بالصورة.. "الإستكانة مهمة" ماذا قالت الفنانة إيمان الشريف عن خلافها مع مدير أعمالها وإنفصالها عنه    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية مغمورة تهدي مدير أعمالها هاتف "آيفون 16 برو ماكس" وساخرون: (لو اتشاكلت معاهو بتقلعه منو)    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية غير مسبوقة على مواقع التواصل.. رئيس الوزراء كامل إدريس يخطئ في اسم الرئيس "البرهان" خلال كلمة ألقاها في مؤتمر هام    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان شريف الفحيل يفاجئ الجميع ويصل القاهرة ويحيي فيها حفل زواج بعد ساعات من وصوله    النائب الأول لرئيس الإتحاد السوداني اسامه عطا المنان يزور إسناد الدامر    إسبوعان بمدينتي عطبرة وبربر (3)..ليلة بقرية (كنور) ونادي الجلاء    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    الدب.. حميدتي لعبة الوداعة والمكر    منشآت المريخ..!    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    صلوحة: إذا استشهد معاوية فإن السودان سينجب كل يوم ألف معاوية    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حركاتُ النبي عيسى: تأسيسٌ أوليٌّ لمقاومةِ الاستعمار
نشر في حريات يوم 28 - 07 - 2013


[email protected]
(1)
التمكث في هذه الناحية من تاريخنا الحديث ذو نفع عظيم، حتف أنف الذين يعتقدون بخلاف ذلك؛ ولك أن تعجب، ما شاء لك الله، كيف لا تكون ثمَّة جدوى من تصحيح مفهوم شائع بأن السُّودانيين انتظروا زهاء العقدين بعد هزيمة كرري، في 2 سبتمبر 1898م، كي يبدأوا تلمُّس طريقهم لمنازلة الاستعمار البريطاني، وكيف لا يكون هناك نفع في إثبات أن أجدادنا انخرطوا، بعد زهاء العام الواحد من كرري، في أشكال أوليَّة متنوِّعة من مقاومته، بعضها قبلي، كحركة السُّحيني، وحركة ود حبوبة، وغيرهما، وبعضها ديني، كحركات النَّبي عيسى التي افترعها طيِّب الذَّكر الشَّيخ علي ود عبد الكريم بأم درمان عام 1900م، قبل أن تنداح دوائرها لتشمل شيوخاً آخرين، ومناطق مختلفة من البلاد، دون سابق ترتيب أو اتفاق، مِمَّا سنأتي على ذكره.
من الناحية النظريَّة تقوم الأطروحة على كون مقولة "الوعي الاجتماعي العام" أوسع من مقولة "الأيديولوجيا"، أو "الأدلوجة" بتعريب عبد الله العروي، والتي تعبِّر عن حزمة متسقة من الفرضيات والمبادئ والقيم التي يُتوسَّل بها لتحقيق غايات محدَّدة، اقتصاديَّة سياسيَّة، أو اجتماعيَّة ثقافيَّة. على أن "الأيديولوجيا" لا يُكتب لها السَّداد ما لم تناسب المستوى السائد من "الوعي الاجتماعي العام".
أما من الناحية التطبيقية فإن الأطروحة تذهب إلى أن مستوى "الوعي الاجتماعي العام" في سودان الثلث الأخير من القرن التاسع عشر استقبل المهديَّة ك "أيديولوجيا" ملائمة تماماً لمشروع النهوض الثَّوري آنذاك، مثلما عاد نفس ذلك المستوى من "الوعي الاجتماعي العام" ليفرض، في سودان العقدين الأوَّلين من القرن العشرين، استحالة اجتراح "أيديولوجيا" متجاوزة لنفس تلك "الأيديولوجيا" المهدويَّة، وإنما الدَّفع بها هي ذاتها إلى غاياتها القصوى، في المرحلة الجديدة، مرحلة ما بعد "المهديَّة"، عن طريق الاستهداء والتَّوسُّل بما عُرف ب "حركات النَّبي عيسى"، بغية استنهاض شكل أولي من المقاومة الوطنيَّة، كما سنرى، ضد الاستعمار البريطاني خلال تلك الحقبة الباكرة.
(2)
لم تكن المهديَّة، الثَّورة والدَّولة، محضَ ضربةِ حظٍ تاريخيَّةٍ وقعت، خلال الثُّلث الأخير من القرن التاسع عشر، لبدو السودان، خصوصاً المستعربين المسلمين منهم، المشبَّعين بأشواق الثقافة الصُّوفيَّة، والذين صدموا، لهذا السَّبب، بما أنكرته روحانيَّتهم من بشاعات الإقطاع العثماني خلال مرحلة الاستعمار التُّركي المصري (1821 1885م)، بقدر ما جاءت استجابة حقيقيَّة لاحتياج مُلِحٍّ، في الواقع الموضوعي البسيط، لما يوحِّد الشَّعب كله ضدَّ ذلك الحكم، ويستنهض، من صميم ثقافته، نسقاً أيديولوجيَّاً يطمئِنه على دينه من بلبال ما كان يجرى باسم الإسلام على العباد والبلاد، ويعبِّئ طاقاته في حركة راديكاليَّة صلبة تستهدف، بشكل مباشر، إقامة دولة العدل والقسط والمساواة على أنقاض دولة النَّهب والظلم والفساد، "فالواقع الاجتماعي المحدود يعبِّر عن نفسه فى شكل أيديولوجيَّة دينيَّة لا يحتاج التعبير عنها إلى تعقيدات تقعُ خارج قدرات ذلك الواقع" (القدَّال؛ تاريخ السُّودان الحديث، ص 157)، خاصَّة وأن تلك البشاعات لم تعدم تبريراتها "الشَّرعيَّة" لدى مَن أسماهم الإمام المهدى، عليه السَّلام، بحق، "عُلماء السُّوء" الذين ارتبطت مصالحهم، نهائيَّاً، مع ذلك النِّظام منذ اللحظة التي أنعم فيها على كلٍّ منهم بخلعة سنِّيَّة وخمسة عشر كيساً، لقاء مرافقة حملة الباشا لاحتلال السُّودان، وحثِّ أهله "على الطاعة .. بحجة أنهم مسلمون، وأن الخضوع لجلالة السُّلطان أمير المؤمنين وخليفة رسول المسلمين واجب ديني" (شقير؛ تاريخ السُّودان، ص 196).
(3)
فكرة "المهديَّة" نفسها لم تكن غريبة على المستعربين المسلمين السُّودانيين، فهي رائجة فى كل المذاهب السُّنيَّة والشِّيعيَّة، وتستمد أصولها من أحاديث واردة لدى الترمذي وابن ماجة وأبى داود وغيرهم، وإن لم ترد في الصَّحيحين، أشهرها ما رواه عبد الله بن مسعود من أن رسول الله (ص) قال: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئت جوراً وظلماً". وروى الرَّافضي عن ابن عمر أن النبي (ص) أضاف قائلاً في ذات هذا المعنى: "ذلك هو المهدي". ورغم ما وُجِّه من نقد إلى أسانيد هذه الأحاديث، حتى لقد قال ابن خلدون إنه لم يفلت منها من النقد إلا القليل والأقل منه (المقدِّمة؛ ص 322)، إلا أن الكثير منها حظي بالقبول لدى الرَّاسخين فى علم السُّنة، كابن تيمية (منهاج السُّنة النَّبويَّة، ج 2، ص 166). ولاحظ باحثون محدثون أن فكرة انتظار المهدي غالباً ما تبرز في أوقات الشِّدَّة (أركون وغارديه؛ الإسلام بين الأمس واليوم، ص 36)، وفى ظروف يستشرى فيها الشَّرُّ، وينتشر الفساد، مِمَّا تسنده أحاديث عن خروج المهدي في وقت فتنةٍ، وزلازلَ، واختلافٍ، وفرقةٍ بين النَّاس (جلي؛ دراسة عن الفِرَق، ص 220 224).
أما من جهة التَّأثير الوافد مع تيارات التَّلاقح الفكري، فقد كان للفكرة رواج كبير في غرب أفريقيا، وبالذات خلال القرن الثاني عشر الذي شهد نشوء حركة المُوَحِّدين في الرِّيف المراكشي على يدي المصلح الأمازيقي المهدي بن تومرت، أو "المُنقِذ المُنتظر". ولفكرة "الانتظار" هذه حضور كبير لدى الشِّيعة. ومعلوم أن ثمَّة تسرُّبات شيعيَّة قويَّة في بدايات الأصل المُوَحِّدي (أركون وغارديه، سابق).
فكرة "الظهور" أو "الرَّجعة" موجودة، أيضاً، في الدِّيانتين اليهوديَّة والمسيحيَّة، مقترنة بشخص النبي عيسى بن مريم. فاليهود يؤمنون بظهور المسيح المنتظر لكى يعيد إليهم سلطانهم ودولتهم القديمة (بيلاييف؛ العرب والإسلام والخلافة العربيَّة، ص 148). وفى أناجيل المسيحيين: "وتكون علامات في الشَّمس والقمر والنُّجوم. وعلى الأرض كربُ أمم مُحيَّرة. البحر والأمواج تضجُّ. والنَّاس يُغشى عليهم من خوفِ وانتظارِ ما يأتي على المسكونة لأن قوات السَّماء تتزعزع. وحينئذٍ يبصرون ابن الإنسان آتياً في سحابة بقوةٍ ومجدٍ كثير. ومتى ابتدأت هذه تكون فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم لأن نجاتكم تقترب" (العهد الجَّديد إنجيل لوقا، الإصحاح الحادي والعشرون، 25 28).
على أنَّ الاقتران الشَّرطي بين "ظهور المهدي" و"رجعة المسيح" هي عقيدة سنِّيَّة محضة. ففي سنن ابن ماجة أن وقت خروج المهدي فتنة وزلازل، وأنه يبايَع بين الرُّكن والمقام، وفى عهده يظهر المسيح الدَّجال، وينزل بعده عيسى فيقتل الدَّجال (جلي؛ سابق، ص220). ونقل ابن القيِّم عن كتاب أبي الحسين محمد بن الحسين الآبرى "مناقب الشَّافعي" تواتر الأخبار واستفاضتها عن رسول الله (ص) بذكر المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأن عيسى يخرج فيساعده على قتل الدَّجال، وأنه يؤمُّ هذه الأمَّة، ويصلى عيسى خلفه (إبن قيِّم الجَّوزيَّة؛ المنار المنيف في الصحيح والضعيف، ص 129).
أما بالنسبة ل "الأنصار" فكثيراً ما يرد التَّعبير عن عقيدة "الاقتران" هذه بين "المهدي" و"المسيح" ضمن النتاج الثقافي لشعرائهم وكتَّابهم المعاصرين. من ذلك، مثلاً، أبيات البنَّا الصَّغير في رثاء الشَّيخ بابكر بدري، وكلاهما ذو جذور مهدويَّة:
وللضعفاءِ كمْ أسديتَ نعمى فصاروا بعدَ ضعفٍ أقوياءْ
كفلتَ حياتهمْ فشبهتَ عيسى بنور العلم تُحيي ما تشاءْ
وإلى ذلك ما رواه العميد يوسف بدري، إبن الشَّيخ بابكر بدري، ضمن مذكراته، من أنه، وعلى أيَّام دراسته في بيروت، رأى نفسه، في المنام، يدخل غرفة فيجد فيها رجلين، أحدهما جالس على كرسي، مرتدياً زيَّ عرب الشُّكريَّة والبطاحين، والآخر قائم إلى جانبه، حافي الرَّأس والقدمين، مرتدياً ملابس شباب غرب السُّودان، فابتدره هذا الأخير قائلاً: "أنا المسيح عيسى بن مريم وهذا .. محمَّد رسول الله، الإنسان كالسِّراج يحرق نفسه ليضئ لغيره". وفسَّر يوسف هذه الرُّؤيا بضرورة أن يعود ليعمل مع والده في مدرسة الأحفاد (قدر جيل، ص49). ويرى الكاتب الأنصاري حسن اسماعيل رمزيَّة خاصَّة، ليس فقط في تطابق الخصال، من زاوية نظره، بين السَّيِّد الصَّادق، حفيد المهدي وإمام الأنصار الحالي، وبين نبي الله عيسى عليه السَّلام، بل حتَّى في تاريخ ميلادهما في 25 ديسمبر (صحيفة الدُّستور؛ 30 يونيو 2001م)، الأمر الذي يبدي الأمين العام ل "هيئة شئون الأنصار"، وإمام مسجد السَّيِّد عبد الرحمن المهدي بود نوباوي بأم درمان، حرصاً كبيراً على التذكير به كلما صعد المنبر في هذا التاريخ ليزفَّ التَّهنئة بهذه المناسبة.
(4)
إذن، ولأن دعوة المهديَّة "لم تمت بعد الغزو الثنائي .. بل عاشت (و) كان لها أثرها في بناء المزاج السُّوداني" (الصَّادق المهدي؛ يسألونك عن المهديَّة، ص 238 239)، فقد دخل أبناء المهزومين، بمصطلح محمد المكي إبراهيم، عصر ما بعد كرري 1898م، ليجابهوا أعباء النهوض بالمسألة الوطنيَّة في سياق تاريخي مغاير، مشبَّعين بنفس ذلك الفكر الذي لا يعرفون غيره، والذي سبق لآبائهم أن أطلقوا به "صيحة" النُّهوض الثَّوري الأولى ضدَّ القهر التُّركي. ولمَّا لم يكن من الممكن، بطبيعة الحال، وحسب منطق الاعتقاد نفسه، أن يدَّعي أيٌّ من أولئك الأبناء، مرَّة أخرى، أنه "المهدي"، فإنه لم يكن متاحاً لهم، من ثمَّ، وفي ذلك المنحنى التاريخي، سوى ترديد "صدى الصَّيحة" في مواجهة الاستعمار البريطاني. ولأن "الصَّدى" ليس ك "الصَّيحة"، فقد انطلق مسقطاً من "الأيديولوجيا" القديمة عنصر "التحقق الوجودي المهدوي"، ومبقياً على عنصر "الإلهام الفكري المهدوي"، ومضيفاً عنصر "الظهور المادِّي العيسوي".
هكذا شاعت "حركات النَّبي عيسى" فى السُّودان (1900 1915م)، محمولة على أجنحة الاعتقاد بأن الدَّجال الذي حطم حكم المهدي وخليفته، سوف يهزمه النَّبي عيسى الذي سيهبط من السَّماء، ويقود المسلمين نحو النصر (تيم نبلوك؛ صراع السُّلطة والثروة في السُّودان، ص 163)، كعلامة من علامات السَّاعة، وكمحاولة منطقيَّة، كما سلفت الإشارة، لاستولاد المهديَّة القديمة في الظروف الجديدة. وقد ذهب بعض الباحثين إلى تسميتها ب "المهديَّة الجديدة" (م.ع. بشير؛ تاريخ الحركة الوطنيَّة في السُّودان، ص 71). وادعى "نبوَّة عيسى" كثيرون، كالشَّيخ علي ود عبد الكريم في أمدرمان عام 1900م، والشَّيخ محمد الأمين في تقلى عام 1903م، والشَّيخ آدم ولد محمَّد في سنَّار عام 1904م، والشَّريف مختار من الشَّنابلة والفكي مدني بالنيل الأبيض عام 1910م، والفكي نجم الدِّين في كردفان عام 1912م، والشَّيخ أحمد عمر في دارفور عام 1915م، وغيرهم.
(5)
كان علي ود عبد الكريم هو أوَّل وأشهر أولئك جميعاً، فقد أنشأ ما عُرف، وقتها، ب (جماعة ود عبد الكريم) أو (طائفة عباد الله) التي أعلن أفرادها، أثناء محاكمتهم، أنهم يحتكمون إلى خمس شعائر إيمانيَّة كان أخطرها طرَّاً بالنِّسبة للإدارة الاستعماريَّة: "أن كلَّ الأفعال تُعزى إلى وحي من الله"، كما أعلنوا أنهم ملهمون ب "نبوَّة عيسى"، وخاضعون لأمر قدسيٍّ بمناوءة الحكومة، فما لبثت المحكمة أن قررت أنه "بالنظر إلى البند .. المتعلق بالوحي الإلهى، يكون من الأوفق أن يُبعد .. قادة الجَّماعة .. من أم درمان بأسرع فرصة"(S. g. A/Sudan Intelligence Report No. 67, p. 14, 15 ضمن المصدر نفسه). وبالفعل جرى التنكيل بالشَّيخ علي ود عبد الكريم وجماعته، وتمَّ نفيهم إلى وادي حلفا. وكما كان الحال إبان التُّركيَّة فقد شكلت الإدارة البريطانيَّة لجنة من "علماء السُّودان" أيَّدت الحكم، ودمغت الحركة (بالهرطقة) ، مِمَّا ".. ساعد الحكومة على تصوير البنيان القانوني وكأنه بنيان إسلامي" (تيم نبلوك؛ سابق، ص 170).
لقد كانت تلك بمثابة الخطوة الأولى للإدارة البريطانيَّة باتجاه التطبيق الفعلي لسياسة السَّير على خطى التُّركيَّة السَّابقة، من جهة تعميق التَّناقض داخل المؤسَّسة الدِّينيَّة، بدعم "الإسلام الرَّسمي" المتمثِّل في "لجنة العلماء" والقضاء الشَّرعي، وربطه بميزات الالتحاق بكشف المرتَّبات الحكوميَّة، لاستخدامه في محاربة "الإسلام الشَّعبي"، وتقليم أظافر "الخلاوي" التي لم يُسمح لخريجيها ولو بمحض العشم في التوظيف، لخشية الحكومة من قدرتها على تهييج الجَّماهير عن طريق الرؤى والبركة (نفسه)، واعتبار "الفكي" مصدر تهديد حقيقي للاستقرار والأمن العام (القدَّال، سابق، ص140). وتبعاً ل "فتوى الهرطقة" أعلن الحاكم العام أن "نفس الجَّزاء سيوقع على أى شخص يعمل على مخالفة الدِّين الإسلامي الحنيف" (S. g. A/Sudan Intelligence Report). وكان اللورد كرومر قد وعد الشُّيوخ والأعيان، عام 1899م، أي في العام التالي لمعركة كرري، والعام السابق لحركة الشيخ علي ود عبد الكريم، باحترام الدِّين الإسلامي وتطبيق "الشَّريعة الغرَّاء" (أوراق كرومر ضمن جعفر بخيت؛ الإدارة البريطانيَّة والحركة الوطنيَّة في السُّودان 1919 1939م، ص 19)، مثلما باشر كتشنر إرسال نفس هذه الإشارات المخاتلة، كما في منشوره الذي ادَّعى فيه أنه ما جاء إلا لتخفيف "أوجاع المسلمين .. وليشيِّد دولة إسلاميَّة تقوم على العدل والحقِّ، ولكى يشيِّد الجوامع، ويساعد على نشر الاعتقاد الصَّحيح" (شقير؛ سابق، ص 581 582).
لقد افترعت حركة الشَّيخ علي ود عبد الكريم "حركات النَّبي عيسى" التي سارت على خط المفاصلة البيِّنة بين مؤسَّسة "الإسلام الشَّعبي"، بتصدِّيها للاستعمار، وبين مؤسَّسة "الإسلام الرَّسمي" التي مالأته وخَدَمَته. ومن ثمَّ فإن أصوب تقدير لتلك الحركات هو أنها تمثل، مع الانتفاضات القبليَّة، شكلاً متميِّزاً من أشكال المقاومة الأوليَّة الباكرة للاستعمار، أو ملمحاً مهماً من ملامح المرحلة الأولى للحركة الوطنيَّة التي يعتقد البعض، خطأ، أنها لم تبدأ إلا بعد نهاية الحرب العالميَّة الأولى، مع نشوء حركة الخريجين الحديثة، وتأسيس أنديتهم، وتكوين جمعيَّتي الاتحاد السُّوداني واللواء الأبيض، وهلمَّجرَّا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.