معارك ضارية ب (بابنوسة) والدعم السريع تقترب من تحرير الفرقة 22    "وثائقي" صادم يكشف تورط الجيش في استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين (فيديو)    السودان.. وفد يصل استاد الهلال في أمدرمان    مسؤول بهيئة النظافة يصدم مواطني الخرطوم    اللواء الركن (م) أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: التقديم الالكتروني (الموحّد) للتشكيل الوزاري    السودان.. كامل إدريس يعلن عن 22 وزارة    هل ستتأثر مصر في حال ضرب المفاعلات النووية؟    إيران تغرق إسرائيل بالصواريخ من الشمال إلى الجنوب    كامل إدريس وبيع "الحبال بلا بقر"    إنريكي: بوتافوجو يستحق الفوز بسبب ما فعله    "كاف" يعلن عن موعد جديد لانطلاق بطولتي دوري أبطال إفريقيا وكأس الاتحاد الإفريقي    عندَما جَعلنَا الحَضَرِي (في عَدّاد المَجغُومِين)    حكومة أبو نوبة.. ولادة قاتلة ومسمار آخر في نعش "تأسيس"    نص خطاب رئيس مجلس الوزراء "كامل ادريس" للأمة السودانية    السفير عدوي يشيد بدراسة إنشاء منطقة لوجستية على الحدود السودانية    الاهلي المصري نمر من ورق    الجمعية العمومية الانتخابية لنادي الرابطة كوستي    السجن والغرامة على متعاون مع القوات المتمردة بالأبيض    ميسي يقود إنتر ميامي لقلب الطاولة على بورتو والفوز بهدفين لهدف    فقدان عشرات المهاجرين السودانيين في عرض البحر الأبيض المتوسط    عودة الخبراء الأتراك إلى بورتسودان لتشغيل طائرات "أنقرة" المسيّرة    6 دول في الجنوب الأفريقي تخرج من قائمة بؤر الجوع العالمية    30أم 45 دقيقة.. ما المدة المثالية للمشي يومياً؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من ضبط منزل لتزييف العملات ومخازن لتخزين منهوبات المواطنين    بين 9 دول نووية.. من يملك السلاح الأقوى في العالم؟    لماذا ارتفعت أسعار النفط بعد المواجهة بين إيران وإسرائيل؟    وزارة الصحة تتسلّم (3) ملايين جرعة من لقاح الكوليرا    "أنت ما تتناوله"، ما الأشياء التي يجب تناولها أو تجنبها لصحة الأمعاء؟    ماذا قالت الصحف العالمية عن تعادل الهلال مع ريال مدريد؟    نظرية "بيتزا البنتاغون" تفضح الضربة الإسرائيلية لإيران    السودان والحرب    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية فائقة الجمال تبهر المتابعين وتخطف الأنظار بتفاعلها مع "عابرة" ملك الطمبور ود النصري    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل زفاف بالقاهرة.. العازف عوض أحمودي يدخل في وصلة رقص هستيرية مع الفنانة هدى عربي على أنغام (ضرب السلاح)    شاهد بالصورة والفيديو.. مطربة أثيوبية تشعل حفل غنائي في أديس أبابا بأغنية الفنانة السودانية منال البدري (راجل التهريب) والجمهور يتساءل: (ليه أغانينا لمن يغنوها الحبش بتطلع رائعة كدة؟)    هل هناك احتمال لحدوث تسرب إشعاع نووي في مصر حال قصف ديمونة؟    ماذا يفعل كبت الدموع بالرجال؟    الإدارة العامة للمباحث الجنائية المركزية تتمكن من الإيقاع بشبكة إجرامية تخصصت فى نهب مصانع العطور بمعاونة المليشيا المتمردة    الصحفية والشاعرة داليا الياس: (عندي حاجز نفسي مع صبغة الشعر عند الرجال!! ولو بقيت منقطها وأرهب من الرهابة ذاتا مابتخش راسي ده!!)    كيم كارداشيان تنتقد "قسوة" إدارة الهجرة الأمريكية    "دم على نهد".. مسلسل جريء يواجه شبح المنع قبل عرضه    التهديد بإغلاق مضيق هرمز يضع الاقتصاد العالمي على "حافة الهاوية"    السلطات السودانية تضع النهاية لمسلسل منزل الكمير    المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شنوا أشيبي والطيب صالح: أيقونتا إفريقيا
نشر في حريات يوم 02 - 04 - 2013

هذان الطودان الراسخان…أتراب… وأرباب قوافي… وأبناء جيل واحد؛…ولد الأول بقرية أوجيدي بإقليم بيافرا مرتع قبيلة الإيبو بجنوب شرق نيجريا عام 1930، وبها ترعرع فى كنف جده، وتشرب ثقافة شعبه الإيبو، رغم أنه أصبح مسيحياً منذ صغره، بعكس جده الذى رباه…والذي لم يعاقر ذلك الدين الجديد…ولكنه تعايش مع معتنقيه من أفراد الأسرة بكل تسامح وأريحية،… وتوفي أشيبي الأسبوع المنصرم بالولايات المتحدة حيث قضى السنوات الثلاث وعشرين الأخيرة من عمره.
وولد الطيب عام 1929 بقرية كرمكول قرب الدبة من أعمال قنتي، وبها ترعرع فى كنف أهله البديرية الدهامشة. وذهب أشيبي لمدرسة أم أهيا الداخلية النائية حيث تلقي تعليماً إنجليزياً كأنه فى مدرسة هارو العريقة بريف لندن؛ وكذا الحال بالنسبة للطيب صالح الذى تلقي التعليم الأوسط ببورتسودان والثانوي بوادي سيدنا – توأم أم أهيا – ومن ثم تم قبوله بعلوم كلية الخرطوم الجامعية…. حيث لم يطب له المقام…وكان يتردد على كلية الآداب ويحضر حصص الأدب الإنجليزي علي أيدي دكاترة إنجليز فطاحل، ثم ترك الجامعة بعد سنة وعمل بالتدريس..وأُُرسل لكلية السنتين ببخت الرضا، وبعد ذلك قبلته البي بي سي مذيعاً بها عام 1954… وذهب ليقيم بلندن ويعمل…ويحصل علي إجازة فى الأدب من إحدى جامعاتها …ويكتب بين الفينة والأخري… حتى توفاه الله عام 2009. ولقد تكرر نفس المشهد مع أشيبي الذى حاز علي منحة لدراسة الطب بكلية إبادان، ولكنه بعد ذلك بعام قلب ظهر المجن للطب وللscience وتحول لكلية الآداب حيث درس اللغة والأدب الإنجليزي؛ وبعد التخرج عمل بالتدريس لوقت قصير ثم التحق بإذاعة إنوقو بشرق نيجريا محرراً وكاتب سيناريو؛ وفى عام 1956 أرسل إلي بريطانيا فى بعثة تدريبية بالبي بي سي، و لا بد أنه التقي الطيب الذى كان فى تلك اللحظة رئيساً لقسم الدراما بالبي بي سي العربية داخل بوش هاوس مبني هيئة الإذاعة البريطانية بلندن.
ورغم أن أشيبي كتب باللغة الإنجليزية المتأثرة بموروث الإيبو…
(وقال عن تطويعه للغة الإنجليزية:We will do with the English language things unheard of)
… ورغم أن الطيب كتب بالعربية المتأثرة بالإنجليزية، إلا أن العديد من القواسم المشتركة العظمي تجمعهما: فقد تميزت كتاباتهما بالسهل الممتنع، وبالإقتصاد فى استخدام اللغة، بلا محسنات بديعية غير ضرورية أو تكرار أو حشو أو سرد دائري أو (فى حالة الطيب) أي استخدام للمفعول المطلق. ومنهجهما الفني متأثر بالرواية الإنجليزية ذات التاريخ العريق، وآخذٌ بأحدث معطياتها الواردة فى كتابات جيمس جويس وفرجينيا وولف….وهو تداعي الخواطر stream of cosciousness، … ومتأثر بفنيات السينما – من زوم وفلاش باك – أي عدم التقيد بالسرد الكلاسيكي المتدرج من النقطة “أ” إلي النقطة “ي”…حيث ينتصر البطل ويتزوج البطلة ويهلك الخائن….وتقنية السرد غير الكلاسيكي وغير الكرونولوجي هي نفس التقنية التي كانت إميلي برونتي الروائية اليوركشيرية الإنجليزية (ت 1848) قد استخدمتها فى (مرتفعات وذرنق Wuthering Heights) فى القرن التاسع عشر، وكان قد لامسها قبل ذلك مؤسس الأدب الروسي الإسكندر بوشكين (ت 1837).
ولقد تميز الكاتبان بالحس الشاعري المرهف؛ (سطّر اشيبي العديد من القصائد، وصدر له ديوان شعر عام 1971 بعنوان Beware Soul Brother)، بينما كان الطيب عاشقاً للمتنبي وذى الرمة وشكسبير وكريستوفر مارلو والشعراء الرومانسيين الإنجليز، ويعتبر نثره شعراً…من حيث الاستخدام العبقري للموسيقي الداخلية والجناس والطباق وكافة أنواع الإستعارات والاستخدامات المجازية. وتميز الكاتبان بانفعالهما بقضايا شعبيهما، بدون تشنج أو لغة هتافية غوغائية، إنما بإماطة اللثام عن الأصالة فى ثقافاتهما المحلية الوطنية…والدفاع عنها باعتبارها نداً كفؤاً للثقافة الغربية الوافدة مع المستعر، بدون الرفض الصمدي لمعطيات الثقافة الغربية…بل الأخذ بما فيها من خير وتعليم وتكنولوجيا، دون الذوبان فيها وفقدان الهوية والشخصية والأصالة. وتميز كلاهما بالإنحياز للموقف الوطني العام المعادي للإمبريالية، دون التحزب الصريح أو الإنتماء لهذا التيار السياسي أو ذاك، باستثناء أشيبي الذى انضم لحزب التحرير البيافري الماوي المتطرف بزعامة أيجوكوو إبان الحرب التي دارت بإقليمه بيافرا 1967 – 1970، ولكنه فى نهاية تلك الفترة كفر بالحزبية مرة أخري وابتعد عن الساحة السياسية، وقال عن القادة الثوريين الماويين إنهم كالبرجوازيين أعدائهم من حيث اللهث وراء السلطة والبطش بالخصوم والبحث عن المنفعة الذاتية والضمور التام فى الوطنية والتجرد…وآثر الانخراط فى العمل الأكاديمي البحت، ثم عاد فى 1976 لنيجريا بعد أن عمل بالتدريس بالجامعات الأمريكية لبضع سنوات، ليصبح بروفيسيراً بجامعة نيجريا ويترأس تحرير مجلة “أواندي إيبو” واتحاد الكتاب، ويصبح نائباً لرئيس حزب الإنقاذ الشعبي People's Redemption Party.
وتميز كلاهما بعدم الإسهاب وعدم الإكثار من إصدار الأعمال: كتب الطيب فقط عرس الزين وموسم الهجرة إلي الشمال وبندر شاه، بفرعيها ضو البيت ومريود، وبضع قصص قصيرة مثل: نخلة على الجدول ودومة ود حامد، ما بين 1957 و1972، ثم كتب مقالات قصيرة أسبوعية – صفحة واحدة – بمجلة “المجلة”.
ونفس الشيء بالنسبة لشنوا أشيبي الذي كتب:
Things Fall Apart 1958 الأشياء تتداعي
No Longer at Ease 1960 ما عدنا متمهّلين
Arrow of God 1964 سهم الرب
A Man of the People 1966 رجل الشعب
Anthills of the Savanah 1987 بيوت النمل السافانيي
بالإضافة للمقالات والأشعار، ثم ختم حياته بالسيرة التى صدرت بآخر العام المنصرم بعنوان There was a Country التى حكي فيها قصة حياته متداخلة مع صيرورة الحرب فى إقليم بيافرا ومعاناة أهله الإيبو منذ عام 1966 عندما بدأت المجازر التى استهدفتهم فى كل أنحاء نيجريا، إلي أن أستقر بهم المقام فى منطقتهم بيافرا التى هاجروا لها فراراً من المجازر الجماعية – البوقرومز – التى استهدفتهم فى الشمال والغرب…وإلي أن نشبت الحرب الشرسة بينهم والجيش النيجريي لثلاث سنوات تخللتها مجاعة فظيعة…وانتهت بهزيمتهم وكسرهم وإخضاعهم الكامل للحكومة الإتحادية فى لاقوس…(وقد انتهت الحرب، ولكن مشكلة أقلية الإيبو ذات الثمانية مليون نسمة لم تنته حتى اليوم…كأنك ضمدت جرحاً فوق صديده..ومصيرهم الانفصال كجنوب السودان).
وأهم شيء ميّز هذين العملاقين الإفريقيين أن لكل منهما فنه وأسلوبه المتفرد الخاص به الذى جعل رواياته تترجم لعشرات اللغات وتدرس فى معظم جامعات الدنيا، ولقد تعرفت البشرية على الثقافات الإفريقية شامخة الأنف من خلال أعمالهما، وفى نفس الوقت مسّت كتاباتهما شغاف النفس البشرية ورسخت فيها أجمل المشاعر الإنسانية المشتركة بين الشعوب، فتخطت حواجز المحلية الخادعة التي تطالعك فى رواياتهما وهي تحكي عن شخوص قرويين بود حامد وكرمكول أو بتلك القري النائية بجنوب شرق نيجريا….إذ تجاوزت رواياتهما المحلية المنغلقة وخاطبت بنى البشر فى جميع الأماكن والأزمان … وحققت الخلود…وانتشرت كنسائم عابرة للقارات والثقافات…وبلغت العالمية بحق وحقيق… وكانت ملهمة للمناضلين ضد الاستعمار والهيمنة وضد الفساد المحلي والوافد…إذ قال أشيبي :
“What literature should be about: right and just causes."
وقال عن رسالة الأدب:
“It begins as an adventure in self-discovery...and ends in wisdom and humane conscience."
ويكفي أشيبي ما قاله نيلسون مانديلا عن أدبه الذى تناهي إليه فى عتمة السجن بجزيرة روبن:
“ There was a writer named Chinua Achebe in whose company the prison walls fell down."
ولقد حققا نبوءة الراوي الناطق بإسم الطيب فى “موسم الهجرة”:
(أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي، فينبع ويثمر. ثمة آفاق كثيرة لا بد أن تزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف…كتب كثيرة تقرأ…وصفحات بيضاء في سجل العمر…سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء.) “الأعمال الكاملة – دار العودة بيروت – ص 15″
ولم يصنّف أي منهما أسفاره بهدف الكسب المادي، إذ فارقا هذه الدنيا ولم يتركا من عرضها ما يتقاسمه الوارثون، ولكنهما حتي الرمق الأخير كانا يحاضران بالجامعات وبالمنتديات المحلية والإقليمية والدولية…ويشاركان فى الحوارات التلفازية، وينشران عبير الأدب ونفحات الشعر بين قرائهم ومعجبيهم فى كل أرجاء المعمورة، وكانا ثريين بحب الناس لهما…وعاشا حياة متنوعة ومتجددة وعامرة بالمساهمة فى إرساء دعائم الأدب الإفريقي والأدب العالمي.
ويرد الكاتبان علي الدعاوي الاستعلائية الواردة فى كتابات الغربيين التى تناولت الحالة الإفريقية، مثل “قلب الظلام” لجوزيف كونراد Heart of Darkness - ولقد جاء ذلك فى محاضرة تاريخية ألقاها أشيبي عن كونراد عام 1972 بجامعة أمهيرست بماساسوشتس بامريكا – كما جاء في توصيف كل من أشيبي والطيب للقرية التى تجسد التوازن والطمأنينة والتصالح مع النفس والعمل الشاق لسؤدد وازدهار الأسرة المتماسكة…والمرجعية الفلسفية المتكاملة لأهداف العيش فى تلك البيئة…ونوازع الخير ومكافحة الشر…والتعاون والتضامن بين سكانها من أجل المنافع المشتركة بين الجميع…سواء كان ذلك فى دومة ود حامد التى وصفها الطيب صالح فى رواياته التى تكاد تكون فصولاً من مسلسل واحد…أو فى روايات شنوا أشيبي التى تتبع نفس المنهج التسلسلي…حيث تتداخل القصص مع بعضها البعض من حيث الشخوص والبيئة والفنيات….ففي “الأشياء تتداعي” نجد قرية أم أوفيا بمجتمعها المنسجم والمعافى، فى إطار التقسيم العادل للمهام والمسؤوليات بين مجلس الحكماء كبار السن والكجور oracle أي المؤسسة الدينية التقليدية التى ليست لها مرجعية غير الآباء والجدود المقيمين فى العالم الآخر…نجد مجتمعاً له حضارته الخاصة وطريقته فى كسب العيش وفى ممارسة الحياة…وليس كياناً هلامياً بلا هوية أو أهداف يتوجب إلغاء تاريخه وتشريبه ديناً وثقافة جديدة…أي المسيحية والحضارة الغربية فى أحدث تجلياتها…وكان ذلك فى نهاية القرن التاسع عشر، فى أعقاب مؤتمر برلين 1885 الذى تقاسمت فيه الدول الأوروبية قارتي إفريقيا وآسيا كمستعمرات ومناطق نفوذ، مع بداية التبشير المسيحي والتسلل الإستعماري البريطاني لنيجريا والدول المحيطة بها…وركزت “الأشياء تتداعي” على إشكاليات اللقاء الأول بين الحضارتين الأوروبية المسيحية…والإفريقية…وعلي الفهم المغلوط الذى تعامل به الأوروبيون مع هذه الشعوب المقهورة…وعلي الجهل العميق المختبئ وراء الإدعاء الأوروبي بأن الرجل الأبيض هو صاحب الحضارة الأفضل واليد العليا …الذى يتعين عليه الأخذ بيد أخيه الأصغر الإفريقي…الضعيف والمفلس مادياً وثقافياً وروحياً…وما ذلك في حقيقة الأمر إلا غطاء ماكر لنهب الثروات واستغلال الكادحين الأفارقة كأيدي عاملةً.
ويلحق أشيبي هذه الرواية بعد ذلك بسنتين ب”No Longer at Ease“، وشخصيتها الأولي أوبي حفيد أوكنكوو بطل “الأشياء تتداعي”، وقد ذهب الحفيد لإنجلترا مبعوثاً …وعاد لقريته موظفاً محترماً بالحكومة، ولكنه لم يضع الرحمن فى قلبه، فما كاد يستقر بموقعه الجديد حتى امتدت يده للرشوة وانتهي به الأمر مجرجراً فى المحاكم لجريمة تافهة كهذه، بينما كان جده قد إرتكب جريمة “وطنية”…إذ حاول أن يحرض أهله علي الثورة ضد الإنجليز لأنهم استعمروا بلاده وفرضوا إرادتهم … فقام أهل أم أوفيا بقيادة أوكنكوو بحرق كنيسة بناها الإنجليز بالقرية، ولما جاءت فرقة من الإداريين الانجليز لتحقق فى الأمر ضرب أوكنكوو أحدهم وأرداه قتيلا، وذهب لبيته لأن الباقين توجسوا خيفة وتفرقوا ولم يكن لديهم الحماس الكافي لخوض معركة ضد المستعمر. ولما جاءت الشرطة لأخذ أوكنكوو وجدوه قد مات منتحراً… فقد كره الحياة تحت هيمنة الغاصب الجديد… وكره الحياة مع قبيلته التى اتهمها بالخور والعجز…ولكن القبيلة بدورها ترفض الانتحار وتعتبره عين الخور والانكسار، و فى هذه الحالة لا تقام المراسم التقليدية للدفن ويعتبر المنتحر كالخارج عن الملة.
أما الحفيد أوبي فلقد أفسدته الحضارة الأوروبية بما أكسبته من عادات استهلاكية ونوازع تفاخرية ومظاهر طبقية زائفة حاول أن يعيش بها وسط الكادحين الأفارقة، أسوداً متغربناً، ولما لم يمكّنه راتبه من تلبية تلك النوازع والرغبات امتدت يده للمال العام، وهذا هو السر الجوهري وراء الفساد الذى استشرى فى نيجريا منذ الاستقلال عام 1960 (وفى السودان كذلك) والذى تعرض له أشيبي في كل رواياته وكتاباته بعد “الأشياء تتداعي”، فهو يري أن الفساد ليس حكراً علي الطبقات الحاكمة وحدها، ولكن الثقافة الشعبية قد تشجعه فى بعض الأحيان، فالناس لا يسخطون علي الشخص الفاسد، فقط يمقتونه إذا كان ساذجاً ولم يستطع أن يغطي ظهره…وسمح لسرقته أن تنكشف. والناس فى السودان يتفاخرون ب “الهمباتة” و لا يعتبرونهم لصوصاً بل أبطالاً عند ربهم يرزقون…ولصوص الحكومة “الهمباتة الجدد” يعتبرون نسخة محسنة من الهمباتة…والشخص الذى يراكم ثرواته من الاستخدام غير القانوني لجهاز الدولة يعتبرونه “مستنفعاً” و”حريفاً” و “كسّيباً” وتغني له المطربات الشاعرات، أما الشخص الذى يتجنب السحت ويكتفي بالعيش الحلال فهو “أبيض” و”حضيري” و”مغفل”.
ولقد تناول أشيبي الأزمة النيجيرية المستدامة في مقاله المشهور المنشور عام 1983 “The Trouble with Nigeria"
وفى هذه المقالة يتحدث أشيبي عن الأزمات السياسية النيجيرية المتلاحقة وعن الفساد الذى نخر فى قلب المجتمع واستمر لعقود متواصلة بدون أي ضوء فى آخر النفق، ومع ذلك تدّعي النخب السياسية، خاصة المنتمية للشمال المسلم، أنها طاهرة مطهرة…وأنها تبتغي مرضاة الله، وبإسمه تبطش بالإيبو وبالأقليات المسيحية. تماماً كما فعل الإخوان المسلمون فى السودان الذين أثروا علي حساب شعب يتضور جوعاً، وفتكوا بالجنوبيين لأنهم غير مسلمين…إلي أن انفصلوا بجنوبهم…وهم الآن يبطشون بالإثنيات غير العربية الأخري بجنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق؛ ولم يكتب الطيب صالح كثيراً عن الأزمات السودانية فيما بعد الاستقلال، ولكنه لمّح لأن مجتمع كرمكول – كنموذج – جدير بتطوير نفسه بنفسه بعد الاستقلال إذا سارت الأمور بالتوازن والحكمة التى اتسمت بها “العصابة”، أي الطبقة الوسطي الحاكمة، أهل الحل والعقد جمال الشيل، محجوب والطاهر الرواسي وعبد الحفيظ وسعيد عشا البايتات وغيرهم الذين رأيناهم فى “عرس الزين” ورأينا أبناءهم فى “بندر شاه”…. وهو مجتمع جدير بإنتاج الخير الوفير الذى شهده “عام الحنين” عندما فاض الزرع والضرع بأكثر مما كان متوقعاً، وكل ذلك ببركات الصوفي الحنين وحواره الزين، وهما يمثلان دين الشعب المتصالح مع تقاليد القرية وإرث الآباء والجدود، الذى يسمح ببعض المسرة مثل حكاوي بت مجدوب التى شهدناها فى موسم الهجرة تتعاطي شيئاً من الويسكي، كما يسمح بشيء من رقص الفتيات فى عرس الزين…رقص طار منه عقل “الإمام” الذى كان يطمع فى زواج حسنة عروس الزين…(فهو من رهط يحبون ملذات البطن والفرج)…والذى لم يخف غيرته وحقده علي الزين حينما نطق بمكنونات عقله الباطن معلقاً فى صحن المسجد وهو علي وشك أن يعقد القران بأنه كان أصلاً معترضاً علي تلك الزيجة…بيد أن المجتمع عبّر عن استنكاره لسلوك الإمام … وانتهره محجوب وذكره بأن ذلك خروج علي النص غير مبرر: الناس كلهم فرحون بعرس الزين، وليس من حق الإمام أن يفسد عليهم تلك البهجة. والإمام يمثل الفهم الأصولي للإسلام الذى جاء من نفس الكوة التى تسلل منها الإخوان المسلمون وسرقوا السلطة بانقلاب عسكري وبطشوا بأهل الصوفية والدين الشعبي…وجاءوا بدين المتطرفة والخوارج…فقال عنهم الطيب صالح:” من أين أتي هؤلاء؟”. هذا، وقد ورد علي لسان محمود فى “ضو البيت – الجزء الأول من بندر شاه” …(ص 484 – الأعمال الكاملة):
“نحن ناس مسلمين…لكن ما عندنا تشدد في موضوع الدين…كل نفس بما كسبت…والله مخير فى عباده”.
إن شنوا أشيبي الذى رحل عن هذه الفانية بالأسبوع الماضي، والطيب صالح الذى سبقه بثلاث سنوات، عاشا حياة مليئة بالإبداع وحب الآخرين، وتركا وراءهما إرثاً لا يهرم و لا يفني عبر الزمن، نتزود منه حكمة ومعرفة، ونركن إليه بحثاً عن المتعة الوجدانية والروحية حينما يزعزعنا الدهر التماساً لتعسنا ونكسنا…فنتماسك ونقابل جور الزمان بالصمود …فيالهما من ملهمين للخير فى نفس الإنسان…ويالهما من عملاقين خالدين.
والسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.