سيف الحق حسن خرج الإمام أحمد في مسنده عن التابعي يزيد بن بابنوس، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة- أي الدواوين التي تكتب فيها الأعمال-: ديوان لا يبالي الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله تبارك وتعالى. فأما الديوان الذي لا يبالي الله به شيئا تقصير العبد في حق نفسه في عبادة لله عز وجل من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فهو ما بين العباد من ظلمهم بعضهم لبعض، فالقصاص لا محالة. وأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله. قال تعالى ((من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة)) [المائدة: 72]؛ ((إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما)) [النساء: 48]). سبحان الله، فمن هذا الحديث الموجز والخطير جدا، يتضح لنا فهما جديدا عكس ما وقر في سلوكنا الإيماني الذي أدى بنا إلى التدين المغشوش أو المنكوس كما يسميه الإمام الغزالي. فالأشياء التي يريدنا الله أن نأتي منها ما استطعنا و بلا يكلف الله نفسا إلا وسعها نتشدد فيها جدا ونردد فيها التهديد والوعيد والتخويف للمقصرين كالصلاة في جماعة وحلقات القرآن – وهذا شئ جيد بالتأكيد- ولكن بمقابله تجد معه عدم الإكتراث في تعاملاتنا والتواصي بالحق فيها. فهذا يكذب على ذاك، وهذا يغتاب هذا ويقطع ويقذف تلك، وذاك يأكل حقوق هؤلاء ويسرقهم،.. ويؤذي الناس ولا يبالي بل ويحل سفك دماء غيره ببساطة. فإذا حضرت الصلاة كانوا أول المتوضئين والواقفين في الصفوف الأمامية، وفي أي مناسبة دينية كانوا أول الصائمين والقائمين. وإذا حضر الحج كانوا اول الحاجين ويحافظون على الهيئات ويقولون إن الله غفور رحيم، ولا يدري أحدهم إن أعمالهم هذه في ديوان لا يمحى الله ما كتب فيه إلا القصاص، مهما كان، سواء في الدنيا أو الآخرة. وإذا أردنا ان نحلل دواوين الأعمال الثلاثة، فالديوان الذي لا يغفر الله ما فيه يمكن أن نسميه ديوان العقيدة والإيمان. واما الديوان الذي لا يعبأ الله به يمكن ان نسميه ديوان العبادة الفردية والتي لا تعود بالنفع وضررها إلا على صاحبها، مع العلم بأن الله جل وعلا غني أساسا عنا وعن عبادتنا له. أما الديوان الأخير يمكن أن نسميه ديوان المعاملة أو العبادة الجمعية. وبما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يخاف علينا الشرك، كما جاء في حديث (إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم)، فإن الديوان المهم هو !ذاً ديوان المعاملة. و لذلك لخص لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدين في حديث مبسط آخر وهو بأن (الدين المعاملة). ولنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة في حرصه على خلو صحيفته من أذية الناس بالقصاص من نفسه في الدنيا ليلقى الله نظيفا. ففي غزوة أحد نغز رسول الله سواد بن عزيّة بسواكه فقال له: (إستو يا سواد). فقال سواد: لقد أوجعتني يا رسول الله. فما كان منه إلا أن كشف عن بطنه الشريفة وقال له: (إقتص يا سواد). و عدم صلاته على الميت الذي لم يؤدي دينه تفسر لنا عظم حق الناس، ولو كان دينا. فربما كان صاحب الدين ذاك آكلا لحق غيره. والتعاملات تمتد حتى للحيوانات، كما في الحديث عن إمرأة بغي دخلت الجنة في كلب سقته، وأخرى عابدة دخلت النار في هرة حبستها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض. ويجب أن لا ننسى ان القرآن يقرن دوما الإيمان كعبادة بالعمل الصالح، ((والذين آمنوا وعملوا الصالحات)). وفي الحديث القدسي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلي الله عليه وعلى آله وسلم ، فيما يرويه عن رب العزة تبارك وتعالى، أنه قال: (يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما؛ فلا تظالموا……. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فأستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي! لو أن أولكمم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي! لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا علي أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي! لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). ولذلك فالتدين السليم ليس بكثرة العبادة الفردية ولو كانت مثل زبد البحر، بل بكثرة العبادة الجمعية أوعبادة المعاملة التي بها يجب أن يكون ديوان المعاملات خاليا من التعدي و ظلم خلق الله، ومسارعا في الإحسان. فأقرب طريق لرحمة الله هو رحمة الخلق والتعامل بالقسط. وبالإزاء أقصر طريق لغضب الله وسخطه ومقته وعذابه هو ظلم العباد. ونختم بقول الشاعر الموصلي ابن الحلاوي: كن كيف شئت فإن الله ذو كرم وما عليك إذ أذنبت من بأس إلا أثنتين فلا تقربهما أبدا الكفر بالله والإضرار بالناس