رغم ظواهر الحرب وعدم الاستقرار السياسي والمجاعات والفقر التي طبعت تاريخ بلادنا ما بعد الاستقلال ، الا أنه كذلك للسودان (ميزة) عصية على التجاهل، وعسيرة على التفسير! ربما نتيجة مزيج استثنائي للتاريخ والجغرافيا والانسان والسياسة ،تاريخ آلاف السنين من الحضارة ، وجغرافيا مفتوحة تنتج التلاقح والمثاقفة ، وسياسة لم تعرف سلطة مركزية كمثيلاتها في المنطقة ، تطأ المجتمع حتى تسحق حريته وحيويته ، وانسان عزيز النفس لايرضي الضيم او المهادنة ، وكذلك انسان هو الاكثر قبولا للجديد وللتجريب ! وهكذا ،ورغم كل شئ ، فان السودان استثناء في المنطقة. أترى مصادفة ان بلادنا الوحيدة في المنطقة العربية الاسلامية التي اسقطت بانتفاضتين شعبيتين نظامين استبدادين؟! بل ان انظمتنا الاستبدادية والقمعيةلايمكن مقارنتها بمثيلاتها في المنطقة !..أتري مصادفة ان الشهيد عبدالخالق محجوب كان من أميز الماركسيين في المنطقة ؟! وأن الدكتور حسن الترابي لا يمكن مقارنته من حيث القدرات الفكرية والفقهية بغيره من قادة الحركات الاسلامية الأخري ؟! وان الامام الصادق المهدي يشكل قامة فكرية أعلي وبكثير من علماء الدين في أرفع الموسسات الدينية في المنطقة ؟!…، بل واقول وبكل اطمئنان ان الاستاذ/ محمود محمد طه ، يظهر عملاقاً يعز نظيره حين يقارن بامثاله من رموز التجديد الديني والاستنارة في العالم الاسلامي، سواء على عبد الرازق ، طه حسين ، حسين أحمد أمين ، العشماوي ، الجابري ، اركون ، أو نصر حامد ابوزيد ،يعز نظيره من حيث الاتساق الفكري، ومن حيث عمق التجديد ومداه وشموله، والاهم يعز نظيره من حيث الاتساق الاخلاقي ومن حيث الشجاعة في الصدع بالرأى والثبات عليه .. وتأمل نصر ابو زيد في هذا الاتساق, وقد كفرته قوي الهوس الديني وضغطت للتفريق بينه وبين زوجته، فهاجر من موطنه – مصر – إلى هولندا، فكان كلما حزب عليه الامر وأعترته نوازع الضعف الانساني، وهي نوازع قادت طه حسين إلي التراجع واعادة طبع كتابه عن الشعر الجاهلي مع حذف المقاطع غير المرغوبة !ّ وقادت على عبد الرازق إلى استرضاء شيوخ الازهر ! ولكن نصر حامد ابوزيد كان يستشعر القوة والمدد وهو يسترجع انموذج الاستاذ/ محمود محمد طه، فقد كان جلادوه ينتظرون منه مجرد إيماءة ليتراجعوا عن إعدامه المأزق، ولكنه قدم أنموذجاً لا يضاهي لكرامة الفكر ولاستقامة المفكر، فلا سلطان على الفكر سوى المحاججة والبرهان، وأما سلطان ارهاب السنان فقد قدم في مواجهته روحه وهو يبتسم!.. فأى طاقة غرائبية هذه التي توقد هذه البلاد الفقيرة الجاهلة المسماة السودان ؟! عن هذا السؤال أجاب الاستاذ/محمود نفسه فقال (ان السودان مركز دائرة الوجود) ! وقد دفع الاستاذ محمود بحياته وإستشهاده السودان إلى مركز دائرة الوجود الإنساني! كان يدعو إلى السلام والحرية ، وقال بأن الانسان الحر ، إنما هو الانسان الذي يفكر كما يريد ، ويقول كما يفكر ، ويفعل كما يقول ، ثم لاتكون عاقبة فعله إلا خيرا وبرا بالاحياءوالاشياء.. ولذا علم تلاميذه إلا يطأوا بإرجلهم على (النجيلة) ولأنه لا يطأ على النجيلة، فقد نذر نفسه كي يتحرر كل انسان من الخوف فلا يطأطئ رأسه إلا تواضعاً ! وكان قليلا ما يغضب ، ولكنه غضب على ابنته الفضلي أسماء حين وطأت غير عامدة على حبات عيش ! أما هو فلم يطأ شيئا سوى الارض والخوف ، ومن باب أولي، لم يطأ على انسان ابدا، الانسان عنده غاية كل شئ ..ولانه لايخاف، فلم يتسلح ابدا سوي بالفكر، ولذا ،وطوال تاريخ حياته لم يدبر انقلاباَ، ولم يشن تمردا ، ولم يعبئ مؤيديه لحرب، ولم يسلح ولم يدرب ولم يحرض على عنف ابدا!.. وهكذا كان اغتياله واقعة صافية، دون أى لبس، لاضطهاد الفكر ولغمط حرية الاعتقاد والتعبير . واغتيل الاستاذ/ محمود في 18 يناير 1985 ! ولكن أترى مصادفة، انه اغتيل في الثامن عشر من الشهر، ليشكل اغتياله انتهاكاً صريحاً وصارخاً وأنموذجا للمادة الثامنة عشرة من ميثاق حقوق الانسان ؟! المادة التي تنص على حرية الضمير ، وحرية الاعتقاد ، بما في ذلك حرية تغيير المعتقد ؟! العارفون لا يقولون بالصدفة أبدا ، وأنا معهم ، أقله في هذه الواقعة الاستثنانية ! وهكذا ، فإن الاستاذ محمود محمد طه، الوحيد من مفكري الازمنة الحديثة ،الذى إغتيل بلا سبب سوى أفكاره ، كأنما المادة الثامنة عشر من ميثاق حقوق الانسان ، وهي روح الميثاق، قد صيغت خصيصا لأجله ! ويكفي هذا السبب وحده، دع عنك أفكاره وحياته، كي يتربع الاستاذ محمود على عرش عظماء الانسانية المعاصرة : المهاتما غاندي، ومارتن لوثر كنج، ونيلسون مانديلا.. واذ يتربع الاستاذ/ محمود في قمة الذري الانسانية ، فإنه في ذات الوقت ، يرفع معه بلاده الجاهلة والفقيرة – السودان – إلي الذري السامقة ، وإلي مركز دائرة الوجود الانساني .. فياله من فداء وياله من عريس !