“الحوار الذي أعلنه رئيس الجمهورية ليس مناورة سياسية قصد منها تسجيل نقاط سياسية تكتيكية، وإنما هو حوار سياسي مسئول وجاد يتم فيه تجاوز كل القضايا الصغيرة هنا وهناك”، هذا هو ملخص حديث نائب الرئيس الأستاذ علي عثمان محمد طه، وهو يعقد مؤتمراً صحافياً في ظروف بالغة التعقيد، وقد انتظر المراقبون المؤتمر الصحفي لرجل ارتبط اسمه باتفاق السلام الشامل، ويعتبره البعض من ” حكماء الإنقاذ” في أزمنة الجنون، وكان العشم في حديث طه إعلان مواقف قوية تبعث الطمأنينة في النفوس، بضرورة حوار حقيقي، وشفاف، وسط دوامة العواصف العربية التي بدأت تهب من كل الجهات، وقال طه ” إنّ الحوار لن يكون نشاطاً تهويمياً نظرياً، وإنّما ستكون له مرتكزات عملية وسياسية؛ داعياً إلى ضرورة إدارة حوار وطني واسع حول شكل الدولة من حيث دستورها، مبيّناً أنّ العمل بالدستور الانتقالي الحالي سيستمر وفقاً لأحكامه وأنه لن ينتهي في التاسع من يوليو المقبل. وبقدر ما انتظر الناس إجابات شافية على تساؤلات الساعة، بما ذلك قضية الأسعار، وغلاء المعيشة، إلا أن المؤتمر الصحفي من وجهة نظري ترك الكثير من علامات الاستفهام أكثر مما أجاب، بل وزاد مساحات الغموض، والرمادية أكثر من الوضوح، فالحوار ” مبهم”، وربط الأزمة الاقتصادية بالأزمة العالمية لم يكن مقنعاً، لأن الغلاء في السودان مضاعف، ويمكن مقارنة ذلك بدولة جارة مثل مصر العربية، والتي خرج مئات الآلاف من مواطنيها في الشوارع احتجاجاً على “الغلاء” و” الضائقة المعيشية” في وقت يمكن لشخص أن يصرف فيه مبلغاً من المال في القاهرة لمدة شهر، فيما لا يكفي المبلغ لذات الاحتياجات في الخرطوم أكثر من أسبوعين في أحسن الأحوال!، بل إنّ سعر الأراضي هنا فوق أرض كنا نطلق عليها ” مليون ميل مربع”؛ يفوق الأسعار العالمية مع فارق كبير بين الخرطوم ” البائسة”، وتلك المدن “المترفة”. وهنا أشير إلى أنّ إحدى الزميلات المصريات كانت تتحدث معي قبل أسبوعين حول طريقة فرض الضرائب في السودان باستنكار واستغراب، و”الضرائب والرسوم والجبايات والأتاوات” وعدم ضبط السوق، هي أهم عوامل الغلاء الفاحش، والضائقة المعيشية التي تسببت فيها سياسات الدولة، وقططها السمان. أمّا مسألة “الحريات” فحسن قول الأستاذ طه “ بالإبقاء على الحريات الواردة في الدستور “، وإشارته إلى ألا بقاء للنظام الذي لا يحترم الحريات ويمارس الكبت الذي يولد الانفجار” ثمّ تابع ” الحكومة ليس لديها ما تخشاه “، وهو توجه “إيجابي”، وكنّا نود لو فسّر الأستاذ طه ما حصل يوم أمس لصحيفتي “أجراس الحرية” و” الصحافة” من مصادرة، وعقاب قسري بغرض التضييق المادي على الصحف، وتحويل “الرقابة القبلية” إلى ” تشفي وعقاب صارم” يقود في نهايته إلى موت الصحف المحرومة أصلاً من الإعلان الحكومي، وشركات الحكومة، ومحسوبي المؤتمر الوطني الحاكم، والغرض من كل ذلك هو ” تحرير شهادة وفاة لبعض الصحف الميتة ” اكلينيكياً” منذ مدة طويلة، وقد طرح أستاذنا الكبير محجوب محمد صالح هذا السؤال، في المؤتمر الصحفي، وطالب بالتفسير!. وليت أهل “الإنقاذ ” يعلمون أنّ الصحافة الورقية هي في طريقها إلى زوال، مع انتشار مواقع الانترنت، و”الفيسبوك”، وهي وسائل يصعب مراقبتها، ومساءلتها، ولا تجد حرجاً في نشر كثير من الأخبار، أو حتى ” الإشاعات” على عكس الصحافة الورقية، وما حصل يوم أمس ينسف كل حديث عن “الحوار”، وعن الرأي الآخر”، والحريات التي كفلها الدستور، ومع كل ذلك نتفق مع حديث الأستاذ طه وقوله ” إنّه لا بقاء للنظام الذي لا يحترم الحريات ويمارس الكبت الذي يولد الانفجار”، وهي حقيقة ماثلة، وما يدور من أعاصير من حولنا في الشرق الأوسط تؤكد ذلك، وقد دعا الرئيس السوري بشار الأسد؛ زملاءه العرب بتحقيق طموحات شعوبهم، ووعد هو ذاته باصلاحات تفادياً للعواصف العنيفة التي قد تعصف بكثير من الكراسي.