[email protected] (1) ظلت الجارةُ الشمالية "مصر" تتعاملُ مع السودان عبر الحقب على أساس أنه الحديقة الخلفية والأخ الأصغر "بالتبني" الذي لا يستحق الاهتمام والرعاية التي يحاط بها الشقيق، بينما مطلوب منه دوما السمع والطاعة، هذه المعادلة المختلَّة في العلاقة بين الدولتين لا يمكن تجاوز عثراتها ما لم تتجاوز العقلية المصرية "وهم" أن لها حقوقاً تاريخيةً في السودان، وأن السودان ملزم بإعطائها امتيازات تفضيلية ، تجعل من مصالحها دائما هي المقدمة ولو كان في ذلك هدر وضرر بمصالح السودان. (2) هذه العقدة النفسية لازمت الوجدان المصري منذ استقلال السودان عن التاج البريطاني عام1956م ورفضه الاتحاد بين القطرين ، هي عقدة قائمة في الأساس على فكرة خاطئة ومغالطة تاريخية غبية عمل الإعلام المصري والنخب السياسية صاحبة الغرض على تعميقها ونشر كذبتها البلقاء، الشيء الذي أوقع غالبية شعب مصر في شراك ذلك "الوهم" وحدَّ من قدرته على التعاطي الواقعي مع حقائق التاريخ والجغرافيا التي تثبت أن شعبي السودان ومصر مختلفان ، ليس في السحن فقط؛ بل في التركيبة النفسية، وكثير من العادات والتقاليد، وقد ظلا عبر التاريخ كذلك، رغم التواصل والتداخل الذي فرضته الجغرافيا وظروف استثنائية لم تتوفر في علاقة السودان بدول الجوار الأخرى. (3) وربما من هنا برزت العبارة الممجوجة والأسطوانة المشروخة التي يكثر حكام البلدين من تكرارها تجملا عن "العلاقات الأزلية بين شعبي وادي النيل"، رغم أن هذا الوادي يحتضن بين ضفتيه شعوباً أخرى ودولاً عدة، وها هي الحقيقة التي حاولت مصر التغاضي عنها وطمسها دون جدوى تطل برأسها وتبرز في شكل اتفاقية "عنتيبي" لدول حوض النيل التي وقعت عليها جميع دول النهر العظيم عدا الشقيق الأكبر والأخ "بالتبني"، والمحزن في الأمر أن موقف السودان التعيس ظل رغم انقياده الأعمى وانحيازه المخجل غير مُرضي و"مقرف" في نظر باشاوات مصر. (4) المعادلة المختلة التي خضعت لها العلاقة بين دولتي مصر والسودان طوال الفترة الماضية آن الوقت لضبطها سياسيا، وذلك بتبني خطاب جديد يعيد تصحيح وصياغة وتعريف هذه العلاقة على أساس أنها علاقة أنداد تحكمها المصالح المشتركة بعيدا عن نغمة العلاقات التاريخية والأزلية، ودون اتخاذ هذا الإجراء الرشيد ستظل مصر بخطابها المتعالي والمستفز تحصد "الحصرم" المتمثل في مزيد من الحساسية والبغض المستتر والمعلن من قبل غالبية أهل السودان، بصرف النظر عن طبيعة العلاقة الرسمية بين الدولتين. (5) نظم الحكم متغيرة والثابت الوحيد في معادلة العلاقة بين الدول هي الشعوب، ومن الفطنة بناء العلاقة بين دولتي مصر والسودان على أساس الثابت دون المتغير، ذلك إذا ما أريد لها أن تستقر وتدوم وتكونَ بحق علاقةٌ أخوية، فقد عان شعب السودان طوال تاريخ هذه العلاقة المشوشة من سياسات مصر تجاهه، ودفع أثماناً باهظة أضرت كثيرا بمصالحه، وليس له اليوم الرغبة للاستمرار في الدفع بلا مقابل، ويكفي ضياع أرض وادي حلفا بما تحوي من ثروات وكنوز وإرث حضاري التي غمرتها مياه السد العالي، وتكفي المؤامرات والتدخلات الأمنية المصرية في شؤون السودان الداخلية، التي عكرت صفو فترات الحكم الديمقراطية وأسهمت في إفشالها، وجرّ السودان في كل مرة لحلقة الانقلابات العسكرية "انقلاب الجنرال عبود 1958م والدكتاتور نميري 1969م". (6) وحتى السلطة الحالية التي أذاقت شعبنا المر وجرعته كؤوس العلقم، كان لاعتراف مصر بانقلابها المشوؤم في 30 يونيو 1989م القدح المعلى في تعزيز سلطتها وإصباغ الشرعية عليها دون حتى أن تعلم مصر كنه توجهها السياسي، فقط نكاية في النظام الديمقراطي الذي كان ينعم به شعب السودان!! ولم تكتف مصر بالتدخلات المخابراتية الناعمة فقط؛ بل تجرأت في هذا العهد البائس وقامت بالاحتلال المباشر لأراضي سودانية في مثلث حلايب وشلاتين، ومازالت إلي هذه الساعة تمارس سياسة "مصرنة" سكان تلك المناطق المحتلة، وتعمل بجد وجهد على نهب ثرواتها تحت سمع وبصر السلطات السودانية المنبطحة. (7) من الغباء أن تظن مصر أن شعب السودان الفطن ذا الذاكرة المتقدة راضٍ أو سعيدٌ بهذه الممارسات المستفزة تجاه أرضه وإنسانه وهو يلحظ أمورا عدة تروِّج لها مصر من أجل تثبيتها وتأكيدها بوصفها حقائق في العقل العربي، منها الصورة النمطية الساذجة التي درجت وسائل الإعلام المصرية على إبراز صورة السوداني عليها، وهو ذاك الإنسان البسيط الساذج "البواب" أو "الطباخ" الذي يخدم في قصور باشاوات مصر ويتم العبث به والسخرية منه، وإذا ما تجاوز هذا الدور فإلى دور أحط وأرذل كخادم المنزل الشرير الذي يخون الأمانة ويعتدي جنسيا على أبناء الباشا صاحب الدار، هذه الصورة البشعة يذكرها كل من شاهد فيلم "عمارة يعقوبيان". (8) هذه الدعائية الرخيصة وغيرها كفرية "كسل السوداني" الذي نشرتها وتولت كبرها مصر في دول الخليج العربي لتحارب الكفاءات السودانية في سوق العمل بعدما لاحظت تفضيل تلك الدول للعمالة السودانية، وقد كان الأجدى لمصر أن تدرس سبب العزوف عن عمالتها عوضا عن سلك هذا المسلك اللا أخلاقي المشين فتعيد النظر في أخلاقيات وتأهيل عمالتها قبل الدفع بها للخارج، عموما هذا غيض من فيض الكيد الذي دأبت مصر على كيده للسودان وأهله، وقد آن الأوان إن تنأى بنفسها عن تلك التصرفات الخرقاء وتقوم بالانسحاب من الأراضي السودانية التي احتلتها في حلايب وشلاتين، وتعتذر لشعب السودان عن كل هذه الإهانات إن أرادت أن تظل العلاقاتُ طيبة بين الشعبين، فشعب السودان يختزن كل هذه المرارات ويصبر وهو على غلظته البادية وكراهيته للكذب والتعالي والتكبر إلا أنه يحمل بين جوانحه قلب أبيض قادر على السماح والغفران متى ما اعترف الطرف الآخر بذنبه واقلع عنه واعتذر. ** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون.