فى يومٍ كئيب قبل حوالى ربع قرن من زمان أطلّ على الشعب السودانى نظام الإنقاذ بوجهه الحالك حاملاً معه شعاراته الكونية بتصدير الإسلام إلى العالم و إدخال ( الكفرة و المشركين ) فى دين الإسلام و تأسيس دولة العدالة و المساواة و تطبيق قوانين الشريعة السمحاء , مع توفير كل أسباب الرفاهية و الهناء , و بأنهم سوف يجعلون من السودان المدينة الفاضلة التى لا توجد إلاّ فى أوهام الفلاسفة و خيال الشعراء , رافعين فى نفس الوقت شعارات غاية فى التطرف و الغلظة مثل : ( فى سبيل الله قمنا نبتغى رفع اللواء** لا لدنيا قد عملنا , نحن للدين فداء ** فاليعد للدين مجده , أو ترق منا الدماء , أو ترق منهم دماء , او ترق كل الدماء ) . متوعدين أعظم قوتين فى العالم بالهلاك و الزوال و المحو من الخارطة الكونية ( أمريكا , روسيا قد دنا عذابها , و الأمريكان ليكم تدربنا … و لن نركع لغير الله …إلخ) . تحيطهم آلة إعلامية جبارة و تقودهم شيوخ باعوا آخرتهم بدنياهم وبرعوا فى التضليل و بيع الوهم , و محروسون بشبابٍ غرٍ مفتون أطلقوا عليهم أسماء المجاهدين و الدبابين و هم عن ( قتل النفس التى حرّم الله إلاّ بالحق ) لا يتورعون . لكن من البداهة إنّ من يفتح بلاد الآخرين و يغزوها بالسلم أو بالحرب و يصدر بضاعتة لابد أن يكون قد صان حدود بلاده و وفّر لشعبه كل شىء ( أطعمهم من جوعٍ و آمنهم من خوف ) ثم يصدر ما فاض عن حاجته , إلاّ أنّ رجال العهد الجديد فى اليوم التالى مباشرة سيطرت عليهم عقلية الغنائم فى غزوة أحُد و سادت سلوكهم ثقافة التمكين و أخلاق رجال السوق الذين يحلون بيع كل شىء وصولاً إلى الهدف الأسمى فى تخطيطهم من أجل الثراء السريع و الفاحش ثم قيادة الآخرين إلى هاوية المشروع الحضارى و قِرار التفتت و التفكك القومى و تمزيق الوطن وبيع أجزاءه فى سبيل البقاء على الكرسى الوثير و الإستئثار بالسلطة و الجاه على الرغم مما صدّعوا به رؤوسنا بشعارات الزهد و التفانى ( لا للسلطة و لا للجاه , هى لله هى لله ) . بهذه الشعارات الجوفاء و غيرها من وعود السراب و الحور العين ساقوا المساكين إلى أتون الحرب فى الجنوب تحت تخديرهم بنيل الشهادة و الظفر بالحور العين و جنة الفردوس و لم تكد قافلة ( العابدين ) تسير فى طريقها عامين حتى ظهرت الخلافات بين اللصوص فى توزيع الغنائم و نسوا و تناسوا امر الوطن و المواطن الذى عمدوا إلى تشريده بقانون الصالح العام فأضاعوا ثمين الوقت فى صراعات الأجنحة و مراكز القوة إنتهى بهم إلى مفاصلتهم الشهيرة فمزقوا وحدتهم أولاً , ثم بدأوا فى تمزيق الوطن و تفتيته من خلال إتفاقية نيفاشا الكارثية و التى حملت معها المستقبل المشئوم بذهاب جزء عزيز من الوطن بكل ما فيه و من فيه , فذهب ( الجمل بما حمل ) . و ما بين مجيىء الإنقاذ و إنفصال الجنوب ضاعت أجزاء أخرى من الوطن شمالاً ( حلايب و شلاتين ) , و شرقاً (الفشقة ) , فضلاً أن إستعار الحروبات فى كل الإتجاهات غرباً فى دارفور حصدت قرابة النصف مليون قتيل و ملايين المشردين و اللاجئين مع تدمير الممتلكات بالمليارات , ثم شرقاً , وجنوب النيل الأزرق و كردفان و كذلك شمالاً فى ارض المناصير حيث السد الدعائى الهلامى و الذى إتضح مقدار الغش و العبث و سوء النية فى إنشاءه فأصبح وبالاً على الشعب حاضرأ و مستقبلاً بتكبيله بالديون و ربما الإبتزاز . ثم أنظر يا صديقى إلى جسد الوطن المباح للأعداء صباح مساء , براً و بحراً و جواً لقد صمتوا صمت القبور عن حلايب و شلاتين و الفشقة و إذا أشار محدثهم تتمنى لو أنه لم يتكلم لآنه يقول لك هذه حدود صنعها المستعمر , و حلايب و شلاتين منطقة تكامل بين الشعبين .. و إحنا و المصريين حبايب ووإلخ . إذن نريد تفسيراً لهذا المنطق و هذه الإزدواجية لماذا ترك حلايب للمصريين ( وطنية ) و ترك هجليج لإخوتنا الجنوبيين ( خيانة ) ؟ بعد زيارة الرئيس المصرى محمد مرسى الأخيرة ثم الإشارة إلى مسألة حلايب من ( طرفٍ خفى ) عن طريق المساعد الرئاسى موسى محمد أحمد هاج الإعلام المصرى الذى لا يفوّت أى فرصة لإثارة القضية فى الصحافة و فى كل البرامج التلفزيونية و الكوميدية حتى ظهر الكوميدى الساخر أحمد آدم يقول ( عمك البشير يقول حلايب و شلاتين هترجع للسودان , طيب السودانيين فرطوا فى نصفهم اللى تحت و جايين يبصبصوا لينا فى النصف اللى فوق , يا عم أنت وحّد السودان أولاً ثم تعال إتكلم عن حلايب و شلاتين ) .. أنظر يا صديقى إلى مستوى الإساءة و التجريح فى صميم العبارة , أىّ ذلٍ و أىّ هوان و أىّ إزدراء ؟؟ و بعد كل هذا الهوان تجد ( الوطنيون صامتون ) و هم الذين إستخرجوا لنا بالأمس شهاداتٍ للوطنية بإسم تحرير هجليج من إحتلال ( دولة غازية ) . إذا كان المنطق يقول لا يستطيع أى شخص أن يعتلى ظهرك إلاّ إذا كنت منحنياً فنظام الإنقاذ ليس منحنيأ فقط بل منبطحاً و مستسلم على الآخر فماذا تتوقع النتيجة إذن ؟ لقد تم بتر الجنوب و المغفلين أقصد ( الإنتباهيين ) يؤيدون و المجاهدين ( يتفرجون ) , و أُحتلّت حلايب و شلاتين و الدبابين ( يصطبرون ) , و ذهبت الفشقة و الدفاع الشعبى ( سائحون ) و أخيراً وليس آخراً ضُربت الخرطوم و الرباطة ( ينجحرون ) إن مشكلة حلايب و شلاتين فقط بعد زيارة الرئيس مرسى كشفت السقوط المدوى فى إمتحان الوطنية لنظام الإنقاذ و مستوى الجبن و الخور وعقدة الدونية الذى يسكن قادته و الذين لا يستأسدون إلاّ على هذا الشعب الكريم الأبى . أما جحيم الأسعار فهى بلا حدود فى بلدٍ ( كل شيىءٍ غلا فى سوقه ثمناً إلا إبن آدم أضحى غير ذى ثمن ) و إذا نظرت إلى التلفاز ترى و كأن البلد أصبح جنة الرحمن حيث يتسابقون فى الكذب و التضليل و تزيين القبح ليظهرون لنا جمالاً غير موجود فى الواقع و لكن أن يحكم الجهل أرضاً كيف ينقذها **خيطٌ من النور وسط الليل ينحسر من أين تأتى لوجه القبح مكرمةٌ ** وأنهر الملح هل ينمو بها الشجر؟؟ إن عمر الإنقاذ يعتبر بحق عمرٌ من الحزن لهذا الوطن ضاعت معه أحلام الأجيال و توارت معه آمال الطموحين , و دُفنت تحت جدرانه أشواق الشعب السودانى للحياة الهانئة و العيش الكريم و أصبحت كلمة ( وطن ) كأنها تسابيح شوقٍ لعمرٍ جميل . فإذا رأيت نظام حكمٍ إكتفت بالتنظير و الكلام عن الفعل و التطبيق , و بالصراعات الداخلية عن العمل و الإنتاج , و بالجدل و البراغماتية عن الهيبة و الشفافية فأقرأ عليه الفاتحة