك بتجارب الاسلام السياسي فى ايران وباكستان ويشكل فى مجمله مادة المراجعة الازمة، خاصة بعد أن أضحت الدولة الاسلامية عنواناً لتنظيم الدواعش المتفاقم مثل مرض السرطان ولات حين مناص.
فإلى الشرق من مصر تقوم الاردن وفلسطين حيث أنهى حزب العمل الإخوانى سنوات العسل المتطاولة مع العرش الهاشمى فى حالة مزرية من التشظى والإنقسام ، بعد أن ساهمت حماس وغريهمتها اللدودة فتح، فى إنقسام فلسطين المقسومة الى قسمين، وليظل تحدى حماس ليس السلطة الفلسطنية، ولكن قضايا الاسلام السياسي وهى تعيش فى عمق الكيان الاسرائيلى وتجلب منه الزاد والكهرباء وتعبر اليه بالعمالة، ولتتجلى المفارقة، فلا يجمع حماس الى فتح الا الشعار ( الفتحاوى ) القديم ( هويتى بندقيتى )، فلو إختارت حماس ما اختاره الغنوشى وحزب النهضة التونسي لاستثمرت نصرها الذى لم تكن تتوقعه، عندما فازت ب 70٪ من مقاعد المجلس التشريعى، ولاكتفت بالدور الرقابي والتشريعى وعهدت بمجلس الوزراء بكامله الى المستقلين الصالحين، ولصارت هويتها الوطنية هادياً لعملها السياسي الرشيد، أما البندقية الهوية فستظل البندقية الاسرائيلية أقوى وأمضى منها ، ولوجد الغنوشى مادة يضمنها خطابه عن فلسطين، بدلاً عن اغفالها بالتمام كما لاحظ متحسراً الاستاذ الكريم عزام التميمى. فحماس بلا أدبيات سوى خطابات خالد مشعل، ولو انفتحت على الوطن لبدأت من حيث انتهت ادبيات ادوارد سعيد، الذى لا يقل عنهم بغضاً لفتح وقادتها، ولكن يؤصل موقفه على إلتزام رفيع بالقضية، ومعرفة معاصرة ترى بدائه الحاضر وجذورها فى سياقات التاريخ، لا تقول برمى اسرائيل فى البحر ولكنها لا ترضى باقتلاع الفلسطينى من أرضه الذى تمارسه اسرائيل كل يوم فى بجاحةٍ مرعبةٍ وتفقد بسببه كل يوم الرأى العام العالمى الذى ظل منحازاً لها بالكامل ولعقود خلت. إن أكثر ما كان يتنقده إدوراد سعيد فى سلوك ياسر عرفات وزمرة المنظمة، هو فقدانهم للحس التاريخى، ذات الامر الذى تورطت فيه حماس ولا تزال، ولما نظر إدوارد سعيد نفسه الى فتيات حماس المحجبات وشبابها الملتحين، الذين يغشون محاضراته ويراهم من بعيد فى المقاعد الخلفية، وكأنه ينظر الى قادمين من كوكب آخر.
أما معلم الغنوشي الأكبر الشيخ حسن الترابي، وتجربته المريرة مع السلطة والتى أثبتت تعثر أرقى ما يمكن أن تخرجه مدرسة الأخوان المسلمين العربية، فقد ظل يكرر منذ نضوج تجربته الفكرية أن القرآن لم يدعو الى تنظيم خاص لجماعة من المؤمنين ولكنه اجتهاد، ربما أوجبته دورات الإحياء التاريخية للإسلام، ولكن إذ جمد على أفكاره وأشكاله تجاوزته التحديات، بل أضحى الجمود على الشكل شركاً يقتضى الأوبة للتوحيد بالوعى والتجديد. كما جاءت آخر إجتهادات الترابي فى بسط تنظيم واسع يوافى المجتمع ولا يتشبه بالدولة كما درج فى سائر تجاربه الممتدة لعقود، إلا أن الواقع سرعان ما خيب الأمل الجموح وعاد الترابي ليناقش ما وصفه ب ( حزب سياسي فقط )، وهو عين ما دعا له الغنوشي وأشكل فهمه على الكثيرين، فالذى أحدث الفرق بين تجربة السودان وتجربة تونس، هو أن حركة الترابى وجدت فراغاً واسعاً فى مجتمع السودان فطفقت تواليه بالتجربة والخطأ وهى تحتكر المحاولة بالكامل عندما إحتكرت السلطة بالكامل لتنظيمها، ثم لقيت كل ما يلقاه الذى يلغى التعدد والاختلاف، لصالح المتوحد المتسلط، أما حركة الغنوشى فقد وجدت مجتمعاً مدنياً قوياً جابهها بالتحديات، فاستفادت من أخطاء أخواتها واستجابت لوطنها بما ينبغى، فى حين تقاصر تلاميذ الترابي الذين أفنوا سنوات من شبابهم دارسين أو مقيمين فى جامعات الغرب وحواضره، حتى عن التواصل مع الشعب وكسبه عبر الديمقراطية،كما فعا ويفعل رجب اردوغان فى تركيا، لكنهم فور تخلصهم من المفكر تحالفوا مع الاستبداد، وحصدوا ثمار الديكتاريوية المرة، تجزئة الوطن بعد تقسيم حركتهم، وليدخلوا التاريخ يحملون الوزر الثقيل، بعد أن إرتدوا حتى عن شمولية البنا، الى ثالوث الحكومة والحزب والحركة، فى تعبير آخر عن مأزق أول تجربة فى الحكم للاسلام السياسي السنى.
لقد نهضت أوربا بما كان يعرف قديماً بوكالات المجتمع والتى تقدمت نحو ما يعرف بمنظمات المجتمع المدنى، فمن مكاتب المواطن الى جمعيات حماية المستهلك الى روابط البيئة وحقوق الطفل الى نشطاء الرفق بالحيوان والتصدى لصيد ثعالب الفراء، وهو اتجاه فى التاريخ يتقدم اليوم ليغدو ضمن أطر العولمة الى حركة إنسانية شاملة، تجابه توحش الرأسمالية ونزق الصناعة وتحالف الأقوياء، فالنهضة اليوم حزب سياسي له برنامج سياسي يستلهم الاسلام، أما طاقات أعضاء النهضة الفكرية والدعوية والخيرية الاجتماعية والاقتصادية، فمحلها ساحة المجتمع التونسي العريض، فمن تطلع مع إخوانه فى الحركة السابقة ومع الذين يوافقونهم فى الاهتمامات ضمن المجتمع العريض فلهم أن يؤسسوا جماعة ثقافية أو فريق رياضى أو فرقة موسيقية أو مستودعاً للافكار والعصف الذهنى.
أما ما استشكل على البعض أو خيب رجاءهم فى تجاوز حركة النهضة لمعلباتهم وقوالبهم الجاهزة، التى تقسم العالمين كذلك فسطاطين، عالم دينى وعالم علمانى ، فقد وضعهم الشيخ الغنوشى أمام القضية الحقيقية بدلاً عن السفسطة النظرية، عندما أكد أن مرجعية حزب النهضة هى الديمقراطية، باعتبارها مكتسباً إنسانياً إنتهت اليه التجربة البشرية فى إقترابها بفطرتها من قضايا الشريعة الحقة، فى الانسان الحر المكرم ذو الحصانة والحقوق، وفى مجتمع العدل والكفاية، وهى غير الشريعة التى يحصرها الأدعياء عبر الفسطاطين فى العقوبات الحدية. أو كما بين الترابي منذ أوائل العقد الثمانين من القرن الماضى: فإذا كان الاسلام المستيقظ أمس يتحفظ فى تمييز الأصيل والدخيل من المصطلحات، وتمحيص العبارات العابرة للحدود حتى لا يغلب بالغزو الثقافى واللغوى، فالاسلام الناهض المتسع اليوم يستصحب فتحاً وتمدداً لغوياً، ويتسنى له أن يستوعب الكلمات الأجنبية ( محاضرة الشورى والديمقراطية 1983 ).
إن تونس هى اليوم مركز متقدم فى البحث المعرفى لقضايا المسلم المعاصر، خاصة تجديد الفكر الدينى وتحقيق الحداثة الفكرية والسياسية، فما يزال البحث فى مجال الدراسات القرآنية يوالى قطع أشواطٍ جديدة وما يزال التنقيب فى التراث ودراسته يمضى، وما تزال البحوث الفقهية الجديدة تربك أهل القديم، كما يتركز فى المغرب العربي الكبير بأكثر من غيره البحث الأعمق عن الحق العربي فى التفلسف والمداولة حول علم كلام جديد، ثم المساهمة فى الحضارة تجاوزا لدور ( قلة الماء ) كما أسماها مالك بن نبي. والحق أن منسوبي الاسلام السياسي قد وجدوا الفرصة كاملة بعد انفراج المحنة المتطاولة فى منتصف العقد السبعين من القرن الماضى، وبتعاطف كامل ودعم سخى من دول البترودولار، فأشرقت لأعوام مجلة المسلم المعاصر، التى أبانت بجلاء أن رسالتها ليست فروع الفقه ولكن البحث فى أصول الفقه، ليس بالمعنى الذى يقصد فقط تجديد العلم القديم ولكن البحث فى أصول التفكير، كما فعل إقبال قبل عقود من صدور المجلة، ولكن ذلك جهد لم يكتمل ولم يجد من التجاوب بقدر ما وجد من المقاومة. أما التجربة الأخرى الأشد مضاضة فهى الدعوة الى اسلامية المعرفة التى اشترعها مفكر نادر ضمن تلك الأطر هو السيد الفاروقى، ثم آلت التجربة الى الخطباء، فتبددت أموالٌ طائلة و أنصرمت أعوام عزيزة، وبقيت أسئلة كثيرة تنتظر بلا إجابة.
إن السياسة وفقاً لمناهج الحداثة ليست عملا ابستمولجياً محضاً ولا إجتهاد نظرى خالص، ولكنها كذلك، و كما يوضح هابرماس ذات طابع عملى قمينة بأن تكتسي طابع الحقيقة، فالتوافق فى مجالى الاخلاق والسياسة لا يمكن أن يتأسس الا على حقائق تنبثق عن نقاشات عقلانية معززة بحجج وبراهين، ولا يمكن أن تنبنى على قناعات جاهزة ومفروضة لم تخضع لنقاش مسبق.( مقدمة عادل البوانى للنظرية السياسية لهبرماس ). إن تونس هى بلاد خير الدين القائل : إن الممالك التى لا تنسج على منوال مجاوريها فيما يستحدثونه من التراتيب العسكرية والآلات الحربية، توشك أن تكون غنيمة ولو بعد حين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.