ضاقت مجموعة (التضامن النيلي) المهيمنة علي مقاليد الأمور في الدولة و الحزب معا بالدكتور غازي صلاح الدين العتباني ذي الحضور البيِّن في حزب المؤتمر الوطني فأقصته من دائرتها مما جعله يصرح بإنشاء حزب و لكن هل يملك الدكتور العزيمة التي تمكنه من تنفيذ ما أعلن و هو بدا كافرا بالأيدلوجية و هل يجد من الأحزاب حليفا، و يلقي من الشعب ترحيبا و تشريفا، و هل يضمن إخلاص متبعيه وأي وقاية له من كيد مبعديه. لقد قعدت الأحزاب السودانية التي تقيم علي عجز سياسي متطاول عن تحقيق التطور السياسي المفضي إلي إرساء قواعد الحكم الراشد؛ و يبدو أن المثقفين السودانيين من (غزية) فلم يرشدوا – كنخبة – إلي رؤي تعرج بالفعل السياسي إلي مدارج الاستقرار و التنمية، وظلوا يخوضون في وحل التشاكس الذي انتهي بالسودان إلي (مشاكوس)؛ إذ ينتظم المثقف في سلك أحد تلك الأحزاب العاجزة – طائفية أو عقائدية كانت – فتنال منه أغلال الالتزام الحزبي فيشهد بوار أطروحاته و يدرك عجزه عن تحقيق طموحاته، و تبلغ به المحنة مدي يصبح أمام خيارين أحلاهما مر؛ فإما أن يسلم قياده لزعامة الحزب و يكرس نشاطه السياسي إرضاءا لها بغية حقيبة استوزار أو مقعد مستشار؛ و إما أن يعتزل طائفته و يلوذ بأخري ربما منّته بقبولها له نكاية في أختها لا لتهييء له مناخا أفضل يستنبت فيه رؤاه فيقع في أسر فكري جديد فيصبح كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ و الدكتور غازي ليس بدعا من ذلك فقد شب و شاب في كنف الحركة الإسلامية بزعامة الدكتور الترابي و أبلي فيها نضالا بالسنان و منافحة باللسان و لما أستولت حركته علي عرش السلطان، تسنم العتباني مواقع بشأنها لا يستهان، حتي ساقته السياسة إلي منعرج "مذكرة العشرة" التي أقصت بها مجموعة التضامن النيلي شيخها الذي رأت أنه يأطرها أطرا علي ما لا تهوي بمحاولته إرساء الفدرالية، التي رأت أنها ستنقص مما تناله بتكريس المركزية، و اتخذت سبيلها سربا إلي الدكتاتورية، مرقعة دثار الإسلام بخرق جهوية، فوجد غازي نفسه غريبا بين تلك العصبة النيلية، التي سفهت مقارباته "الإصلاحية"، فلما أبدي غازي من ذلك المسلك عجبا، أخرجه النفر الذي غلبا، فصرح عن إنشاء حزب ربما لن يستطيع له طلبا. ربما اعترت المرء حيرة من تصريح العتباني عن نبذه الأيدلوجية للحد الذي يجعله يقول: (نحن لا نؤمن بالايدلوجيات وهي مقيدة جداً، وهي مشوهة للواقع كما يقال …) ذلك القول يدفع المراقب إلي اعتباره إحدي العقبات التي يضعها غازي نفسه في سبيل إنجاح مسعاه و يثير الشك في مبدئية قائله الذي أفني سني عمره في إطار الأيدلوجية حتي إن قال ذلك زراية بخصومه و تبرءا منهم و استعطافا للأحزاب كسبا لودها و طمعا في حلفها فهي لن ترضي عنه إلا مظنة تقليل سواد عدوهم كخطة مرحلية كما تملي للترابي إلي أن يحين يوم الحساب؛ مهما يكن من أمر فإن هجاء الدكتور اليوم للأيدلوجية يفقده الصدقية أكثر مما يكسبه و يكون بداية الطريق إلي الانهزام الذاتي. و علي صعيد الكسب الجماهيري لن يكون للعتباني كثير حظ في مجتمع لا تزال ولاءاته ترتكز علي العصبية القبلية و الانتماءات الطائفية و التكتلات الجهوية التي ليس لغازي – ابن الأيدلوجية التي يعلن التخلي عنها و رجل التنطيم الصفوي الذي فارقه – أدني نصيب من كل ذلك و كان الأحري بالعتباني التحلي بقدر أكبر من الشجاعة للاعتذار للشعب عما كسبت يداه و هو في صف الفئة التي أذاقتهم أشد العذاب؛ و ربما أجدي له العودة إلي صف الترابي لأن المصائب يجمعن المصابين؛ خاصة و أن غازي لن ينفك من القالب الفكري الذي شب عليه و لن يأتي بما لم تستطعه الأوائل في حزبه الجديد. و الأمر الذي يجب ألا يغفل عنه من يتناول فرص صمود حزب الدكتور العتباني في المعترك السياسي السوداني "الغائم" ألا و هو ما مدي إخلاص من يزعم أنهم قد اتبعوه من عضوية الحزب الذي أخرجه و قدرتهم علي تكبد و عثاء الطريق السياسية و مثار نقع معاركها؛ ذلك لأن التجربة الماثلة من "المفاصلة الكبري" التي أوجدت المؤتمر الشعبي لم تمض الأيام حتي تبدلت الولاءات و ثاب كثير ممن ذهبوا مع الترابي إلي المرتع الخصب الذي لا يتأتي للمؤتمر الشعبي في ظل هيمنة سيف التضامن النيلي و ذهبه. و لنختم القول بتناول أم العقبات في سبيل نجاح الدكتور العتباني في مستقبل سياسي مزهر تحت وطأة من أخرجوه، و جاءت الأخبار بأنهم قد بدأوا تخويف أي إعلامي يجرؤ علي إجراء لقاء معه و تهديد إي منبر إعلامي يفسح له مجالا لكشف أسباب إبعاده عن حزبه لأن النظام يعتبر ذلك اصطفافا مع الدكتور العتباني لترويج أفكاره و التبشير لدعوته. و في آخر المطاف ربما لا يكون مصيرالعتباني السياسي – إن حسن – بأفضل من مصير الترابي لو وقي مآل بولاد وخليل و من كانوا يوما ذوي قدر جليل، في ساحة الحركة الإسلامية السودانية التي انتهت إلي إقطاعية بيد العصبة النيلية التي لا تؤمن إلا بأن "السيف أصدق إنباءا من الكتب" فهي لن تفرط فيما حازته من قوة و لا تشرك غيرها في أمر هي ماضية فيه تحدوها مطاماعها و تحثها مخاوفها.