إسحق أحمد فضل الله يكتب: (وفاة المغالطات)    الهلال لم يحقق فوزًا على الأندية الجزائرية على أرضه منذ عام 1982….    لجنة المسابقات بارقو توقف 5 لاعبين من التضامن وتحسم مباراة الدوم والأمل    المريخ (B) يواجه الإخلاص في أولي مبارياته بالدوري المحلي بمدينة بربر    شاهد بالفيديو.. لدى لقاء جمعهما بالجنود.. "مناوي" يلقب ياسر العطا بزعيم "البلابسة" والأخير يرد على اللقب بهتاف: (بل بس)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    شاهد بالصورة والفيديو.. ضابطة الدعم السريع "شيراز" تعبر عن إنبهارها بمقابلة المذيعة تسابيح خاطر بالفاشر وتخاطبها (منورة بلدنا) والأخيرة ترد عليها: (بلدنا نحنا ذاتنا معاكم)    لماذا نزحوا إلى شمال السودان    جمهور مواقع التواصل بالسودان يسخر من المذيعة تسابيح خاطر بعد زيارتها للفاشر ويلقبها بأنجلينا جولي المليشيا.. تعرف على أشهر التعليقات الساخرة    شاهد بالصور.. المذيعة المغضوب عليها داخل مواقع التواصل السودانية "تسابيح خاطر" تصل الفاشر    المالية توقع عقد خدمة إيصالي مع مصرف التنمية الصناعية    أردوغان: لا يمكننا الاكتفاء بمتابعة ما يجري في السودان    مناوي .. سلام على الفاشر وأهلها وعلى شهدائها الذين كتبوا بالدم معنى البطولة    وزير الطاقة يتفقد المستودعات الاستراتيجية الجديدة بشركة النيل للبترول    أردوغان يفجرّها داوية بشأن السودان    بمقاطعة شهيرة جنوب السودان..اعتقال جندي بجهاز الأمن بعد حادثة"الفيديو"    اللواء الركن"م" أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: الإنسانية كلمة يخلو منها قاموس المليشيا    وزير سوداني يكشف عن مؤشر خطير    شاهد بالصورة والفيديو.. "البرهان" يظهر متأثراً ويحبس دموعه لحظة مواساته سيدة بأحد معسكرات النازحين بالشمالية والجمهور: (لقطة تجسّد هيبة القائد وحنوّ الأب، وصلابة الجندي ودمعة الوطن التي تأبى السقوط)    بالصورة.. رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس: (قلبي مكسور على أهل السودان والعند هو السبب وأتمنى السلام والإستقرار لأنه بلد قريب إلى قلبي)    إحباط محاولة تهريب عدد 200 قطعة سلاح في مدينة عطبرة    السعودية : ضبط أكثر من 21 ألف مخالف خلال أسبوع.. و26 متهماً في جرائم التستر والإيواء    الترتيب الجديد لأفضل 10 هدافين للدوري السعودي    «حافظ القرآن كله وعايشين ببركته».. كيف تحدث محمد رمضان عن والده قبل رحيله؟    محمد رمضان يودع والده لمثواه الأخير وسط أجواء من الحزن والانكسار    وفي بدايات توافد المتظاهرين، هتف ثلاثة قحاتة ضد المظاهرة وتبنوا خطابات "لا للحرب"    أول جائزة سلام من الفيفا.. من المرشح الأوفر حظا؟    مركزي السودان يصدر ورقة نقدية جديدة    برشلونة ينجو من فخ كلوب بروج.. والسيتي يقسو على دورتموند    شاهد بالفيديو.. "بقال" يواصل كشف الأسرار: (عندما كنت مع الدعامة لم ننسحب من أم درمان بل عردنا وأطلقنا ساقنا للريح مخلفين خلفنا الغبار وأكثر ما يرعب المليشيا هذه القوة المساندة للجيش "….")    "واتساب" يطلق تطبيقه المنتظر لساعات "أبل"    بنك السودان .. فك حظر تصدير الذهب    بقرار من رئيس الوزراء: السودان يؤسس ثلاث هيئات وطنية للتحول الرقمي والأمن السيبراني وحوكمة البيانات    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    غبَاء (الذكاء الاصطناعي)    مخبأة في باطن الأرض..حادثة غريبة في الخرطوم    رونالدو يفاجئ جمهوره: سأعتزل كرة القدم "قريبا"    صفعة البرهان    حرب الأكاذيب في الفاشر: حين فضح التحقيق أكاذيب الكيزان    دائرة مرور ولاية الخرطوم تدشن برنامج الدفع الإلكتروني للمعاملات المرورية بمركز ترخيص شهداء معركة الكرامة    عقد ملياري لرصف طرق داخلية بولاية سودانية    السودان.. افتتاح غرفة النجدة بشرطة ولاية الخرطوم    5 مليارات دولار.. فساد في صادر الذهب    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    الحُزن الذي يَشبه (أعِد) في الإملاء    السجن 15 عام لمستنفر مع التمرد بالكلاكلة    عملية دقيقة تقود السلطات في السودان للقبض على متّهمة خطيرة    وزير الصحة يوجه بتفعيل غرفة طوارئ دارفور بصورة عاجلة    الجنيه السوداني يتعثر مع تضرر صادرات الذهب بفعل حظر طيران الإمارات    تركيا.. اكتشاف خبز عمره 1300 عام منقوش عليه صورة يسوع وهو يزرع الحبوب    (مبروك النجاح لرونق كريمة الاعلامي الراحل دأود)    المباحث الجنائية المركزية بولاية نهر النيل تنهي مغامرات شبكة إجرامية متخصصة في تزوير الأختام والمستندات الرسمية    حسين خوجلي يكتب: التنقيب عن المدهشات في أزمنة الرتابة    دراسة تربط مياه العبوات البلاستيكية بزيادة خطر السرطان    والي البحر الأحمر ووزير الصحة يتفقدان مستشفى إيلا لعلاج أمراض القلب والقسطرة    شكوك حول استخدام مواد كيميائية في هجوم بمسيّرات على مناطق مدنية بالفاشر    السجائر الإلكترونية قد تزيد خطر الإصابة بالسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكَرْكَدي ما بِقوُمْ غَلَّة!
نشر في حريات يوم 13 - 10 - 2013


(1)
ضمن كلمة شائقة عن إسماعيل عبد المعين أشار د. كامل إبراهيم حسن إلى أن خليل فرح استلهم المقدِّمة الموسيقيَّة لأنشودته الخالدة "عازَّة في هواك" من مارش "ود الشَّريفي" العسكري المعروف، الأمر الذي قد يُفهم منه وقوع ذلك الاستلهام، ليس من ناحية الشَّكل فحسب، وإنما من ناحية المضمون أيضاً.
نشعت هذه الكلمة في ذاكرتي بعبق مناخات كنا عشناها، الحبيب الراحل عبد الهادي الصِّدِّيق وشخصي، خلال النصف الأوَّل من سبعينات القرن المنصرم، ضمن مشروع باكر لتحقيق ديوان الخليل بتكليف لنا من ابنه المرحوم فرح. وكان صديقنا الشاعر محمد المكي إبراهيم كثيراً ما يغشانا، أثناء ذلك العمل، حاثَّاً ومشجِّعاً. على أن المشروع سرعان ما انقطع بسبب نقل عبد الهادي إلى سفارة السودان ببيروت، ثمَّ اعتقالي، بُعَيْدَ ذلك، لمدَّة تطاولت. ولمَّا صعُب التكهُّن بميقات زوال تلك الظروف زارني فرح بالسجن مستبطئاً التحقيق، فاعتذرت له، ووجَّهت مكتبي بتسليمه المخطوطة، حيث حوَّلها إلى الرَّاحل المقيم علي المك الذي تولى إنجازها على أفضل ما يكون، بينما صاغ عبد الهادي، من مادَّة بعض قصائد الديوان التي كان استنسخها وحملها معه إلى بيروت، كتابه العذب "نقوشٌ على قبرِ الخليل".
استغراقنا في ذلك العمل، على قِصَره، حمَلَ إلينا معارف مدهشة الثراء، ويكفي أنه أخذنا، من حيث ندري ولا ندري، إلى دنياوات حدباي احمد عبد المطلب .. وما أدراك ما دنياوات حدباي الباذخة التي قد لا تبدأ من النهود، على شغفه بها، ولا تنتهي في الجَّيلي، على ما بينه وبين احمد الطريفي الزبير باشا من محبة أصبنا من طيبها جانب، بحمد الله، خلال نهارات الأنس اللطيفة التي لطالما قضيناها تحت ظلال راكوبته الفيحاء، يَحفُّنا النيل، وتحتوينا الخضرة، ويحلق بنا النسيم "على مخدات الندى"، تصحيفاً لبعض تراكيب طيِّب الذكر عمر الدوش الشِّعريَّة .. لا أروع ولا أمتع!
الشاهد أن حدباي والطريفي كانا من أخلص خلصاء الخليل، لذا لم يكن الأنس يحلو لأيٍّ منهما إلا بسيرته وفنه. بل إن أكثر ما كان يحيِّرنا أن حدباي، بالأخص، ما كان يطيق أن يحيد الكلام عن ذكر الخليل، قيد أنملة، حتى ولو إلى فن حدباي نفسه، وهو الشاعر المجيد، والمُغنِّي العذب الذي أنشد في زمانه: "الليلة كيفْ امسيتو يا مُلوك امْ دُرْ"، وروى لنا قصَّتها بعد تمنُّع من جانبه، وتضاحك من جانبنا، تماماً كمثيلاتها من قصصه اللواتي كان يقطعهنَّ بدفقات من الجِّدِّيَّة المباغتة:
"يا وليداتي خلونا نحكي عن خليل .. العُمُر ما فضل فوقو شي .. وانا ما قاعد ليكم"!
وحكى كثيراً. وحكى الطريفي كثيراً. أشياء أقلها للنشر، وجُلها ليس للنشر، رغم أن ثمارها مشاعة يتذوَّقها الغاشي والماشي! ألا لعنة الله على هذه "التابوهات" التي تعتقل أكثر التاريخ الاجتماعي لإبداعنا، وسوف تواصل اعتقاله، في ما يبدو، لزمن سوف يطول للأسف .. وكثيراً!
(2)
كان مِمَّا حدَّثنا به حدباي المقدِّمة الموسيقيَّة ل "عازَّة" الخليل، قال: كنا نسكن، هو وأنا، في منزل بالحي الكائنة فيه، الآن، كليَّة الصحَّة بالخرطوم. لكننا كنا كثيري الأسفار في أنحاء البلد؛ ما نكاد نستجمُّ من سفرة، حتى نقوم بأخرى، رغم أن الطرق والوسائل لم تكن ميسورة كما هي الآن. وفي ذات سفرة إلى الفاشر للمشاركة في الاحتفال بزواج أحد الأصدقاء سمعنا بنات الجلابة يغنين أغنية فوراويَّة قديمة، بذات ميلوديَّتها، ولكن بكلمات منقولة إلى عربيَّة هجين عن الأصل الذي كانت أنشأته، في لغة الفور، صبيَّة في ريعان الخامسة عشر أراد أبوها تزويجها من عجوز ثري، طمعاً في ماله، فصارت تنوح مستعطفة أمَّها:
"يا إيَّا
راعي ليَّا
في شانْ هَوَانْ دَاكْ نَمُوتْ بَلا دُرِّيَّة؟!
الكَرْكَدي ما بِقوُمْ غَلة
حِلوُنِي مِن جَقودْ
يا رُجالْ الله"!
انفعل الخليل كثيراً بالأغنية ، حكاية ومغزىً ولحناً، حيث بدا له التشابه كبيراً بين حالة الوطن ونواح تلك الصبيَّة! أترى كان مآل دارفور يهجس للخليل من فوق زهاء الثمانين سنة؟! و"جقود" تصغير لكلمة "جقد"، في معنى الشَّخص ضئيل الشَّأن، وهي لهجة في لغة الفور سالكة، أكثر شئ، في منطقة الفاشر، حسب ما أنبأني بذلك "الشَّرتاي" الكبير صالح محمود. وقد حدَّثتني سعاد إبراهيم احمد، مثلما أكد لي المرحوم علي دهب والمرحوم محمَّد وردي، من رءوس نوبيي الشَّمال وسدنة لغاتهم، أن هذه الكلمة موجودة، بذات معناها، في بعض اللغات النوبيَّة في أقاصي الشَّمال، مثلما هي موجودة، أيضاً، في بعض لغات نوبا الجِّبال بجنوب كردفان، فوقع ذلك عندي ضمن حُجَج الصلة القويَّة بين نوبيي الشَّمال، من جهة، ونوبيي الجِّبال، من جهة أخرى، وبعض المجموعات الإثنيَّة في دارفور من جهة ثالثة!
(3)
واستطراداً، حدَّثني علي دهب بأن صديقاً له بحَّاراً من نوبا الجِّبال اسم جدِّه لأبيه "أنجلو"؛ قال علي: وهذا اسم ذو أصل مسيحي، والمسيحيَّة لم تدخل الجِّبال إلا بعد العام 1910م، لذا احترت في أمره، فمضيت أتقصَّاه مع صديقي نفسه، ومع آخرين من كبار المنطقة، فتوصَّلت إلى اكتشاف في غاية الأهمِّيَّة والطرافة، إذ أن أصل الاسم ليس "أنجلو" كما كنت أظنُّ، وإنما "أنقاللو"، وهذا تعبير في لغة نوبة الشَّمال يعني "ولدي وين"؟! وبمزيد من التقصِّي تبيَّن لي أن بعض النوبيين الذين فرُّوا أمام جيش عقبة بن نافع توزَّعوا على مجموعتين: الأولى اتَّجهت من أقصى الشَّمال ناحية الشَّمال الغربي لتستقر بجنوب موريتانيا الحاليَّة؛ أمَّا الأخرى فاتَّجهت من منطقتي النوبة الوسطى والنوبة الجَّنوبيَّة ناحية الجَّنوب الغربي لتستقرَّ في أرض الميدوب وجبال كردفان التي باتت تُعرف بجبال النوبا في منطقة جنوب كردفان الحاليَّة. ولا تزال بعض القرى والمواقع في هذه المنطقة تحمل نفس الأسماء التي تحملها قرى ومواقع النوبيين في أقصى الشَّمال النيلي، كعبري وأرقين، مثلاً، فضلاً عن تزاوُج النوبة النازحين مع النوبا المحليين، وذوبانهم في هذه الإثنيَّة الهجين، وتلاقُح ألسنتهم مع ألسنة الجِّبال، فأضحى من غير النَّادر أن يقع المرء على ألفاظ وتعبيرات نوبيَّة في هذه أو تلك من اللغات النوباويَّة. من ذلك، والحديث ما يزال لعلي دهب، أن نوبا الجِّبال درجوا، بعدما جاءهم نوبة الشَّمال الأكثر تطوُّراً، على أن يبعثوا إليهم بأطفالهم يعيشون معهم لأغراض التربية والتعليم. لكن أولئك الأطفال سرعان ما كانوا يهرُبون، بدافع الحنين للأهل، فيلفون أنفسهم تائهين، يسألون الناس، من قرية لأخرى، أن يدلوهم إلى أهلهم، مستخدمين عبارة خطأ في اللغة "النوبيَّة" التي غالباً ما يكون الواحد منهم قد شرع في تعلمها للتَّو: "أنقاللو"، بمعنى "ولدي وين"، بدلاً من "أهلي وين"!
(4)
كرَّت مسبحة السَّنوات، وانهزمت ثورة 1924م، فاجتاح الخليل، بعد كلِّ تلك الأهازيج المفعمة بالأمل في الخلاص، والتفاؤل بالنصر المؤزَّر، حزن عميق أورثه داء ذات الرئة العُضال، فسافر إلى مصر للعلاج برفقه صديقه الحميم حدباي. وهناك اتفق للصَّديقين أن يسمعا، مجدَّداً، ميلوديَّة "يا إيَّا" العذبة، ولكن في سياق آخر! فقد كان الخليل غافياً، ذات ظهيرة، على فراش المستشفى بالقاهرة، حين مرَّت فرقة "الكشافة النوبيَّة" وهي تعزف بعض المارشات الحربيَّة. إنتبه الخليل، وأفاق متسائلاً:
"دحين يا حدباي دي ما غنية البت الفوراويَّة"؟!
فأرهف حدباي السَّمع حتى استطاع أن يستخلص الميلوديَّة الأساسيَّة من النوتة الحداثيَّة، فأمَّن على ملاحظة الخليل الذي ما لبث أن عاد للاغفاء تحت وطأة العِلة.
غادر الخليل المستشفى بعد أن تعافى شيئاً، وكان على موعد مسبق مع أرمنيٍّ يملك استديو ل "تعبئة" الأسطوانات كي يسجِّل له أغنية "عازة" قبل عودته إلى السُّودان. وكان بالاستديو بيانو يلعب عليه الخواجة نفسه. فصار الخليل يعزف الميلوديَّة الأساسيَّة للأغنية الفوراويَّة بالعود، ولكن حسب النوتة الحديثة التي كانت قد أعجبته عندما سمعها من فرقة الكشَّافة النوبيَّة، بعد أن عدَّل إيقاعها إلى ضرب من "التُمْ تُمْ" السُّوداني يشبه "الفالس" الغربي، وهذه معرفة أخذتها من محاضرة للأستاذ عوض بابكر، بينما أخذ العازف الأرمني يتابع الميلوديَّة على البيانو، حتى أتقن عزفها، فطلب الخليل تسجيلها كمقدِّمة للأغنية، ترجمة، من حيث المضمون ولا بُدَّ، للتشابه الذي كان يجده بين مأساتَي الوطن والصَّبيَّة الفوراويَّة!
وختم حدباي حكايته قائلاً: علمنا، بعد عودتنا إلى السُّودان، أن صول "المزيكة" في جيش الزبير باشا كان قد سمع الأغنية بعد دخولهم الفاشر، إثر انتصارهم على السُّلطان إبراهيم قرض في معركة منواشي، فأعجب بميلوديَّتها، وقام بإعادة توزيعها وتنويتها كمارش عسكري صار يُعرف، منذ ذلك الحين، ب "مارش ود الشَّريفي"، لكن بكلمات مغايرة:
"وَدَّ الشَّريفِي رايُو كِمِل
جيبوا ليْ شَايْلاتا
مِن دارْ قِمِرْ"!
وهكذا، فإن صول الموسيقى في جيش الزبير باشا استلهم أغنية الصَّبيَّة الفوراويَّة، شكلاً فقط، ليصيِّرها إلى "مارش ود الشَّريفي"، أحد أشهر مارشات القوَّات المسلحة السُّودانيَّة حتى اليوم، أمَّا الخليل فلم يستلهم مقدِّمة "نشيد الإنشاد السُّوداني" ذاك من "مارش ود الشَّريفي"، مضموناً، وفق الرِّواية الشَّائعة، وإنما شكلاً، فحسب، وفق النوتة الحديثة، في حين وقع استلهامه المضموني لتلك المقدِّمة من أغنية الصَّبيَّة الفوراويَّة .. شبيهة الوطن، وفق حدباي!
(5)
قبيل وفاة المرحوم فيصل سرور بقليل سمعت منه حديثاً أذهلني، تعقيباً على تعقيبي على كلمة كامل إبراهيم. قال فيصل: إن المقدِّمة الموسيقيَّة لأغنية "عازة" من وضع اسماعيل عبد المعين، الطالب، أوان ذاك، بمعهد فؤاد للموسيقى بالقاهرة، وكانا، هو والخليل، يتعارفان قبل ذلك في الخرطوم، وكان عبد المعين قد تعلم العزف على آلة العود، ابتداءً، على يد محمد تميم بود أرو بأم درمان، وأنه استوحى فكرة تلك المقدِّمة من الشَّيخ مرجان، شيخ "النوبة" ببحري. أما الأغنية نفسها فقد نسب فيصل تلحينها، عام 1928م، إلى والده العميد سرور، حيث قال إنه كان قد اتفق مع الخليل على أن يسافرا ل "تعبئتها" سوياً في أسطوانة لدى شركة الخواجة مشيان الأرمني، والتي تأتي في الأهميَّة بعد شركة أوديون مباشرة. على أن سفر سرور إلى كسلا، وتأخره في الحضور، بسبب اقترانه هناك بزوجته الثانية، حال دون سفره مع الخليل إلى القاهرة، أواخر 1929م ومطالع 1930م. وهكذا "عبَّأ" الخليل الأغنية وحده، بمصاحبة عبد المعين في العزف على العود، كما قام الخواجة مشيان نفسه بعزف المقدِّمة على البيانو. ومن باب الاستطراد، أيضاً، فقد "عبَّأ" الخليل، في اسطوانة منفصلة، أغنية "عَبْدَة" التي يقول عمر بن أبي ربيعة في مطلعها:
"أعبدةُ ما ينسَى مَوَدَّتَكِ القلبُ
ولا هو يسليهِ رخاءٌ ولا كربُ،
وَلاَ قَوْلُ وَاشٍ كَاشِحٍ ذي عَدَاوَةٍ
ولا بُعدُ دارٍ، إن نأيتِ، ولا قربُ،
وَمَا ذَاكِ مِنْ نُعْمَى لَدَيْكِ أَصَابَها،
ولكنّ حُبَّاً ما يقاربُه حُبُّ"
...…………………………
...…………………………
شحن مشيان الأسطوانتين إلى "مكتبة البازار" لصاحبها ديمتري البازار الذي كان يستورد الأسطوانات، ويعلن عنها في مجلة "الفجر"، ويقوم بتوزيعها في العاصمة لمن يملكون فونوغرافات من الأعيان وأصحاب المقاهي، كما يقوم بإرسالها بالقطارات إلى الأقاليم، ومن بينها القضارف. وتصادف، أثناء عودة سرور من كسلا إلى أم درمان برفقة زوجته الجديدة ووالدتها، أن توقفوا في أحد المقاهي بالقضارف لأخذ قسط من الرَّاحة، وهناك سمع أسطوانة "عازة"، لأوَّل مرَّة، من فونوغراف المقهى، فانتابته سورة غضب حادة، فاشترى من صاحب المقهى كلَّ النسخ التي بحوزته، وقام بتحطيمها جميعاً!
أيَّد عبد الله رجب واقعة تحطيم سرور لأسطوانة "عازة"، وإن كان قد حدَّد مكان وقوعها بسنجة، لا القضارف، بين عامي 1935م 1936م، بينما ترك سبب وقوعها كسؤال مفتوح بلا إجابة (مذكرات أغبش، ط 1، دار الخليج 1988م، ص 129).
أما واقعة تلحين سرور ل "عازة" فقد دحضها د. الفاتح الطاهر، مؤكداً أن الأغنية من ألحان الخليل، وكذلك مقدِّمتها الموسيقيَّة، وإن كان قد أورد أن الخليل اقتبس المقدِّمة من "مارش ود الشَّريفي"، واقتبس المطلع من أغنية "عمَّتي حوَّا" (أنا ام درمان: تاريخ الموسيقى في السُّودان، ط 1، الخرطوم 1993م، ص 37).
على أن ثمَّة رواية مغايرة تدحض رواية فيصل تماماً، وهي مستقاة من عدَّة مصادر قام بجمعها وتحقيقها صديقنا د. عبد الله صالح، الأستاذ المشارك في قسم التاريخ بكليَّة التربية بجامعة الخرطوم، وإن لم ينشرها بعد، لكنه أذن لي بإيرادها عنه هنا، وفحواها نسبة "عازة" للخليل، كلماتٍ ولحناً، فقد وضعها في القاهرة عام 1930م. وتصادف، في العام التالي، 1931م، أن سافر سرور، أيضاً، إلى القاهرة، برفقة الأمين برهان وكرومة. ولأن الأخير كان قد سبق صاحبيه ب "تعبئة" أسطواناته عام 1929م، فقد كان هدف الرِّحلة "تعبئة" أسطوانات سرور وبرهان أيضاً. وبالفعل أنجزا هذان المهمَّة بمرافقة كرومة ككورَس. وبعد أن "عبَّأ" سرور أكثر من عشر أسطوانات، من بينها "متى مزاري"، و"سيدة وجمالها فريد"، و"إجلي النظر يا صاحي"، و"برضي ليك المولى الموالي"، وغيرها من أعماله الخالدة، عرض عليه الخليل "تعبئة" أغنية "عازة"، أيضاً، بصوته، فوافق. غير أن سرور أجرى تعديلاً على اللحن لم يعجب الخليل، فغضب سرور، وغادر إلى الإسكندرية دون أن "يعبِّئ" الأسطوانة!
والحقيقة أن الفنانين العظيمين لم يكونا، أصلاً، على وفاق؛ وكان الناس يتداولون، حتى قبل ذلك، رأي الخليل الذي لم يكن يخفيه بتفضيل برهان وكرومة وإبراهيم عبد الجَّليل على سرور، وردِّ الأخير بقوله: "وانت غُناكْ شِنْ الغُنا .. لا فيهو فَدْعَة، ولا هَدْعَة، ولا رَنْعَة، ولا قودَة"، كناية عن خلوِّه مِمَّا يلهم رقص "السَّباتة"! ولما كان ذلك كذلك فإن الخليل لم يسع، قط، لاسترضاء سرور، بل قابل غضبته باستهانة، متبعاً نصيحة صديقه توفيق احمد البكري، أحد مثقفي تلك الحقبة، بأن "يعبِّئ" أسطوانة "عازة" بصوته؛ فبات سرور كارهاً لها، قولاً واحداً، مِمَّا قد يرجِّح واقعة تحطيمه إيَّاها، وفق روايتي فيصل وعبد الله رجب، على بُعد الشُّقَّة بين القضارف وسنجة!
أما في ما يتصل بالمقدِّمة الموسيقيَّة فليس ثمَّة خلاف يُذكر بين هذه الرِّواية ورواية حدباي، اللهم إلا في شأن من نفذها على البيانو، إذ تشير هذه الرِّواية إلى أنه ليس الخواجة مشيان، وإنما أحد أقاربه واسمه ميشو.
بقي أن نشير إلى أن حديث فيصل كان أثناء سهرة رمضانيَّة لطيفة قضيناها حتى مطلع الفجر، مرتضى الغالي وعبد الله صالح وشخصي، في بيته بود أرو بأم درمان، مساء الجمعة 28 سبتمبر 2007م، واستمعنا خلالها إلى أسطوانات سرور وبرهان وكرومة، وغيرها من أسطوانات الحقيبة الأصليَّة القديمة، على فونوغراف ماركة "صوت سيده His Master's Voice" كان مملوكاً لسرور شخصيَّاً!
***


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.