[email protected] عزيزي السفير جمال أظن انني سبق وأخبرتك بأنك من الذين لا اقرأ لهم في عجالة، خاصة عندما يكون مقالك بعيدا عن راهن ساس يسوس. وقبل دقائق، والساعة تشير إلى الثالثة فجرا، أكلمت قراءة رسالتك المفتوحة "ورحل تاج الشعر الحسن" التي عنونتها لصديقك عمر جعفر السوري الذي أصبح صديقي عن بُعد. فيا له من وصف يختبئ فيه كل الإبداع ومرآة حقيقية لموصوف وقد أحسست بأنك لم تقصد به رسم بالكلمات، وان كان، فانها لوحة رائعة ومدهشة، والمدهش أكثر هو عبقرية حضورك. باختصار، لا يقول بذلك إلا الجميل يا جمال. ولا ادري ان كان والده ووالد شقيقه صديقي المهندس محمد الحسن، رحمه الله، الذي فارقنا وهو في عنفوان شبابه وقد سعدت كثيرا بمعرفته وحزنت أكثر بعد فراقه، وما بين الحالتين كانت صحبة ورفقة ولقاءات رائعة، وبعد الثانية استمرت الحياة بأقدارها ومصائرها "محل ما تودي تودي"، فهل كان والده يعلم عندما أطلق عليه ذاك الاسم بانه سيأتي من يكتب اسم ابنه هكذا: تاج الشعر بدلا عن تاج السر!؟ فمن غير جميل كجمال له مثل هكذا حضور وإبداع؟ لك الشكر والتهنئة وأنت تأت بالجديد مع كل إطلالة ومقال فتزرعه، ولا تنشره فحسب، وتدعوننا لنحصد ما نحتاج منه.. فمن أراد قمحا..له، ومن أراد شعيرا.. فله، ومن أراد فاكهة.. أمامه كل الأنواع. أهل هنالك بذرة أو شتلة واحدة، تنتج كل ذلك؟ سحر الكلم مكن جمال ليفعل، فيا لها من بذرة رائعة، ويا لمرحنا بك وأنت تبعث فينا الدهشة مقال بعد مقال رسالة بعد رسالة. أخي (سفير الكلمة) التي تستحق عليها "بدل تمثيل"، بعيد كل البعد عن استحقاق (سفير الدولة).. فشتان بين الكلمة الباقية والدولة الذاهبة، فما عدت اعتبر "الحالية" باقية فقد ذهبت وذهب ريحها، لا بانفصالها فحسب ولكن بتمدد الحروب فيها والخلاف بداخلها وهروب أبنائها منها، ولا استثنى نفسي، وهضربة من بقي فيها، وعفوا لا استثناك. باختصار، الهارب منها مجروح في خياراته، والقابع فيها مزرود في احتياجاته ومسروج فوق راكبة ليرتاح عليها من يتناوب أخذها بالقوة ليركبها لوحده ملتحفا عباءة الدين، فيخشاه الناس ويسلمون له أمرهم. كل املي ان لا تثيرك او تغضبك كلمة "هضربة" فانها حالة طبيعية تصيب المحموم، وكل من تمسك به حمى غير مؤاخذ في هضربته، وكيف لا يهضرب من بقي في الوطن والسودان كله مصاب بحمى؟. ومع ذلك، فان افزعك الوصف، لك العتبى حتى ترضى. بعد قراءة رسالتك عدت ابحث عن رسالة عمر جعفر السوري والتي أتذكر جيدا انني اعتبرتها، حينها، ولا زلت في نفس الحالة، انها ملأت فراغات مهمة بما حوت من معلومات ولغة (فارهة) فاستفدت منها كثيرا ككل القطع الأدبية التي يتحفنا بها. أكاد أجزم بان ما بينك وبين صديقك ما تقرؤونه لوحدكما في رسائلكما المتبادلة حتى وأنتما تشركوننا في التمتع بها والاستفادة منها، ونشكركما على تفضلكما بان تركتموها لتصبح ملكا مشاعا للجميع، ولذلك لا أقف في كثير من الحالات عند بعض المحطات التي أراها جزء من الحالة الخاصة التي بينكما واسكنها في تلك الخانة. بيد انني في هذه المرة، وقفت متحيرا عندما كتبت له في بداية رسالتك الأخيرة: اعترف بدء القول، اني حزنت بعد رسالتك. وبعد مزيد من التدقيق سألت نفسي: وماذا لو كان الأمر غير ذلك وبعيد عما اصطلحت على تسكينه في تلك الخانة، وان صديقي السفير حزن ايما حزن لسبب واضح في الرسالة لا يخطئه اللبيب؟ وعندها طارت عصافيري، وتركت كلما جهزته لقراءته او الكتابة حوله وطفقت ابحث عن تلك الرسالة التي سببت لك الحزن، لا لأتلصص فأكتشف، صدفة، بعض ما بينكما ولا تكتبونه، وإنما لإحساس عميق بان تلك الجملة لم تكتبها هكذا والسلام، ولأن رسالة جعفر السوري لم تفعل فيني نفس الفعل، فلم تغشاني ولا نبرة حزن واحدة بعد قراءتها وقتها. وتساءلت: هل أصبحت متجمد العواطف متبلد المشاعر، وصرت لا استشعر عوامل ومصادر الحزن، وبالتالي يجب ان أبدأ في معالجة نفسي حتى لا أسلمها لأخر واستلقى على كنبته وابدأ في الإجابة على أسئلته؟! يبدو يا صديقي ان حالة العرب الحالية، التي كتب عنها الصديق عمر السوري، شعوب او امة، وطن أو دول فالأمر سيان، هي السبب. فهل هذا صحيح علما بان رسالة الرسالة تبعث بالعكس الفرح وهي حزمة من دروس، والدرس يجب ان نحتفي به، فما بالك ان كان أكثر من واحد؟ ومع ذلك دعنا نقف عند الحالة التي أججت الحزن في نفسك، فيما أظن. فهل مثلك ومثلي يحزن لأمر ظل يتابعه ويستقرأ مآلاته ويتوقع أحداثه وتطوراته قبل ان تصبح واقعا وحقيقة تمشي بيننا؟. واذا اكتفى مثلك، وعلى مضض مثلي، بالحزن فكيف يكون حال ملايين من البشر، فرض عليهم فرضا ان يقرر باسمهم، ويحدد مصيرهم، فرد واحد؟. هل تصدق انني حزنت على حال العراق وأهله منذ عام 1982، ولأنني متمسك، بل قل مقتنع بقول مأثور:"كل شيء يبدأ صغيرا ثم يكبر .. إلا المصيبة تبدأ كبيرة ثم تصغر"، فقد زال وانتهى حزني حينها وبات الأمر، كل الأمر، بالنسبة لي أشبه بمحصلة اليوم لأحداث الأمس، ولك ان تقيس المسافة بين ما مضي من أحداث وتطورات لتعرف كم من الزمن استغرق حزني. وحزنت أيضا على سوريا مذ بدأت تلعب بأصابعها في لبنان، وما تلي ذلك ما هو إلا تحصيل حاصل الحزن عندما تصغر المصيبة، وقس على الحالتين كل الأحوال اللاحقة في أي من الدول التي تريد الحديث عن ما قد تبثه حالتها من حزن في نفسك لتتخلص منه، فعن مصر وليبيا دع الحديث لرسالة أخرى. وإذا أردت ان تمسكني من تلابيبي قائلا: وماذا عن حالة بلدك السودان؟ حدث ولا حرج. فلا حزن ولا يحزنون. فكيف احزن على بلد يمشي مغمض أو مفتح العينيين نحو الهلاك لوحده ويصيح بعض أهله: المؤامرة.. المؤامرة إنها المؤامرة. تبا للصائحين ولتابعي الصائحين إلى يوم الدين. دعني ان لا أثقل عليك كثيرا وأقول لك باختصار: لقد انتهى الأمر الذي فيه تستفتيان، وادعوك ان تتصالح مع نفسك حتى لا يفعل فيك الانفعال ما يفعل و(يتاورك) الحزن مع كل رسالة فيرتد حزنك لصديقنا جعفر السوري فيختار الصمت من جديد ونحن أحوج ما نكون لقراءته والجلوس عن بعد في محرابه كالحوار أمام معلم وشيخ صوفي الحب والنزعة والأدب والمشاعر والأكثر من كل ذلك الذي لا اعلمه فلم التقيه من قبل، ويا لخسارتي لما مضت من سنين ولم التق مثل الذي يملك كل هذا الألق. ولمزيد من الشرح دعني اسبب لك دواعي عدم حزني لما يحدث لنا وفينا، منطلقا من رسالتك للصديق عمر جعفر السوري وقولك: "صرنا نضرب في فجاج الأرض، لا بحثا عن ملاذات تأوينا، فذلك خيار جربناه سنوات وسنوات، ولكن بحثا عن عواصم تأوي تنازعنا، وتحتفل بخلافاتنا وترفع أنخاب اتفاقياتنا المتوهّمة، ونعرف انها معبأة بدماء نازحين مطرودين من ديارهم، وأنفاس فقراء قتلهم الجوع. ذلك كله مقدمات لأفول قادم…". أحقا قلت "كل ذلك لأفول قادم.."؟. حسنا.. دعني انقل إليك ما كتبته قبل أكثر من عشرة أعوام وبالتحديد يوم 23 نوفمبر 2001 في افتتاحية صحيفة الرأي الأخر: (الرأي الأخر…. باختصار) تحت عنوان: من فتح باب صراع النفوذ والمصالح في السودان؟ وانقل إليك ما كتبته دون إضافة أو حذف، ولعلك تجد لي أكثر من سبب يمنع عني الحزن، فقد غسلت يدي وتحصنت مما يسبب الحزن، وكتبت يومها: ان انتظار الحلول الخارجية القادمة على "بساط ريح" المبادرات والوساطات.. سيفرض واقعاً جديداً على السودان لم يعرفه من قبل، برغم (معرفته) بالحرب الأهلية، في قراءة بالتعايش وفي أخرى (تأقلمه) معها، هيأها الذين أججوا الحرب التي استمرت منذ استقلال السودان ولم تتوقف إلاَّ لعشر سنوات أفرزت بعدها واقعاً أسوأ مما كان قبل سلام 1973 الذي انهار في 1983. كان حرياً بالقائمين على أمر الحكم في البلاد، والمعارضة على السواء، أن يفهموا أن أي تلكؤ وتأخير وتباطؤ، وأي يوم إضافي لاستمرار النزاع، حتماً يجر معه حالته الجديدة، سواء أن تتم معاقبة طرف على تلكئه وتباطئه وتسويفه وبالتالي تحفيز الطرف الأخر أن أصاب موضوعية في طرحه ومرونة إضافية تقارب تقديم كل أوراقه مكشوفة على الطاولة دون الإمساك بورقة مخفية في (جيبه).. وسواء أن تدافعت بالمناكب- لتقرأ المبادرات- مصالح الآخرين.. جيران كانوا، شركاء كانوا، أصدقاء كانوا أو حتى أصحاب استراتيجيات. وبالتالي يصبح السودان منطقة صراع أو تصادم مصالح وتصبح القضية، لا قضية السودان في جنوبه.. وإنما قضية تقاسم وتوزيع النفوذ والمصالح في السودان. هذه هي باختصار قراءة الموقف في السودان.. وتلك دون ترهل محاولة تقييم وفحص الأخبار الواردة في اليومين السابقين من العواصم التي صارت تبت في الشأن السوداني أسوة بالسودانيين أنفسهم. فهنالك إشارات لمداخل حلول من طرف.. مرفوضة من الطرف الأخر الذي يقابله في الاتجاه المعاكس جغرافياً ونفسياً وهنالك (أفكار) تطرح هنا.. فتجد لها أطارا جاهزاً يستوعبها في نيروبي بينما القاهرة تتحسس أوراقها وتفردها أمامها في حالة سكون هي الحركة بعينها لتستخرج منها ما يوقف المد الجديد أو القديم المتجدد الذي لم تستطع المشتركة أن تقفل له باباً. والذي لا يختلف عليه اثنان في السودان، أو بالأصح يفترض ألاَّ يختلفا عليه مع اختلاف موقعيهما في الحكم أو في المعارضة، ان وضعاً كهذا لم يكن متوفراً لأي طرف خارجي في فترة سابقة، فلماذا وكيف حدث كل ذلك؟ وحتى لا نوزع المسؤوليات بنسب متساوية أو متفاوتة، على الطرفين حكومة ومعارضة ان يعترفا بأنهما خلقا خلفية صالحة للأطراف الخارجية حتى يصبح ترددها على الشأن السوداني.. إقامة دائمة فيه وبالتالي لا يخرج أي حل إلا بواسطتهم، بالاتفاق أو بالصراع. ولا شك أن كل ذلك تم في إطار مغامرة خطيرة لم تَحسب إلاَّّ حساب أخذ السلطة أو استرجاعها آو البقاء فيها. ونفس المغامرة قام بها للأسف الأشقاء ونخص بالذكر مصر، لأن اختلاط الأولويات جعل أمر تحديدها وتسكينها يشوبه بطء الحركة وقلة الحيلة فصارت الخسائر المحتملة.. خسائر كلية لتصبح مصارعة الأجندة الغريبة عن السودان والتي تبحث عن حلول واقعية (برغماتية) لا تتقيد لا بالتاريخ ولا بالجغرافيا، وعرضه لسياسة المقايضة على مسرح أخر. ويبقى السؤال: هل انتهى كل شيء، وعلينا ان نجلس القرفصاء لنرى صراع النفوذ والمصالح لا يطرق الأبواب بعنف بل يركلها ليجلس هو القرفصاء بيننا؟ بالطبع لا. فلا يزال هنالك متسع من الوقت للإمساك بالثور من قرنيه بيد ان الأمر يحتاج لشجاعة الشجعان في تمكين سلام أهل البلد للسودان.. وكل السودان. والمعنِي بهذه الفرصة الأخيرة هي الحكومة ولا غير، فالمعارضة تكاد لا تدري من أي نافذة تطل.. نصفها لا يرى غير (المشتركة) ونصفها المسلح والأقوى.. يعشق (الإيقاد) ولازمها ملازمة الظل.. فكيف يستقيم أن نَعوِّل عليها في اتخاذ القرار المصيري؟ ان الحكومة التي جربت كل الطرق الممهدة والوعرة والمغبرة و(الملغمة) لا بد أن تختار في الساعة الخامسة والعشرين، ما بين أن تقي السودان من صراع النفوذ والمصالح الذي سيصبح الشعب السوداني فحماً له ليزيد اشتعالا، واما ان تفتح بيدها صفحة يلعنها فيها التاريخ والأجيال.. الأجيال السابقة والتي استشهدت والحاضرة والتي لم تولد بعد. ….. وبعد، تلك قراءة كتبتها حينها وختمتها بطلب واضح ومباشر ومحدد الخيارات، استشعرت انه يعبر عن الغالبية العظمى من الشعب، فأمانة حمل القلم تفرض ذلك. فماذا كان خيار الحكومة يا صديقي جمال؟ وأي الصفحات اختارت؟ أليس الامر لم يعد محزنا ولا يحزنون؟ وماذا سيفعل الحزن في مثل هكذا حالة.. حالة "عمدا مع سبق الاصرار والترصد"؟.