بعد ثورة الياسمين في تونس وغضبة الجمعة في مصر، كنت أظن وبعض الظن إثم أن ليس هناك نظاماً حاكماً من بقية الأنظمة العربية من المحيط إلى الخليج ومن البحر إلى النهر لم يتحسس رأسه، بدلاً من مسدسه، ولم يُعمل عقله بدلاً من عضلاته، فالمنطق البسيط يقول إن الأحوال في هذه الأمصار قبل هذه الهبّات الشعبية الكاسحة لن تكون على ذات الحال بعدها، والمنطق البسيط يقول أيضاً إن العاقل هو من يتعظ بغيره، وهو المنطق ذاته الذي عبّرت عنه الحكمة الشعبية (أخوك أكان حلقوا ليهو بل راسك)، والمعلوم أن كل هذه الأنظمة إخوة في الرضاعة، حيث رضعوا الحكم جميعهم من ثدي الشمولية واحتكار السلطة وازدراء الآخر والتطاول في البنيان وإطالة أمد البقاء على سدة الحكم والتشبث بكراسي السلطة، يدخل الحاكم منهم القصر ولا يخرج منه إلا إلى القبر، تحمله إلى السلطة دبابة حقيقية أو مجازية ثم لا يغادرها إلا على آلةٍ حدباء محمول، ولكن بعد ثورات الحرية والثأر للكرامة التي زلزلت العروش وهزت الكروش وكسرت الحواجز، آن لهذه القيادات (أن تفهم)، أن الشعوب الحية لن تموت، وأنها إن خُدعت بعض الوقت فلن تُخدع طول الوقت، ومهما طال صبرها فلن يطول زمان خنوعها، فالشعوب يمكن أن تتئد في تحركاتها وتتأنى ولكن لا يمكن أبداً أن توأد إلى الأبد، هذا هو درس تونس ومصر الذي يفرض على الآخرين أن يقفوا عنده ويتأملوه ملياً ففيه العبرة والعظة، وهو نصح قدمته لهم مجانياً حتى الآن جماهير مصر وتونس وعليهم أن يستبينوا النصح قبل ضحى الغد، وأما إن ظنوا أنهم ذوو شوكة وبأس وبسطة في السلطان الرسمي والحزبي فذلك وهم عرّاه شباب تونس ومصر وكشف زيفه الحيارى والعطالى والمغبونين والمظلومين من سواد الشعب غير المسيس، كأن هؤلاء الشباب غير المسيسين هم قوّاد هذه الثورات ووقودها، وهذا درس آخر يؤكد أن غمار الناس وسوادهم الأعظم خارج الأطر الحزبية والتنظيمية، قد يتعاطفون مرة مع هذا ويتوالون مرة مع ذاك ولكنهم ليسوا مثل شاعر قبيلة غزّية الذي قال (وما أنا إلا من غزّية إن غوت غويت وإن ترشد غزّية أرشد)…. في أجواء ثورات الحرية والكرامة هذه وإنطلاق الجماهير إلى الشوارع كالموج العرم لممارسة حقها في التعبير عن رأيها غير هيّابة من جيش لجب ولا شرطة مدججة ولا طوارئ ولا إطلاق نار بل وأصبحت تستنشق الغاز الحارق وكأنها تستنشق عبق عطر (ون مان شو)، في هذه الأجواء التي إنتزعت فيها الجماهير عنوة واقتدارا حقها الإنساني في التعبير عن رأيها فيمن يحكمونها وكيف يحكمونها، نسمع عن إعتقال يطال إثنين من الصحافيين هما أبو عيشة كاظم وعبد القادر باكاش من صحيفة (برؤوت) الاقليمية التي تصدر في عاصمة البحر الأحمر بورتسودان، وللغرابة والعجب فالصحيفة تتبع للحزب الحاكم المؤتمر الوطني، ما يعني ضمنياً ان هذين الصحفيين تجمعهما علاقة ما بهذا الحزب، هذا إن لم يكونا من أعضائه المنظمين، والأعجب والأغرب في قضية هذين الزميلين الصحافيين ليس الإعتقال فحسب بل التهمة الخطيرة التي تصل عقوبتها الإعدام، وكل ذلك فقط بسبب كتابة أحدهما مقال رأي يحذر فيه من مغبة سياسات يرى أنها ستجر بعد الجنوب إلى إنفصال أقاليم أخرى من بينها إقليمه الشرقي، فلم تكتفِ السلطات باعتقاله والتحقيق معه في مجرد مقال رأي بل وجهت إليه تهمة ربما تذهب به إلى حبل المشنقة، في الوقت الذي استطاع فيه الصحافيون في بعض البلدان الشبيهة بحالنا إلغاء عقوبة السجن والبعض أوشك.. إننا مع الحق أين ما كان، وندور معه أين ما دار، ولا يهمنا هنا إن كان هذان الزميلان من المحسوبين على المؤتمر الوطني أو على حزب الأمة أو الحزب الشيوعي، فالحق أحق أن يتبع والرجوع إليه فضيلة.. وما يهمنا هنا هو أن نقف مع من معه الحق من المؤتمر الوطني ضد من ينتهك هذا الحق من المؤتمر الوطني.. والحق هو حرية الرأي والتعبير والصحافة