انشغلت عن كتابة موضوع الأربعاء الماضي بحضور ندوة علمية بالدوحة عقدتها شعبة الاجتماع والأنثربولجيا بجامعة قطر عنوانها "مسائل شاغلة في علم الاجتماع: النظرية، والمنهج، وطرائق التبليغ". وقدمت فيها ورقة عن الأستاذ محمود محمد طه وخطاب الحداثة. فقد استرعت انتباهي الصورة المتناقضة التي تكونت للحداثيين عن محمود. فهم يرفعونه إلى أعلى عليين لوقفته الشجاعة في وجه الموت طلباً للحقيقة في 1985م، ولكنهم يهبطون به إلى أسفل سافلين متى ذكروا له قيادته لثورة بلدة رفاعة في 1946م، ضد القانون الذي أصدره المجلس الاستشاري لشمال السودان فجعل الخفاض الفرعوني جريمة يعاقب عليها القانون. وصبر الحداثيين الطويل على هذا الفتق في صورة الرجل لا يدل إن دل على شيء سوى شيزوفرانيا ثقافية تنتطح فيها الحداثة والتقليد نطح العنزين السرمدي. وقد آزرني في الكشف عن هذا الصداع الحداثي أرشيف ثورة رفاعة الذي سهر على تجميعه الدكتور عبد الله عثمان بالإنترنت وكتاب صدر حديثاً للأنثربولجية الكندية جانس بودي عنوانه "صناعة تمدين النساء: حملات بريطانيا الصليبية في السودان المٌستَعمر". فقد وفر عبد الله عثمان مادة لا تصلح الكتابة عن محمود ورفاعة بغيرها مثل رد محمود على طلاب معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم في 1975 عن مغزى قيادته لثورة البلدة. كما أعانتني بودي بعرضها الوثائقي الصميم لأقف على اضطراب المستعمرين حول ما ينبغي عمله حيال الخفاض الفرعوني. وطورت بذلك مفهومي بأن حداثة المستعمرين مجرد هراء. "كفى عن نفسي" كما يقول الخواجات متى أطالوا حديثهم عن الذات الفانية. ولنتحدث عمن لقيت وبمن انتفعت. فقد اسعدني الحظ بلقاء البروفيسور أحمد ابوزيد أستاذ علم الأنثربولجيا ومؤسس شعبتها بجامعة الإسكندرية العام 1974م، وشعبة الرجل (وهي الأولى في مصر) بذلك أكثر شباباً من شعبتنا بجامعة الخرطوم التي احتفلنا بعيدها الذهبي منذ أسبوعين أو نحوه. سمعت بالرجل كثيراً واعترف بأنني لم اقرأ له. وجاءنا (وقد بلغ خريف الثمانين كما قال) في الدوحة محمولاً على كرسي على دفته حفيدته الصغيرة الحسناء. وكان الرجل صورة وصوتاً متى تكلم او تحرك. يا صلاة النبي. تتلمذ بروفسير أبو زيد على يد أساطين علم الأنثربولجيا ممن درسوا في الثلاثينات والأربعينات بالإسكندرية والقاهرة. فقرأ على زعيم مدرسة الوظيفية البنيوية أو التركيبية. ثم على يد إيفانز - برتشارد صاحب الكتب المشهورة عن الزاندي والنوير والسنوسية في ليبيا. والمعروف أن إيفانز- برتشارد جاء إلى السودان في عهد الاستعمار في وظيفة سخيفة اسمها "أنثربولجي الحكومة". وكانت مهمته أن ينفذ إلى حيوات شعوب جنوبية ثائرة على الحكومة وسياساتها لكي يعين الحكومة على فك شفرة حياة حتى تلين تلك الجماعات ويسلس قيادها. فهو قد دخل على شعب النوير دارساً بينما كانت طائرات السلاح الملكي البريطاني تصليهم وابلاً من قنابلها لكسر شوكة "انبيائهم" الثائرين. ومن الغريب أن تخرج من هذه المهمة الوضيعة كتب لإيفانز-برتشارد أخذت بلب علماء الاجتماع أخذاً شديداً حتى يومنا. وربما بقي من وخذ وضاعة المهمة وميض لأن أبوزيد قال إن من ضمن ما كان برتشارد يوصيهم به هو أن لا يحتلوا منصب "أنثربولوجي الحكومة" أبداً. ما خفي عليّ حتى لقائي بأبي زيد هو علاقاته السودانية الأكاديمية والشخصية. فقد التقى في جامعة أكسفورد في آخر الأربعينات وبداية الخمسينات بالسيد محمد عثمان يسن وجمال محمد احمد. ويذكرهما بود شديد. وأقول استطراداً أن الدكتور جلال أمين (ابن العالم المعروف احمد أمين) ذكر كتاب جمال المعنون "الجذور الثقافية للقومية المصرية" بعرفان شديد ككتاب صغير ذكي ونافذ وغامض. واتفقت معه. فقد درست أجزاء منه على طلاب التاريخ بجامعة الخرطوم كمساعد تدريس لبروفيسور شبيكة ومنهاجه عن تاريخ وادي النيل. وذكر أبوزيد من المعارف السيد مكي عباس صاحب كتاب "مسألة السودان" جيد التأليف، ومدير مشروع الجزيرة في طور من حياته، ثم ترحلت به خبرته في بقاع العالم. وقال أبوزيد عنه إنه حظي برعاية الدكتورة مارقريت برهام بجامعة أكسفورد وهي استعمارية حتى نخاعها ناصحة للإداريين الإنجليز من أمثال دوقلاس نيوبولد السكرتير الإداري في السودان حتى توفى فيه عام 1945م، وقد لاحظت في وثائق أرشيف السودان بجامعة درهام أنه كان من بين الإداريين الإنجليز من كره تعلق برهام بمكي عباس لأن كثرة "الدلع" قد أفسدته. وقد أحزنني دائماً استغلاق مكي علينا وغيبته عن مجرى نظرنا الثقافي. بل وأزعجني دائماً أنه مات مستوحشاً جداً كما روى لنا راو. وآمل أن أجد الوقت للكتابة عنه في إطار فكرتي عن رموز الفكر الليبرالي الغربي في السودان ومحنتهم وعزلتهم ووحشتهم. وقد نبهني إلى ذلك معاوية نور بسيرته في الكتابة والحياة. أما عمل أبي زيد الاجتماعي الميداني في السودان فجديد علىَّ جداً وربما على زملاء أقرب مني إلى مهنة الأنثربولجيا. فقد قال إن إيفانز-برتشارد بعث به ليدرس النوير والزاندي مقتفياً أثره. وهذا سبب تعرفه عن كثب على الدكتور محيي الدين صابر الذي تخصص في دراسة الزاندي وله كتاب عنهم. وقال إنه نشر بعض أبحاثه عن الجنوب في مطبوع صدر عن معهد الدراسات الجنائية (لو صح سمعي) بمصر والمجلة الاجتماعية القومية في سنيّ السبعين. وسيكون ممتعاً في مناسبة العيد الذهبي لشعبتنا أن نلم شعث إيفانز - برتشارد فينا بالعثور على كتابات أحد حوارييه. أثار أبوزيد في كلمة حفاوته بجائزة ابن خلدون فكرة استأثرت بمداولات ندوة الدوحة. فقد قال بضرروة أن نؤسس لعلم اجتماع يبدأ بابن خلدون. فقد بدأ بالرجل حتى علم الاجتماع الغربي. ففكرته عن العصبية (بسَّطها ابوزيد بقوله "أنا على ابن عمي وأنا ابن عمي على الغريب") قد أخذها بروفسير سميث في كتابه "القرابة في بلاد العرب القديمة" وتلقاها عنه إيفانز- برتشارد في كتابه "النوير" الذي أطبقت الآفاق العلمية بشهرته. ثم نوه أبوزيد بالعالم البيروني وقال إن كتابته مثل جيد على العمل الميداني الذي هو عماد علم الأنثربولجيا. وأنا شديد الظنة في مثل هذه الدعوة التي لم ننفذ منها إلى شيء من تنوير على قدمها. وقال الدكتور محمد محيي الدين من مصر إنه اصبح يحبط كلما دعا الداعي لها. وقد طلبت بصورة جذرية في الندوة أن نتفكر إن كنا نريد أن يكون لنا علم اجتماع في نهاية المطاف أم أن علم المستضعفين (المدروسين أو المبحوثين تاريخياً بواسطة علم الاجتماع الغربي) سيكون علماً مختلفاً جدا ما خطر على بال بشر بعد. رأت قطر تكريم الرجل في خريف ثمانينيته ليكون الفائز الأول بجائزة ابن خلدون لعلم الاجتماع المبتكرة. أنهى أبوزيد كلمته الحفية بالجائزة كما ينبغي لإنسان عالم، ذرب، مصقع مثله أن يخلص إلى الأمر. قال إن الدنيا تعبس في وجوه العرب والمسلمين فتطأنا بميسم وتضرسنا بأنيابها. وكل ما طاف به هواننا على الناس تذكر أغنية من أيام شبابه للمغنية الأمريكية دوريس دي: ما سيكون سيكون فالمستقبل ليس ملكاً لنا لنراه What will be will be The future is not ours to see وقال في ختام كلمته: "مهما يكن من أمر فالعلم نور".