منعم سليمان منذ فجر التاريخ، كان الماء شاهداً على نزاعات البشر كما هو مصدر عيشهم. واليوم، لا يزال نهر النيل بما يحمله من منابع ومصبات ومجاري متشابكة ساحةً خصبة للادعاءات والمزايدات! اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي في اليومين الماضيين موجة عارمة من الأخبار والصور المفبركة، ادّعت أنّ إثيوبيا تعمّدت فتح بوابات سدّ النهضة لإغراق السودان – ويا للكذب- لماذا تفعل إثيوبيا هذا، وما مصلحتها؟! لكن الحقيقة بطبعها باقية والكذب زائل. فمعظم الصور والفيديوهات المتداولة لم تكن سوى مشاهد لفيضانات قديمة اجتاحت دولاً بعيدة مثل باكستان وبنغلاديش وغانا وبوركينا فاسو، أو حتى كوارث شهدها السودان نفسه في أعوام سابقة. غير أنّ دعاية الغوغاء لم تكتفِ بتزييف الوقائع، بل صنعت من الأكاذيب مشهداً مأساوياً انتقل من فضاءات "فيسبوك" المأزومة إلى "شاشات ريا وسكينة"، حيث وجد بعض مقدّمي البرامج فرصة للتهويل واستدعاء "خبراء" لا يزيدون المشهد إلا خبالاً وجهلاً، تماماً مثل خبراء البرهان إياهم (الاستراتيجيين!) على قناة الجزيرة، الذين ما فتئوا يعبثون بنا وبسمعتنا بين الأمم! وبلغت الفبركة مداها حين جرى تداول مقاطع قيل إنها تُظهر تدفّق المياه بكثافة على السد العالي بأسوان، في محاولة لربطها مباشرة بسدّ النهضة. وادّعى مروّجو الشائعة أنّ إثيوبيا أغرقت السودان عمداً، فأطلقت 750 مليون متر مكعب من المياه دفعة واحدة، وأنّ السد المصري صمد منقذاً (الأخت السودان)! – ولا أعرف حقيقة لماذا ينشط الإعلام المصري في تأنيث اسم السودان؟، ولكن لا بأس، وقد قال المتنبي: وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ .. ولا التذكير فخرٌ للهلال. لكنّ مشهد السيول المرسوم بعناية من الخيال السياسي لم يصمد أمام الحقائق العلمية البسيطة: عندما اتضح أن الارتفاع في مناسيب المياه داخل السودان ليس نتيجة مؤامرة إثيوبية، ولا علاقة له بها، بل مردّه إلى ارتفاع غير مسبوق لمنسوب المياه في النيل الأبيض ونهر عطبرة، وربما ستسبب فيضانات، ربما، ولكن في كل الأحوال هي أنهار لا صلة لها بسدّ النهضة ولا بمياهه، وهذا هو موضوعنا! ولعلّ أفدح ما حملته هذه الشائعات أنّها كشفت جهلاً مريعاً بجغرافيا النهر نفسه لدى من يزعمون أنّهم أصحابه! بل جهلاً مريعاً بمعلومة بدائية يعرفها أي صريخ ابن يومين في الدول المشاطئة للنهر العظيم، وهي: أنّ النيل الأبيض ينبع من شرق إفريقيا الاستوائية، وتحديداً من بحيرة فكتوريا في يوغندا، بينما منبع النيل الأزرق من بحيرة تانا في الهضبة الإثيوبية. فكيف يُعزى فيضان الأبيض اليوغندي المنبع إلى تصرّف مزعوم في الأزرق الإثيوبي المنبع؟ إنّها سطحية لا تخفى إلا على من جعل من الخصومة حقيقة وبوصلة، ومن الشماتة زاداً سياسياً! ولم يقف الأمر عند حدود التشويه الإعلامي، بل انحدر إلى لغة التهكّم على العلاقات التاريخية بين الشعوب، فانتشرت عبارات مثل: "إثيوبيا تغرق أختها"، وكأنّ الدول تُقاس بقرابة الدم أو توضع في سلّم العائلة البشرية! والحقيقة أنّ لا مصر ولا إثيوبيا (أخوات) للسودان، فلا توجد دولة في هذا العالم شقيقة لأخرى. هل سمعتم أن إنجليزياً قد أطلق على وطنه وصف "أخت أمريكا"، أو أنّ إسرائيلياً قد سمى بلده ابنتها؟! فالدول ترتبط بشبكة مصالح متبادلة، لا بأواصر دم وصلات رحم! وأمّا عبارة "أخت بلادي"، التي تردّدها بعض الألسن بين السودان ومصر، فليست سوى مقطع شعري صغير من قصيدة "آسيا وإفريقيا" للشاعر السوداني الكبير تاج السر الحسن، إبان الحقبة الناصرية- وقد قيل قديماً: أعذب الشعر أكذبه. ثم ماذا تبقّى من "الناصرية" في بلادنا غير محامٍ مغمور سياسياً وكاتبٍ صحفيٍّ مخاتل؟! إنّ الأكاذيب والفبركات التي جرت في الأيام الماضية ولا تزال تجري، إنما هي تأكيد على زيف المعلومات المنتشرة هذه الفترة حول كل ما يتعلّق ببلادنا. فلا سدّ النهضة الإثيوبي أغرق السودان، ولا الكيزان سينتصرون في الحرب، ولا الصور والفيديوهات المضلّلة تحوّل الوهم إلى واقع. وحدها الحكمة وإعمال العقل قادرة على العبور بالشعب السوداني نحو الانتصار والاستقرار والسلام، ووحدها الحقيقة جديرة بأن تعبر مع النيل نحو مستقبل أوضح وأرحب لشعوبه.