[email protected] قيل أن الخليفة هارون الرشيد خرج ليلاً يتجول فى قصره , إذ مرّ بجارية له عليها كساء خزّ تسحب أذيالها و تتمايل من السُكر , فطلبها الخليفة لكنها تمنّعت و رفضت , فحاول الإمساك بها فسقطت رداءها و إنحلّت إزارها فهربت و هى تقول للخليفة : الوعد بيننا يوم غدٍ , و عندما أصبح الصبح جدّ الخليفة فى طلبها فوجدها و عندما سألها إيفاء الوعد , قالت : يا أمير المؤمنين , أما علمت بأن كلام الليل يمحوه النهار ؟ و بهذا إستطاعت الجارية الذكية التنصل من وعدها بمكرٍ و دهاء دون أن ينالها أىّ نوع من العتاب فصارت عبارة ( كلام الليل يمحوه النهار ) مثلاً فى نقض العهد و الميثاق يتحايل بها الناكصون للعهود , لكن إذا كانت الجارية المخمورة تمزح فى وعدٍ غرامى مع رجلٍ صبٍّ مستهام فكيف يجوز ذلك من رجل هو رئيس البلاد و كبير القوم و ( أمير المؤمنين ) لدولة الخلافة الإسلامية بخط الإستواء ؟؟ إن كلُّ كلمة يتفوه بها أو أىّ قرار يصدره له عميق الأثر بمصير دولة و حاضر أمة و مستقبل أجيال ؟ , لكن من يتابع سيرة رئيس السودان فى إصدار القرارت المصيرية ثم التنصل منها , و التى تمس كيان السودان الحسى و تتعلق بحياة الشعب و معاشه اليومى يموت من الضحك و لكنه ضحكٌ كالبكاء , ذلك أن الرئيس يصدر أهم قراراته صباحاً لينسفه فى الظهيرة , ثم يصدر آخراً فى ذات الوقت , و ما يلبث أن ينسخه بقرارٍ جديد مساءاً ثم قرار المساء ذاك يمحوه بآخر منتصف الليل , و الذى بدوره مصيره الإلغاء فى اليوم التالى بقرار جديدٍ مضاد و هكذا دواليك , و كل القرارت مصحوبة بالقسم و الطلاق مثنى و ثلاث ورباع حتى يصاب المتابع بالدوار و عدم التركيز من حالة التناقض و تغيير المسارات و كثرة ( اللف و الدوران ) فى مواقف هذا الرئيس الأعجوبة , ففى منتصف التسعينيات عندما جنحت بعض القيادات الجنوبية المنشقة عن القائد قرنق لخيار السلام مع النظام , قال البشير إنه لا يصافح الخونة الكفار , لكنه بعد قليل إحتضنهم فى القصر الجمهورى بتوقيع ما يسمى إتفاقية الخرطوم للسلام فى العام 1997 و إنهى التهديد بضربة لازب و قاسمهم كعكة الحكم , ثم هدد قادة التجمع الوطنى فى أسمرا بأن من أراد العودة عليه ان يغتسل أولاً بموية البحر قبل الحضور للخرطوم لأنهم نجوس و مرتزقة و خونة يجب عليهم التطهير , ثم ما لبث أن ( بلع ) لسانه و إستقبلهم بقصر غوردون هاشاً باشاً و كافأهم بتعيين ( أنجالهم ) فى القصر الرئاسى مساعدين و مستشارين و بجرة قلم تحول أؤلئك الخونة و العملاء إلى أبطال و رجال دولة و قادة شعب فى دولة المشروع الحضارى , أما قادة ثوار دارفور فقال فيهم ما لم يقله مالكٌ فى الخمر و لا المتنبىء فى المديح ثم بعدئذٍ هرول إلى منابر المفاوضات غرباً و شرقاً يستجدى منهم السلام فصدقه بعضهم و جاءوا معه للقصر الوثير مساعدين و وزراء و ولاء و ذهبت تهديداته تلك كمواعيد عرقوب و أضحى ( قطاع الطرق ) بالأمس سادة القصر اليوم , أما قادة الجبهة الثورية فيلخصهم فى وصف زعيمهم مالك عقار بأنه ( تور و ما بفهم و أعمى بصيرة , بل جثة كبيرة و رأسه صغير ) و لن أفاوضهم , إلاّ أن حامى دولة الخلافة الإسلامية بخط الإستواء طرح كل هذا جانباً بعد ساعات و يمم وجهه شطر أديس أبابا يبتغى سلاما مع هؤلاء ( الثيران ) . أما حكايته مع الأخوة الجنوبيون فتلك من قصص ألف ليلة و ليلة مليئة بالتراجيديا و حافلة بكل أنواع الدراما و الضحك و السخرية و هو من أطول المسلسلات السياسية فى التاريخ البشرى كله , حيث بدأ البشير بطولته منذ الثلاثين من يونيو 1989 و لم ينته حتى الآن و عندما ظن الشعب بأن المسلسل وصل إلى خاتمته و إنتهى يوم إعلان دولة الجنوب , أدرك من جديد بأن تلك كانت الحلقة الأولى فقط ثم جاءت الحلقة الثانية أكثر تراجيديا و عنفاً من الأولى بلغت قمة مهزلتها عندما وصف أولئك البشر المكرمين من الخالق بالحشرات و عبيد العصا , ثم لم تمض أيام حتى حلّ ضيفاً لأولئك الحشرات بكل ( قوة عين و تبلد إحساس ) و كأن شيئاً لم يكن و لقد أظهر الأخوة الجنوبيون فهما عميقاً و معرفة بنفسية هذا المريض المهووس فتم إستقباله بحفاوة , ترفعاً عن الصغائر و حماقات الموسوسين من أمثاله فلم يذكّره أحدً بهذه الترهات و عاملوه كرئيس دولة لكنه فضح نفسه مرة أخرى بإعتذار أقبح من الذنب للشعب الجنوبى بأنه لم يقصده فى ذاته و إنما قصد القيادة السياسية متمثلاً فى الحركة الشعبية , و شر البلية ما يضحك . لا يهمنا هنا البذاءة و العنف اللفظى الذى يصدره الجنرال الراقص لأن هذه تربيته و طباعه و لا يمكن تغييره . و إذا كان الطباع طباع سوءٍ ** فلا أدب يفيد و لا أديب لكن ما يهمنا هنا هو خطورة هذه القرارت و التراجع عنها و أثره على حياة شعب يزعم بأنه مبعوثه من العناية الإلهية جاء لينقذه فى الدنيا و الآخرة ( الإنقاذ الوطنى ) بقيادته فى مدارج السالكين و تحت ظلال القرآن , و ها هو بالأمس يفقع مرارتنا بقرار تهديدى فرعونى جديد للشعبين على حدٍ سواء بإغلاق أنبوب النفط ليتضرر الشمال و الجنوب معاً بعد أيام من بداية الضخ ليصدر قراراً جمهورياً على الهواء مباشرة ( إحنا مافى بلف بغلبنا … يا عوض الجاز أقفل البلف …. ) , نعم مزحة جديدة !! بالفعل ما فى النار للظمآن ماءٌ , و على الرغم من قناعتنا بتنصله من هذا القرار يوم غدٍ لكن السؤال الجوهرى : إلى متى يستمر هذا المسلسل المضحك المبكى ؟ و إلى متى يظل هذا الشعب المتابع للفيلم فقط أسيراً لبطولات و نزوات هذا الممثل المعتوه الراقص ؟ و أين هم بقية قادة حزبه و الجهاز التنفيذى وبرلمان النوام , بل أين هم علماء السلطان لعنهم الله , لماذا لا يدلونه للطريق المستقيم و يهدونه سواء السبيل أم أنهم بسكوتهم هذا عن نصحه فى الحق يصبحون أكثر شراً و خطراً منه لأنه فتوى لصالحه بالإجماع السكوتى , حقاً ( أبكِ لروضة توسطها خنزير و أرثِ لعلمٍ حواه شرير ) و كفى الله الشعبين شرور هذا المريض السيكوباتى الذى حُرِم من البنين فأراد أن يبيد بنى السودان ؟ و غداً مزحة صباحاً تعقبها مسحة مساءاً بلا رقيب أو حسيب.